ترجمة وتحرير: نون بوست
لجأ فلاديمير بوتين إلى التهديد بالسلاح النووي في خضم الأزمة التي تسبب فيها غزوه لأوكرانيا، سواء كان ذلك بسبب الإحباط السياسي أو الغرور العسكري. اتخذت حرب بوتين أبعادًا عالمية، على الرغم من أن الأوكرانيين هم وحدهم الذين يواجهون القوات الروسية على أرض الواقع. وفي البيان الذي أعلن فيه عن غزو أوكرانيا الأسبوع الماضي، صرح الزعيم الروسي محذرًا بقية دول العالم بلهجة تهديدية “كل من يحاول التدخل ينبغي أن يعلم أن رد روسيا سيكون فوريًا وسيقود إلى عواقب لم يشهدها من قبل في تاريخه”، مؤكدًا أن روسيا “أضحت اليوم من إحدى أقوى الدول النووية”.
ذهب بوتين إلى أبعد من ذلك يوم الأحد في اجتماع مثير للريبة مع وزير دفاعه سيرغي شويغو والاستراتيجي العسكري الجنرال فاليري جيراسيموف. جلس بوتين على رأس طاولة طويلة ليجتمع بقادته الذين يجلسون في الطرف البعيد، وقد أمرهم بوضع القوات النووية الروسية في “في حالة تأهب”. إنه مصطلح غير تقليدي، لكنه يعني أن بوتين يريد أن تكون أخطر الأسلحة في العالم جاهزة للإطلاق المحتمل – أو يريد على الأقل أن يعتقد العالم ذلك.
يبدو أن إدارة بايدن لم تقع في الفخ الذي نصبه بوتين وذلك ما يمكن فهمه من الرد الفاتر على استفزاز موسكو الأخير. وفي إجابته على سؤال طُرح عليه يوم الإثنين عما إذا كان ينبغي على الأمريكيين القلق بشأن الحرب النووية، قال بايدن بصراحة: “لا”. ولم تُغيّر الولايات المتحدة وضعية قواتها النووية ولم ترفع مستوى التأهب. كما أوضحت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين بساكي “لدينا القدرة على الدفاع عن أنفسنا”. وأشار مسؤول رفيع المستوى في البنتاغون إلى أن واشنطن لا تزال “تشعر بالراحة ولديها ثقة في خطتها الردعية الاستراتيجية”. ومن جهته، أوضح وزير الدفاع البريطاني بن والاس أن تهديد بوتين طريقة لتشتيت الانتباه هدفها الأساسي إثارة ذعر الغرب.
يُقدَّر أن روسيا تملك حوالي ستة آلاف رأس حربي نووي. ومعظم القنابل الروسية والأمريكية أقوى بعشر مرات – من حيث القدرة التفجيرية – من القنابل التي قصفت بها هيروشيما وناغازاكي
إن قرع بوتين طبول الحرب النووية يبدو أشبه بخدعة ملحمية هدفها تشتيت انتباه العالم وتخويف قادته. لكن هذا التكتيك يعكس ضعفه بدلاً من إبراز مدى قوته، لاسيما بعد الأداء المتواضع لجيشه. ويعتقد مايكل ماكفول، سفير الولايات المتحدة السابق لدى روسيا، أن “بوتين ما كان ليقول هذه الأمور لو أن الحرب تسير بشكل جيّد”. مع ذلك، نجحت تحذيرات بوتين المتكررة بشأن الأسلحة النووية في إعادة هذا الموضوع فجأة إلى الوعي العام بعد عقود من الافتراضات بأن التهديد النووي انتهى مع تفجير القنبلة النووية الأولى في سنة 1945 والنهاية الظاهرية للحرب الباردة في 1989.
أصبحت روسيا أكثر عدوانية في أعقاب قرار بيلاروسيا في كانون الأول/ ديسمبر (تمت الموافقة عليه الأسبوع الماضي) بتنقيح دستورها والسماح لروسيا بنشر أسلحة نووية تكتيكية داخل البلاد المتاخمة لأوكرانيا وأيضًا ثلاثة أعضاء في الناتو – بولندا وليتوانيا ولاتفيا. وفي سؤاله عما إذا كان العالم يعيد إحياء العصر النووي، أجاب داريل كيمبال، المدير التنفيذي لرابطة الحد من التسلح في واشنطن: “لم نخرج من ذلك العصر قط، وإنما نعيش مرحلة جديدة”.
هناك نحو 13 ألف سلاح نووي على كوكب الأرض تتبع ترسانات تسع دول. وقد تراجع هذا الرقم بنسبة 80 بالمئة منذ انتهاء الحرب الباردة، لكن النظام العالمي اليوم للحد من الترسانات النووية ومنع انتشارها يشهد “حالة فوضى”، على حد تعبير كيلسي دافنبورت المتخصصة في الحد من الأسلحة النووية. وفي الواقع، يتزايد تهديد خوض دول العالم سباق تسلح نووي جديد. وحسب تقديرات البنتاغون، من المحتمل أن تمتلك الصين ألف قنبلة نووية بحلول سنة 2030، ناهيك عن سباق التسلح النووي بين الهند وباكستان. ووفق بعض التقديرات، من المحتمل أن كوريا الشمالية تصنع ما يصل إلى ستين سلاحًا نوويًا.
وفقًا لرابطة الحد من الأسلحة، تسيطر الولايات المتحدة وروسيا على 90 بالمئة من جميع القنابل النووية، ويُقدَّر أن روسيا تملك حوالي ستة آلاف رأس حربي نووي. ومعظم القنابل الروسية والأمريكية أقوى بعشر مرات – من حيث القدرة التفجيرية – من القنابل التي قصفت بها هيروشيما وناغازاكي وأسفرت عن مقتل حوالي 214 ألف شخص بحلول نهاية سنة 1945، وذلك وفقًا لرابطة الحد من الأسلحة. في سنة 1981، سافرت رفقة البابا يوحنا بولس الثاني إلى المدينتين اليابانيتين وزرنا المستشفى الواقع على تل الرحمة في ناغازاكي حيث لا يزال الناس يموتون من السموم الإشعاعية النووية – حتى بعد خمسة وثلاثين عامًا. ويؤكد كيمبال أنهم “ما زالوا يعانون ويموتون كل يوم”.
دفعت الأزمة الأوكرانية بالفعل معظم العالم إلى حافة الهاوية، حيث قام الناتو بتنشيط قوة الرد السريع – التي تضم حوالي أربعين ألف جندي- كإجراء دفاعي
وصف المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس تعليمات بوتين المتعلقة بالأسلحة النووية بأنها “استفزازية” مشيرًا إلى أنه “من المحتمل أن يُساء تقديرها”. هذه هي المشكلة، بالنظر إلى سلوك بوتين غير العقلاني في أوكرانيا الذي يتحدى القوانين الدولية وحكمته التقليدية في القرن الحادي والعشرين وسياساته السابقة. بعد أن عقد بوتين وبايدن قمة في جنيف في حزيران/ يونيو، أصدرا بيانًا مشتركًا أعادا من خلاله التأكيد على أهمية الحل السياسي الذي يعود إلى المفاوضات بين رونالد ريغان وميخائيل غورباتشوف في سنة 1985. و مرة أخرى، أعاد الرئيسان الحاليان للولايات المتحدة وروسيا التأكيد على أنه “لا يمكن كسب أي حرب نووية وينبغي تجنب خوضها”.
يوم الأحد، افتتح ديمتري كيسيليف، المسؤول عن دعاية الكرملين منذ فترة طويلة والمعروف بأنه أحد أكثر الشخصيات إثارة للجدل على التلفزيون الروسي، برنامجه التلفزيوني الحكومي بحوصلة حول الترسانة النووية الروسية قائلا “غوّاصاتنا إجمالًا قادرة على إطلاق أكثر من 500 رأس نووي، وهي مضمونة لتدمير الولايات المتحدة وجميع دول الناتو التي تستعد لمهاجمتنا. هذا يخضع لمبدأ لماذا نحتاج إلى عالم إذا لم تكن روسيا فيه؟ لن نتحدث حتى عن قوة الصواريخ الاستراتيجية. فقد حذرهم بوتين. لا تحاولوا تخويف روسيا”.
إن بيان بوتين – الذي بدا مُصممًا على الضغط على الغرب أو إجباره على البقاء خارج أوكرانيا – محمّل بالكثير من المخاطر. أخبرني كيمبال أنه “على الرغم من النوايا الحسنة، نحن في وضع يمكن أن يحدث فيه سوء تقدير وتصعيد، كما أن رفع بوتين مستوى تأهب قواته أمر محفوف بالمخاطر للغاية”.
لقد دفعت الأزمة الأوكرانية بالفعل معظم العالم إلى حافة الهاوية. يوم الجمعة، قام الناتو بتنشيط قوة الرد السريع – التي تضم حوالي أربعين ألف جندي- كإجراء دفاعي. ويوم الأحد، حثّ الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ بوتين على خفض التصعيد خلال مقابلة أجراها على شبكة “سي إن إن”، بقوله “إن جمع هذا الخطاب مع التحركات الميدانية في أوكرانيا، وشن حرب ضد دولة مستقلة ذات سيادة، وغزو كامل لأوكرانيا، يزيد من خطورة الوضع وتعقيده”.
بعد أن أصبح منبوذًا، لجأ بوتين إلى خطاب الرجل القوي الذي وجهه لكل من الجماهير المحلية والأجنبية
ربما يشعر بوتين بالقلق بعد أن فشلت قواته في الاستيلاء بسرعة على العاصمة كييف، على عكس توقعاته. خلال حملة دعائية، نشرت وكالة الأنباء الروسية “ريا نوفوستي” مقالاً يوم 26 شباط/ فبراير – بعد يومين فقط من الغزو الروسي – احتفالاً بانتصار عسكري روسي ورد فيه ما يلي: “لن تكون هناك أوكرانيا معادية لروسيا بعد الآن وهذا لا يعني أنه سيتم تصفية دولتها وإنما سيتم إعادة بنائها وإعادة تأسيسها وإعادتها إلى وضعها الطبيعي كجزء من العالم الروسي”.
في الحقيقة، عكس هذا المقال نية بوتين المبيّتة في أوكرانيا: فالحرب تدور حول تنافسه مع الغرب بقدر ما تدور حول من يحكم أوكرانيا. كما ورد في مقال وكالة “ريا نوفوستي” أن “بقية العالم يرى ويفهم جيدًا تمامًا أن هذا الصراع بين روسيا والغرب، ورد على التوسع الجيوسياسي للناتو. ستُمكن هذه الحرب روسيا من استعادة مجالها التاريخي ومكانتها العالمية”. ولكن من المفارقات أن غزو بوتين قد ولّد وحدة أكبر في الغرب – وخلق دعمًا أكبر لحلف الناتو – أكثر من أي وقت مضى منذ انهيار الاتحاد السوفيتي قبل ثلاثة عقود.
استهجنت حاشية بوتين تحركات الغرب. ويوم السبت، هدد الرئيس الروسي السابق دميتري ميدفيديف بأن روسيا قد تنسحب من معاهدة الحد من الأسلحة الاستراتيجية الجديدة التي تم توقيعها في سنة 2010 ووافق بوتين وبايدن على تمديدها في سنة 2021 – والتي كانت آخر اتفاقية أسلحة رئيسية بين البلدين. كما أوضح على مواقع التواصل الاجتماعي أن روسيا لم تعد بحاجة إلى علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة وحلفائها مشيرا إلى أنه “قد حان الوقت لإغلاق السفارات ومواصلة مراقبة بعضنا البعض من خلال المناظير وتوجيه الأسلحة النارية”.
بعد أن أصبح منبوذًا، لجأ بوتين إلى خطاب الرجل القوي الذي وجهه لكل من الجماهير المحلية والأجنبية. وقد أوضح غوستاف غريسيل، زميل السياسة البارز في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، أن بوتين كان يأمل التأثير على الرأي العام وعملية صنع القرار السياسية في البلدان الأخرى. وأضاف أنه “لا توجد أداة أخرى متاحة في يد بوتين لتغيير هذا الواقع سوى استغلال مخاوف الأوروبيين من اندلاع حرب نووية. إنه يتبع سياسة حافة الهاوية، لا أكثر”.
المصدر: نيويوركر