في بازل السويسرية عام 1897، كشف زعيم الصهيونية ثيودور هيرتزل النقاب عن المخطط الصهيوني الذي حيك طويلًا في أروقة السياسة، لا سيّما في الدول الأوروبية الشرقية، وبنى مخططه على أساس “هجرة ضخمة لليهود إلى أرض يمكن لهم أن يعتبروها ملكًا لهم”، وهو ما مهّد له في العام السابق لمؤتمر بازل حين أصدر كتابه “دولة اليهود”.
على رؤية هيرتزل والحركة الصهيونية، بدأت قيادات الحركة باستقدام اليهود من مناطق العالم المختلفة، عازفين على وتر “المذابح اليهودية” التي كانت في أوجها حينها، وهو ما دفع هيرتزل نفسه إلى التوجه إلى كيشينف الروسية (كيشيناو عاصمة مولدوفا حاليًّا) عام 1903، لإقناع عشرات آلاف اليهود بالهجرة من أوروبا إلى فلسطين، وكان الشعب الذي يملك، والذي حصل على ما لا يستحق.
وخلال الحرب العالمية الثانية وصل إلى فلسطين نحو 55 ألف مستوطن، حيث كان الأسطول البريطاني مكلّفًا بإرشاد سفن المستوطنين وإمدادهم بالماء والتموين والوقود وقيادتهم إلى السواحل الفلسطينية، إلى جانب ذلك دخل الأراضي المحتلة من المستوطنين بين عامَي 1940 و1948 نحو 120 ألف يهودي، ومع انتهاء فترة الانتداب البريطاني كان عدد اليهود قد وصل إلى 625 ألفًا، أي ما يقارب ثلث السكان في الأراضي الفلسطينية.
بدأت الحركة الصهيونية ببذل جهود كبيرة لتسهيل وتكثيف الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وأصدرت عام 1950 “قانون العودة” الذي ينصّ على أن “لكل يهودي الحق في العودة إلى البلاد كيهودي عائد”، وتكون الهجرة بتأشيرة مهاجر، كما صدر قانون الجنسية الإسرائيلية عام 1952، والذي ينص على إعطاء الحق لكل يهودي يهاجر إلى “إسرائيل” بالحصول على الهوية الإسرائيلية بمجرد دخوله دولة الاحتلال.
الحرب الروسية الأوكرانية: إبراز مطامع الهجرة
مؤخرًا، مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، قال رئيس وزراء الاحتلال نفتالي بينيت إن “إسرائيل” تتعهّد بمد يد المساعدة في أي مساعدات إنسانية مطلوبة، مشددًا على أن “كل يهودي ويهودية، في كل مكان في العالم، يعرفون تمامًا أننا ننتظرهم هنا وأن باب دولة “إسرائيل” مفتوح دائمًا”، تبعه حديث لوزير خارجية الاحتلال يائير لابيد الذي أفصح عن وجود “حوالي 180 ألفًا (من اليهود الأوكرانيين) يحقّ لهم الحصول على قانون العودة”، على حد قوله.
فضلًا عن ذلك، يروي صحفيون فلسطينيون رأوا خلال تغطيتهم الحرب على حدود الدول المحيطة، كبولندا، عناصر إسرائيليين من الوكالة اليهودية، تسأل المهاجرين الأوكرانيين إذا ما كانوا يهودًا أم لا، وذلك لاستقطابهم إلى الأراضي المحتلة، مستغلين المعركة الدائرة في موطنهم الأصلي.
موظف بسفارة الاحتلال الإسرائيلي حاطط كرسي بنص ممر مخرج المسافرين من أوكرانيا إلى بولندا..
وحرفيا بيسأل كل شخص إذا كان إسرائيلي حتى يتم نقله لباصات مخصصة على شمال الصورة وثم إلى فلسطين المحتلة.. pic.twitter.com/hvnOD9Nhol
— Muath Hamed (@MuathHamed) February 24, 2022
لا يقتصر الأمر على استغلال الحرب للهجرة، بل كشفت صحيفة “يديعوت أحرنوت”، نقلًا عن قسم الاستيطان الإسرائيلي في المنظمة الصهيونية العالمية، عن بدء تحرك لإنشاء 1000 وحدة سكنية استيطانية جديدة لاستيعاب اليهود الفارّين من أوكرانيا، وبحسب الصحيفة فإن الخطط رُسمت قبل أسابيع من اندلاع الحرب.
وبينما يشهد النقب احتجاجات ومحاولات تهجير وهدم بيوت، تتضمن الخطة الاستيطانية مباني سكنية بمساحات مختلفة تتراوح بين 55 مترًا و90 مترًا، سيتمّ استخدامها كمجمعات لاستيعاب المهاجرين اليهود الجدد، وستقام المباني في مناطق قرب الحدود الشمالية في النقب، وادي عربة، وادي الينابيع بالقرب من بيسان وفي وادي الأردن.
تأتي هذه الهجرة بأعداد كبيرة اليوم من مناطق النزاع، بعدما سجّل عام 2021 ارتفاعًا حادًّا في معدل الهجرة بنسبة زيادة وصلت إلى 30% عن عام 2020 بشكل عام، ووفق صحيفة “إسرائيل اليوم” وصل 27,500 مستوطن إلى الأراضي المحتلة العام المنصرم.
استقدام المستوطنين.. افتعال الأزمات
لم تنتظر “إسرائيل” أن تحدث أزمات في العالم لاستقدام المستوطنين إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، بل بادرت هي إلى خلقها، لإشعار اليهودي أن المنطقة التي يتواجد فيها غير آمنة عليه، ولا بدَّ من الهجرة إلى المنطقة “الأكثر أمنًا”، مع مَن هم مِن جنس عقيدته، إلى الأرض المسلوبة في فلسطين.
وعلى هذا المبدأ تأسس الموساد الإسرائيلي، الاسم العبري الذي يعني “منظمة الهجرة غير الشرعية”، والذي يعمل بشكل أساسي على استقدام المستوطنين، إلى جانب دوره في الاغتيالات ورسم سياسة الاحتلال الخارجية، وتنفيذًا لهدفه الأول قام الموساد بخلق أحداث وتفجيرات في كُنس اليهود في الدول ذات التجمع لها كالعراق واليمن، ومن ثم عرض عليهم طائراته لنقلهم إلى “إسرائيل”.
وتعدّ “عملية عزرا ونحميا” ما بين عامَي 1949 و1951 من أوائل وأبرز عمليات الموساد في استقدام اليهود من الأراضي العراقية، قبل أن يرسل الموساد عناصره إلى العراق لبثّ سموم الحركة الصهيونية، وحمل اليهود على الهجرة إلى “إسرائيل”، حينها كان هناك 134 ألف يهودي يعيشون في العراق، لكن هذا العدد سرعان ما انخفض بعد أن بدأت “إسرائيل” تنفيذ عملية “عزرا ونحميا”، وقد غادر فيها 96% من يهود العراق جوًّا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
وبين عامَي 1950 و1951 وقعت عدة تفجيرات طالت كنيسًا يهوديًّا في بغداد وشركات متاجر ومحلات لليهود، وقد أظهرت الأحداث بعد ذلك بقليل أن عملاء الموساد هم المسؤولون عن الانفجارات، إذ وجدت الشرطة العراقية كمية من الأسلحة في كنيس يهودي في بغداد.
ومنذ ثمانينيات القرن الماضي، هاجر أكثر من 100 ألف يهودي إثيوبي إلى “إسرائيل” في إطار عدة عمليات، إلا أن أهمها “عملية سليمان” في مايو/ أيار 1991، وذلك عند سقوط نظام منغيستو هايلي ميريام، ما سمحَ بنقل 20 ألف شخص إلى الأراضي المحتلة خلال 36 ساعة فقط.
اليوم، وبعد 125 عامًا من مؤتمر بازل، وتأسيس الوكالة اليهودية والمنظمة الصهيونية، ما زال الاحتلال الإسرائيلي كدولة مزعومة، يستقدم اليهود من شتى أنحاء العالم، مستغلًّا الحروب والأزمات المتواطئ بها قصدًا أو عن غير قصد، مبررًا ذلك بأن “العالم مكان خطر على اليهود” في ظل ما يدّعيه من معاداة السامية، المصطلح الذي تستخدمه “إسرائيل” لتحقيق أهدافها الصهيونية على حساب الديانة اليهودية.