وضعت الحرب الروسية الأوكرانية دولة الاحتلال في مأزق سياسي كبير أمام حلفائها، نتيجة المواقف الرمادية التي سعت إلى تصديرها من أجل ضمان عدم غضب أي طرف من الأطراف، سواء روسيا أو حليفتها الاستراتيجية الولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي.
ومع بداية الهجوم الروسي على أوكرانيا التزم الاحتلال الصمت، قبل أن يعلن وزير خارجية الاحتلال يائير لابيد والشريك في الائتلاف الحكومي موقفه علنًا، بضرورة تأييد الإدارة الأمريكية في مواقفها وعدم إغضابها، وهو ما تعارَضَ مع الموقف الذي أعلنه لاحقًا رئيس الحكومة نفتالي بينيت بأنهم يقفون إلى جانب الشعب الأوكراني، ما أدّى إلى غضب موسكو.
ويُعتبر الاحتلال من الأطراف الراغبة بأن تنتهي هذه الأزمة سريعًا دون أن تطول أكثر من ذلك، من أجل ألّا يتورّط في مواقف سياسية تغضب موسكو أو واشنطن، وتؤدي إلى التأثير على الواقع السياسي والأمني في منطقة الشرق الأوسط.
ويبدو أن الغضب الروسي من الاحتلال كان حاضرًا، من خلال استدعاء السفير الإسرائيلي في موسكو وتوجيه عبارة “كيف لتل أبيب أن تؤيد النازيين الجدد؟” في إشارة إلى أوكرانيا، فضلًا عن رفض بوتين الوساطة الإسرائيلية في الحرب المندلعة حاليًّا، رغم الطلب الذي قدّمه رئيس الحكومة نفتالي بينيت لموسكو خلال مكالمة رسمية تمّت مع الرئيس الروسي.
في موازاة ذلك، أعلنت موسكو بشكل واضح أن الجولان ليس جزءًا من الاحتلال، وهو ما يعني فقدان موقف سياسي داعم ومساند للاحتلال، إذ يريد الاحتلال أكبر قدر ممكن من الاعتراف الدولي بالسيادة على الجزء السوري المحتل، لا سيما أن الإدارة الأمريكية الحالية لم تعترف بذلك.
العلاقات الروسية الإسرائيلية: تحالفات ومصالح في مهبّ الولاء للأمريكي
الأكاديمي والخبير في الشأن الإسرائيلي عمر جعارة، يرى أن العلاقات الروسية الإسرائيلية محكومة في نهاية المطاف بالرضا الأمريكي أو الغضب، لا سيما أن الإدارة الحالية غاضبة كثيرًا من الإسرائيليين بسبب رمادية المواقف.
ويقول جعارة لـ”نون بوست” إن الاحتلال في ورطة سياسية في ضوء الحرب الحالية، بما في ذلك مع الإدارة الأمريكية، فتطوُّر الحرب سيجعله مطالبًا بتحديد مواقف أكثر وضوحًا من تلك التي أعلنها، وهو بالتأكيد ما سيجعله ينحاز لواشنطن.
وبحسب الأكاديمي والمختص في الشأن الإسرائيلي، فإن الاحتلال رفضَ التصويت في مجلس الأمن على مشروع قرار يدين الهجوم الروسي على كييف، غير أنه أعلن أنه سيصوِّت على مشروع مماثل في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
المواقف غير الواضحة لقادة الائتلاف الحكومي والتباين بين لابيد وبينيت وليبرمان، لا يجعلان الاحتلال في المنظومة الدولية يُنظر إليه على أنه “دولة”، إذ إنه وأمام المواقف السياسية الكبرى لم يستطع أخذ موقف واضح، وفقًا لجعارة.
ويتابع: “من المواقف التي تجعل الاحتلال يحاول استرضاء بوتين على استحياء، هو الحرص على حرية العمل في الأجواء الشمالية لفلسطين المحتلة في لبنان وسوريا، إذ هناك خشية من غضب موسكو وهو ما قد يدفعها لإغلاق المجال الجوي أو التشويش على الهجمات الإسرائيلية المتكررة”.
تاريخيًّا، ارتبط الاحتلال بعلاقات قوية مع الاتحاد السوفيتي، كونه أول من اعترف بالاحتلال، وأول من سلّح العصابات الصهيونية عند احتلال فلسطين، كما ساهم عام 1988 فيما يُعرف بالهجرة الكبرى كما يطلق عليها الإعلام الإسرائيلي، حينما هجّر مليون روسي بحجّة اليهودية قسرًا إلى فلسطين.
الموقف الإسرائيلي: تعقيدات الواقع السياسي
الباحث والمختص في الشأن الإسرائيلي حسن لافي، يشير إلى حديث نائب وزير الخارجية الروسي ميخائيل بوغدانوف لسفير الاحتلال: “لماذا دعمتم النازيين؟”، وهو ما يعكس الغضب الروسي من الموقف الإسرائيلي سياسيًّا.
لكن لافي يؤكد في حديثه لـ”نون بوست” أن موسكو تعتبر حضور الاحتلال في هذه الحرب والأزمة غير أساسي، بعكس الحسابات الإسرائيلية الكبيرة على صعيد المواقف السياسية والخشية الأمنية من تبعات الغضب الروسي.
ويرى الباحث والمختص في الشأن الإسرائيلي أن هناك تعقيدات عميقة في الموقف الإسرائيلي تجاه الأزمة الروسية الأوكرانية، فـ”إسرائيل” تخشى إعطاء موقف داعم للولايات المتحدة الأميركية، حليفتها الأساسية والراعية الحقيقية لها، خوفًا من خسران مصالحها مع الروس.
ومن الملفات الأمنية التي تجعل الاحتلال مترددًا في إعطاء مواقف أكثر هو الملف النووي الإيراني، بحيث أربكت الأزمة الروسية الأوكرانية الحسابات الإسرائيلية تجاه الملف النووي الإيراني، وخلطت الأوراق في توقيت حسّاس بالنسبة إلى مفاوضات الملف النووي الإيراني، وفقًا للافي.
وبمحاذاة ذلك، بخصوص الملف السوري الذي تُعَدّ روسيا اللاعب المركزي فيه، إن لم تتفاهم معها “إسرائيل” فلن يستطيع جيشها مواجهة التهديدات الناتجة من الجبهة السورية بصورة خاصة، ومن الجبهة الشمالية بصورة عامة، لذلك منذ بداية الوجود الروسي في سوريا عام 2015، حرصت “إسرائيل” على إيجاد آلية تنسيق مع القيادة الروسية في سوريا من أجل تلافي الأخطاء والحوادث، خصوصًا بين سلاح جوّ الاحتلال الإسرائيلي ومنظومة المضادات الجوية الروسية المتمركزة في سوريا.
ويضيف لافي: “العقوبات الاقتصادية على روسيا ستدفعها إلى تعزيز العلاقات التجارية والمالية والسياسية بآسيا، ونتيجة ذلك سيتعمّق التحالف الإيراني الروسي، خصوصًا أن إيران لم تُدِنِ الموقف الروسي، وبالتالي تحت شعار “العقوبات الأميركية توحّدنا” سيتم فتح ثُغرة مهمة في جدار الحصار الاقتصادي على طهران”.
من ناحية، تشكّل التظاهرات التي بدأ اليهود الأوكرانيون في تنظيمها في “إسرائيل” وأمام السفارة الروسية أحد عوامل الضغط الداخلي على الحكومة الحالية، إذ يخشى من أن تتحول هذه التظاهرات لعامل ضغط سياسي لإبداء المزيد من المواقف المؤيدة لحكومة كييف.
إضافة إلى ذلك، يحاول الاحتلال أن يستغلَّ الأزمة الحالية لهجرة 200 ألف يهودي يعيشون في كييف من خلال خطة طوارئ، تعتمد على نقل 8 آلاف منهم على دفعات من خلال وكالة الهجرة، التي تقوم باستقطاب اليهود للعيش في دولة الاحتلال.
وبصفة عامة، يتمنّى المستوطنون أن تنتهي الأزمة الروسية الأوكرانية في أسرع وقت ممكن، كي لا تُجبرهم الولايات المتحدة على أداء دور في العقوبات الاقتصادية ضدها، الأمر الذي ينتج عنه بالتأكيد غضب روسيا الموجودة فعليًّا عند حدودها الشمالية.
وحتى إن انتهت الأزمة سريعًا، فإن الحرب الحالية أشعلت النقاش الإسرائيلي بضرورة التخلي عن المنظومة الأمريكية كراعٍ أمني وحيد، والبحث عن تعزيز ذلك بشكل فردي، على اعتبار أن الحرب الحالية قد تمهّد لنظام دولي جديد ينهي السيطرة الأمريكية.