تتواصل العمليات العسكرية بين القوات الروسية ونظيرتها الأوكرانية لليوم الثامن على التوالي، وسط تضارب في البيانات حول حجم الخسائر لدى الطرفَين، فيما أشارت التقارير إلى سيطرة الروس بشكل شبه كامل على مدينة خيرسون (جنوبًا)، مع استمرار المعارك الضارية على حدود العاصمة كييف.
وكانت الساعات الماضية قد شهدت مواجهات حادة بين الجيشَين الروسي والأوكراني في عدة مدن، أبرزها خاركيف وماريوبول (شرقًا)، في ظل استمرار الدعم الغربي للأوكرانيين، تسليحًا وإمدادات، فضلًا عن مواصلة فرض العقوبات الاقتصادية في محاولة للضغط على موسكو للتراجع عن عملياتها داخل الأراضي الأوكرانية.
الظاهرة الأكثر حضورًا خلال عمليات الـ 24 ساعة الأخيرة هي استهداف القوات الروسية للمناطق اللوجستية الحيوية داخل المدن الأوكرانية أبرزها كييف، وعلى رأسها خزانات النفط والوقود، المستشفيات والمدارس، التجمعات السكنية والملاجئ، في تطور يعزوه البعض إلى هرولة روسية للسيطرة على العاصمة وتفريغها من سكّانها في أقرب وقت ممكن، قبل وصول المزيد من الدعم الغربي، لا سيما أن هناك أنباء تشير إلى إرسال بعض دول أوروبا أسلحة متطورة يمكن أن تعرقل التقدم الروسي ميدانيًّا.
وعلى المستوى الإنساني، أسفرت هذه الحرب حتى الساعة عن فرار ما يقارب المليون لاجئ أوكراني نحو الدول المجاورة، مع توقع المزيد خلال الأيام القادمة حال استمرَّ الوضع على ما هو عليه، وفق ما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن المفوض الأعلى لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة فيليبو غراندي.
سقوط خيرسون
وفق تصريحات المسؤولين الأوكرانيين وعلى رأسهم رئيس بلدية المدينة، إيغور كوليخاييف، استطاعت القوات الروسية فرض هيمنتها على مدينة خيرسون جنوب أوكرانيا، لتصبح أول مدينة كبرى تحتلها موسكو بعد 9 أيام من الحرب التي بدأتها في 24 فبراير/ شباط 2022.
أشار رئيس البلدية في منشور له على فيسبوك أنه تحادث في مقرّ البلدية مع عسكريين روس لم يسمِّهم، مضيفًا: “لم تكن لدينا أسلحة، ولم نكن عدوانيين. أظهرنا أننا نعمل لتأمين المدينة، ونحاول التعامل مع عواقب الغزو”.
ونوّه أن القوات الروسية اقتحمت مبنى مجلس المدينة وفرضت حظر تجول على السكان، فيما أكّد رئيس الإدارة الإقليمية، غينادي لاخوتا، تلك الأنباء في رسالة على تطبيق تيليغرام، قال فيها إن “المحتلّين (الروس) موجودون في كل شوارع المدينة وهم خطرون جدًّا”.
ولسقوط خيرسون ذات المكانة الاستراتيجية، كونها المدينة الساحلية القريبة من شبه جزيرة القرم، أهمية محورية لدى الجانب الروسي، الذي كان يبحث طيلة الأيام الماضية عن انتصار عسكري يحقِّق به التوازن ميدانيًّا، ويكسب من خلاله ورقة ضغط جديدة في مواجهة التصعيد الغربي ضده.
بلغت خسائر أوكرانيا منذ 24 فبراير/ شباط الماضي وحتى مساء 2 مارس/ آذار الجاري نحو 10% من قدراتها العسكرية، بينما خسرت روسيا 5% من دباباتها وطائراتها ومدفعيتها داخل أوكرانيا
وتتواصل المعارك على أكثر من جبهة أخرى تنذر بتكرار سيناريو خيرسون، كما هو الحال في ماريوبول (جنوب شرق) التي تتعرض لقصف متواصل خلال ساعات الأمس وصباح اليوم، فيما حذّر نائب رئيس البلدية، سيرغي أورلوف، في تصريح لـ”بي بي سي” من أن المدينة على أعتاب كارثة إنسانية بعد القصف الممتدّ لأكثر من 15 ساعة دون توقُّف، لافتًا أن الجيش الروسي يستخدم كل ما لديه من أسلحته المدفعية والصاروخية وسلاح الطيران لإخضاع المدينة وتهجير سكانها.
الوضع في خاركيف (شرقًا) لا يختلف كثيرًا عمّا يدور في الجنوب، حيث استمرار المواجهات الساخنة بين الروس والأوكرانيين على أكثر من مسار، إلا أن استهداف القوات الروسية لخزانات الوقود والمستشفيات أحدث حالة من الارتباك لسكان المدينة الذين دُفعوا لمغادرتها نحو المدن الغربية الأكثر أمانًا حتى الساعة، بعدما فقدت العاصمة ذاتها عنصر الأمان الذي كانت تتمتّع به خلال الأيام الأولى للحرب.
تباين في حجم الخسائر
لأول مرة منذ انطلاق العمليات العسكرية تكشف موسكو عن حجم خسائرها بصورة رقمية، فقبل يومَين أشارت وزارة الدفاع إلى وقوع بعض الخسائر في صفوفها لكن دون تفاصيل، قبل أن تعلن بالأمس وبشكل واضح عن مقتل 498 من جنودها وإصابة 1597 آخرين منذ بداية هجومها العسكري.
أما على الجانب الأوكراني، كشفَ المتحدث باسم وزارة الدفاع الروسية، إيغور كوناشينكوف، عن سقوط 2870 قتيلًا وحوالي 3700 جريح بين صفوف الجيش الأوكراني، إضافة إلى أسر 572 عسكريًّا أوكرانيًّا، فيما تشير التقديرات الرسمية الأوكرانية إلى سقوط أكثر من 6 آلاف قتيل روسي منذ بداية الهجوم، بينما ذهب الرئيس الأوكراني إلى أن العدد تجاوز الـ 9 آلاف روسي.
وحسبما نقلت “سي إن إن” عن مسؤولين أمريكيين، فإن خسائر أوكرانيا منذ 24 فبراير/ شباط الماضي وحتى مساء 2 مارس/ آذار الجاري بلغت نحو 10% من قدراتها العسكرية، بينما خسرت روسيا 5% من دباباتها وطائراتها ومدفعيتها داخل أوكرانيا، وسط تحذيرات غربية من تحول المواجهات إلى ما أشبه بـ”حرب استنزاف”، في ظل استراتيجية روسيا نحو ما وصفوه بـ”إفناء بطيء” للجيش الأوكراني.
في إطار مساعي إسقاط كييف، تستهدف القوات الروسية كافة الجسور ووسائل النقل والمعابر الحدودية جنوبًا لقطع الإمدادات القادمة إلى العاصمة وعرقلتها قدر الإمكان
استمرار الدعم الغربي
يواصل الغرب تقديم المساعدات العسكرية للجيش الأوكراني لمساعدته في التصدي للهجمات الروسية، حيث قررت ألمانيا زيادة شحناتها من الأسلحة إلى أوكرانيا عبر تسليمها 2700 صاروخ إضافي مضاد للطيران، كما كشفت وزيرة الدفاع الإسبانية، مارغريتا روبلز، عن إرسال بلادها مساعدات عسكرية تتضمّن 1370 قاذفة قنابل و700 ألف خرطوشة ورشاشات خفيفة.
وعلى الجانب الأمريكي، كشف مصدر داخل الكونغرس عن تزويد واشنطن الأوكرانيين بـ 200 صاروخ من نوع ستينغر للدفاع الجوي خلال الأيام الماضية، فيما أعلنت بعض الدول الغربية الأخرى عن عزمها إرسال بعض المساعدات خلال الساعات المقبلة.
أعلنت المحكمة الجنائية الدولية، وفي سياق الضغط على موسكو، على لسان مدّعيها العام أنها ستفتح على الفور تحقيقًا في ارتكاب جرائم حرب محتملة في أوكرانيا، وذلك بعد تلقّيها لطلب من 39 من الدول الأعضاء بالمحكمة بفتح تحقيق فوري في تلك الجرائم.
وأضاف المدّعي العام كريم خان: “هذه الإحالات تمكّن مكتبي من المضي قدمًا وفتح تحقيق حول الوضع في أوكرانيا من 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2013 وما بعده، بما يشمل أي مزاعم في الماضي والحاضر عن جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية أو إبادة جماعية اُرتكبت في أي جزء من أراضي أوكرانيا على يد أي شخص”.
وفي إطار الجهود الدبلوماسية، أكّد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن الباب سيبقى مفتوحًا أمام الحل السياسي، شريطة وقف العملية العسكرية أولًا.
وفي هذا السياق، أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية تأجيل اختبار إطلاق صاروخ مينتمان البالستي العابر للقارات، كرسالة دبلوماسية لموسكو تثبت أن الأمريكيين ليس لديهم أي نية في الانخراط في أي أعمال يمكن أن يساء فهمها، بحسب تعبير المتحدث باسم البنتاغون جون كيربي.
كييف.. استمرار القصف
لا شكّ أن سقوط خيرسون سيعطي الروس دفعة لمزيد من التقدم نحو كييف، حيث ساهمت المعارك التي تخوضها روسيا في المدن الجنوبية والشرقية في استنزاف الكثير من إمكاناتها وطاقاتها، الأمر الذي عرقل من زحفها نحو العاصمة، وهو الهدف الرئيسي الأبرز بالنسبة إلى القوات الأوكرانية.
ويواصل الجيش الروسي هجومه على العاصمة من كافة الجهات، مستهدفًا الأماكن اللوجستية، آخرها محطة القطارات الرئيسية التي تبعد عن ميدان الاستقلال بكييف قرابة 3 كيلومترات، وفق ما أشارت شركة أوكرزاليزنيتسيا الأوكرانية للسكك الحديدية، التي قالت إن الهجوم على المحطة تمَّ بينما كان يتمّ نقل آلاف النساء والأطفال إلى أماكن آمنة على متن قطارات.
وتطوِّق القوات الروسية المدينة عبر الكثير من جوانبها، آملة في أن تسفر تلك الكماشة عن إسقاطها بعد استنزاف الأسلحة والذخيرة التي يمتلكها الجيش الأوكراني والحيلولة دون وصول مساعدات خارجية، فيما نقلت الكثير من التقارير والمقاطع المصورة عن تواجد عسكري طفيف للروس في بعض الأحياء الحدودية القريبة من قلب العاصمة، فيما وصف مسؤولو الإدارات الحكومية بكييف الوضع بأنه “معقد للغاية”.
وفي إطار مساعي إسقاط كييف، تستهدف القوات الروسية كافة الجسور ووسائل النقل والمعابر الحدودية جنوبًا لقطع الإمدادات القادمة إلى العاصمة وعرقلتها قدر الإمكان، كذلك تفتيت البنى التحتية ومصادر التزود بالوقود والطاقة، في إطار مخطط التطويق والحصار الذي تحاول موسكو فرضه عليها من كافة الجوانب، الأمر الذي يسهّل من خطة الاجتياح والهيمنة.
وفي الجهة الأخرى، يواصل الأوكرانيون زودهم عن بلادهم في مواجهة التقدم الروسي، ففي أحدث مقطع مصور للرئيس الأوكراني زيلينسكي نشره صباح اليوم الخميس، قال فيه: “إن خطوط الدفاع صامدة في وجه الهجوم الروسي”، وأن أوكرانيا تتلقى يوميًّا إمدادت من حلفائها الدوليين، مضيفًا أن القصف الروسي لم يتوقف طيلة اليومَين الماضيَين على العاصمة، وتابع: “ليس لدينا ما نخسره سوى حريتنا”.
ومع اليوم العاشر للحرب.. من الصعب التكهُّن بسيناريوهات تلك المواجهات التي يبدو أنها مفتوحة على كافة الاحتمالات، بعدما وصلت لأعلى نقطة لها في سقف التوقعات، حين لوّحت موسكو ضمنيًّا باحتمالية اللجوء إلى السلاح النووي (حتى لو كان من باب الضغط لإثناء الغرب عن تصعيده)، الأمر الذي يسمح بعبور كافة السيناريوهات في ظل السجال المستمر بين المعسكرَين، الشرقي والغربي، فيما يقبع 44 مليون أوكراني في خنادق الترقب لما يمكن أن تؤول إليه بلادهم، بعدما تشتّت بهم السبل بين لاجئ وشريد ومختبئ وقتيل ومصاب.