في خطاب ألقاه في مؤتمر ميونيخ للأمن منذ أيام، انتقد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الدول الغربية لعدم وفائها بالوعود التي قطعتها عند تفكُّك الاتحاد السوفيتي، عندما أقنعوا أوكرانيا بالتخلي عن ترسانتها النووية. وبلهجة نادمة، قال زيلينسكي: “حصلت أوكرانيا على ضمانات أمنية للتخلي عن ثالث قدرة نووية في العالم، ليس لدينا هذا السلاح، كما أننا لا نملك الأمن”، وذلك بالتزامن مع تهديدات الرئيس الروسي بالقوة النووية، ووضع قوات الردع النووي قيد التأهُّب.
يبدو أن القادة الأوكرانيين يتشاركون الأسى هذه الأيام بشأن تخلي بلادهم عن السلاح النووي، مقابل ضمانات أمنية تبيّن لاحقًا أنها كاذبة، وفي هذا الصدد قال أندري زاهورودنيوك، وزير الدفاع الأوكراني السابق: “لقد تخلينا عن القدرة مقابل لا شيء. الآن، في كل مرة يعرض علينا أحدهم توقيع شريط من الورق، يكون الرد شكرًا جزيلاً لك. لقد كان لدينا بالفعل واحدة من هذه منذ بعض الوقت”.
في أوكرانيا، تطل نقمة كبيرة على الغرب في إطار التساؤلات عن الضمانات الأمنية التي قُدِّمت للبلاد منذ عقود، في هذا الخصوص يقول النائب في البرلمان الأوكراني أليكسي غونشارينكو: “أوكرانيا هي الدولة الوحيدة في تاريخ البشرية التي تخلت عن الترسانة النووية، حين كانت ثالث أكبر ترسانة في العالم عام 1994، بضمانات من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وروسيا الاتحادية، أين هذه الضمانات؟ الآن نحن نتعرض للقصف والقتل”.
كان لأوكرانيا اليوم أن تكون في موقع أفضل عالميًّا لو أنها لم تتخلَّ عن سلاحها النووي، إذ إنه كان من المفترض أن يكون قوة ردع في وجه أي عدوان خارجي عليها، هكذا يعتقد الكثير من الأوكرانيين.
ولعل هذه التساؤلات تدفعنا إلى البحث أكثر عن هذه الدولة التي كانت ثالث أكبر دولة نووية في العالم، ومتنازعًا عليها بين معسكرَي الغرب والشرق، وكيف تمَّ إضعافها في الوقت الذي تواصل فيه سعيها لإيجاد قوة تتّكئ عليها، من خلال حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي وغيرهما.
التخلي عن النووي
بالعودة إلى حقبة التسعينيات في أوكرانيا، كان من الواضح أن إرادة الأوكرانيين للاستقلال عن الاتحاد السوفيتي كانت أحد أهم الأسباب التي جعلت من رئيس الاتحاد ميخائيل غورباتشوف وبعده بوريس يلتسن، يقرّان بعدم إمكانية الإبقاء على هيكل الاتحاد السوفيتي أو تطويره ليكون رابطة مرنة للجمهوريات الـ 15 المرتبطة به.
ورؤية الزعيمَين تلك كانت نابعة من أن ثاني أكبر قوة في الاتحاد ترفض البقاء ضمن هذه التقسيمة، إضافة إلى ذلك كان يرى الروس أن تمويل الاتحاد دون وجود أوكرانيا صعب التحقيق.
في ذلك الوقت لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية راضية عن استقلال أوكرانيا، إلا أن الرئيس جورج بوش الأب لم ينجح في إثناء البرلمان الأوكراني عن الاستقلال في خطاب له هناك.
بعد ذلك دعت سلطات كييف إلى انتخابات رئاسية بالتوازي مع استفتاء الاستقلال في ديسمبر/ كانون الأول 1991، اختار فيها أكثر من 90% الاستقلال، بما في ذلك منطقة الدونباس شرقي أوكرانيا حيث تخطت نسبة تأييد الاستقلال الـ 80%، والجدير بالذكر أن هذه المنطقة أعلنت روسيا مؤخرًا اعترافها باستقلالها في خطاب للرئيس فلاديمير بوتين ألقاه قبل بدء غزوه لأوكرانيا.
قرر الرئيس يلتسن، بعد ذلك الاستفتاء، لقاء قائد كل من أوكرانيا ليونيد كرافتشوك وبيلاروسيا ستانيسلاف شوشكيفيتش على مقربة من الحدود البولندية، وكانت نتيجة هذا الاجتماع إعلان تفكُّك الاتحاد السوفيتي وتأسيس رابطة الدول المستقلة لتحل محله. كما نتج عن ذلك الاجتماع إعلان سُمّي بـ”اتفاقيات بياوفيجا”، وتذكر التقارير أن إقدام يلتسن على هذه الخطوة كان نتيجة العجز الذي واجه الاتحاد بإبقاء أوكرانيا ضمنه، ولقناعته بأن الكثير من الجمهوريات ستحذو الحذو نفسه.
كان عهد الرئيس الأوكراني الأول بعد الاستقلال، ليونيد كرافتشوك، مؤذنًا بالابتعاد عن موسكو اقتصاديًّا، مقابل اللحاق بالركب الغربي وفتح البلاد للاستثمارات ورؤوس الأموال الغربية في القطاعات الإنتاجية والصناعية والطاقوية، لكن ذلك لم يمنعه من الحفاظ على هوية البلاد الشرقية والارتباط مع الثقافة والتاريخ الروسيَّين.
التقارب الأوكراني مع الغرب لم يبعد حقيقة تخوف الدول الأوروبية وأمريكا من تواجد خطر نووي عليها من دولة مستقلة جديدة، حيث ورثت كييف نحو 1900 رأس حربي نووي و2500 سلاح نووي تكتيكي، لتصبح القوة النووية الثالثة عالميًّا متقدمةً على الصين وبريطانيا وفرنسا.
كما كان هناك تخوف من تطوير تلك الترسانة على الدوام، إذ إن أوكرانيا بلد غني باليورانيوم وذات قدرات تكنولوجية، بالإضافة إلى قدراتها الإنتاجية الهائلة في ذلك الوقت.
رغم القدرة النووية الكبيرة في أوكرانيا، إلا أنها كانت تتقاسم مع موسكو القدرة التشغيلية لهذه الأسلحة، وهنا كان يوجد تخوف أمريكي من الأمر، إذ إن إدارة الرئيس بوش الأب كانت تريد تحديد من يمتلك مفاتيح هذه الأسلحة، كما أن الإدارة الأمريكية وقتها بدأت بالترويج لخطر هذه الأسلحة عليها.
وفي هذا الصدد، قال وزير الخارجية الأمريكي حينها جيمس بايكر للرئيس بوش: “على الصعيد الاستراتيجي ما من قضية خارجية تستحق انتباهك أو وقتك أكثر من مستقبل الترسانة النووية السوفيتية في أعقاب انقسام البلاد”.
وأضاف حينها: “إن تحوُّل الوضع إلى وضع شبيه بما حدث في يوغوسلافيا، مع 30 ألف سلاح نووي، يمثل خطرًا هائلًا على الشعب الأميركي الذي لا يخفاه الأمر، وسوف يحمّلنا المسؤولية إن لم نتصرف”، واعتبر بايكر أن “التعامل مع الشيطان الذي تعرفه خير من التعاطي مع مجموعة جديدة من القوى النووية”.
الضمانات
أدّت القوة النووية في دول الاتحاد المتفكِّك إلى تلاقي مصالح روسي أمريكي للتخلُّص من هذه الأسلحة، فكانت واشنطن ترى أن يتمَّ التخلص منها بأي طريقة، فيما ترى موسكو أن تعود إليها، وفي كلا الخيارَين سيتم تجريد الدول السوفيتية من هذا السلاح الفتاك الذي يشكّل خطرًا كبيرًا.
وفي البداية لم تكن كييف تعارض الأمر إلى حد كبير، لكنّ صدامًا مع موسكو حول مصير أسطول البحر الأسود الذي استمرَّ لسنوات قبل تقسيم الأسطول والسيطرة على الميناء، بالإضافة إلى النزاع على وضع شبه جزيرة القرم، أدَّيا بكييف إلى تغيير رأيها.
مع اشتداد التوتر بين الدولتَين عام 1992، طرح البرلمان الأوكراني مطالب مقابل تسليم الصواريخ السوفيتية، تتمثل بتعويض مالي واعتراف رسمي بحدود أوكرانيا وضمانات أمنية.
عام 1994 حضر أكثر من 50 زعيمًا إلى العاصمة المجرية بودابست، لعقد قمة تؤسِّس لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، حيث استغلَّ قادة روسيا وأمريكا بالإضافة إلى بريطانيا المحادثات لتقديم مذكرة بودابست الخاصة بتقديم ضمانات أمنية لكييف، في محاولة لتهدئة مخاوف الأوكرانيين.
كان هدف المذكرة استئناف عملية نزع السلاح النووي، والانتهاء من إزالة الأسلحة النووية من أوكرانيا، ومقابل التخلي عن كل أسلحتها تحصل أوكرانيا على تعهُّد بسيادتها الإقليمية.
نصّت اتفاقية بودابست على التزام كل من موسكو ولندن وأيرلندا الشمالية وواشنطن بالامتناع عن التهديد باستعمال القوة أو استعمالها ضد السلامة الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأوكرانيا، وأنها لن تستخدم أيًّا من أسلحتها ضد أوكرانيا إلا للدفاع عن النفس، أو لاستخدام آخر يوافق عليه ميثاق الأمم المتحدة.
ووافقت الدول الموقّعة على الاتفاقية على طلب إجراء فوري من مجلس الأمن الدولي لتقديم المساعدة لأوكرانيا، باعتبارها دولة غير نووية، وطرفًا في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، إذا وقعت ضحية لعمل عدواني، أو هدفًا لعدوان اُستخدم فيه الأسلحة النووية.
كما أعطى إنشاء منظمة أمنية مرتبطة بحلف الناتو تحت مسمى الشراكة من أجل السلام حافزًا لأوكرانيا من أجل التخلي عن أسلحتها، حيث هذه المنظمة كانت قد فتحت الأبواب أمام دول الاتحاد السوفيتي السابقة للانضمام إلى الحلف.
بدأت أوكرانيا بمساعدة من الولايات المتحدة تفكيك الصواريخ والقاذفات والبنية التحتية النووية، ووافقت على تسليم رؤوسها الحربية إلى روسيا لتفكيكها هناك مقابل تعويض القيمة التجارية لليورانيوم عالي التخصيب، ونقلت أوكرانيا آخر رأس حربي نووي إلى روسيا عام 1996، وفكّكت آخر مركبة نووية استراتيجية عام 2001.
التأرجُح بين المعسكرَين
شهدت البلاد بعد عام 2000 تعاقب الرؤساء والأحوال السياسية المثيرة للجدل، إذ إن أوكرانيا وخلال هذه السنوات كانت تقع بين معسكرَين، من يريد الاتجاه نحو الغرب ومن يريد الرجوع إلى روسيا، ما وضع استقلالية البلاد على المحك، ولعلّ هذا كان واضحًا بعد ثورة عام 2014 على حكم فيكتور يانكوفيتش المقرّب من موسكو.
لكن روسيا لم تكن راضية عمّا حصل، فتوجّهت نحو ضمّ شبه جزيرة القرم إلى السيادة الروسية، حيث هاجم موالون لروسيا قاعدة عسكرية أوكرانية صغيرة في مدينة سيمفيروبول، وكانت روسيا قد أرسلت خلال شهر فبراير/ شباط آلافًا من الجنود الإضافيين ليستقرّوا في القواعد العسكرية التي يُسمح لروسيا بموجب المعاهدة بين موسكو وكييف بامتلاكها في القرم، وكذلك انتقل إلى القرم “متطوعون” مدنيون.
بعد ذلك فورًا أُجري استفتاء في شبه جزيرة القرم لانضمام شبه جزيرة القرم إلى روسيا، وقد أيّد 95% من المشاركين فكرة الانضمام إلى روسيا، طبعًا هذا بحسب الأرقام الروسية، وقاطع الكثير من المعارضين الاستفتاء الذي رفضته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، ووصفاه بأنه غير شرعي، بالتوازي مع ذلك كانت تنشط حركة انفصالية في إقليمَي دونيتسك ولوغانسك بدعم روسي.
جعلت التحركات الروسية الحكومة الأوكرانية في وضع مرتبك، ما دفعها نحو الغرب أكثر فأكثر، وجعلت أوكرانيا عام 2019 رغبتها في الانضمام إلى الغرب جزءًا من دستورها، وأعلن رئيس البرلمان الأوكراني، أندريه باروبي، أن “أوكرانيا ستنضم إلى الاتحاد الأوروبي، وستنضم إلى حلف الناتو”.
لكن واشنطن والاتحاد الأوروبي أقرَّا أنه لا توجد خطط فورية لضمّ أوكرانيا، وقالت واشنطن والقوى الأوروبية الرئيسية الأخرى أيضًا إنها لن ترسل قوات على الأرض للدفاع عن أوكرانيا في وجه الروس.
ويبدو أن وعود الناتو التي صدرت عام 2008 لم تكن ذات جدوى، حيث تعهّد أعضاء الحلف بمنح العضوية لأوكرانيا وجورجيا يومًا ما، لكن تحركات روسيا قطعت الطريق نحو ذلك، بالإضافة إلى الخلاف داخل دول الناتو حول عضوية أوكرانيا، وهنا بقيت أوكرانيا ضمن دائرة الصراع الغربي الروسي، فلا الغرب يقبل بها ضمن أحلافه رغم الاهتمام بها، ولا موسكو تحترم استقلاليتها.
إنهاء الاتفاقيات والعودة إلى النووي
وممّا يدلِّل على عدم احترام موسكو لاستقلالية أوكرانيا، ما قاله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مؤخرًا: “أبدأ من حقيقة أن أوكرانيا تأسّست بالكامل من قبل روسيا، حتى من قبل روسيا البلشفية الشيوعية. بدأت هذه العملية فور ثورة 1917، عملَ لينين وأصدقاؤه بشكل فجّ جدًّا ضد مصالح روسيا من خلال فصل جزء من أراضينا التاريخية وتمزيقها إربًا. بالطبع، لم يستشر أحد ملايين الأشخاص الذين يعيشون هناك عندما جرى فعل ذلك”، في إشارة واضحة إلى أحقية روسيا بالوجود في كييف إما سيطرة وإما نفوذًا.
ولربما مهّد بوتين خلال خطابه للدخول إلى أوكرانيا، عندما أكال الاتهامات النازية إلى جارته: “بدأت السلطات الأوكرانية ومنذ الخطوة الأولى في بناء دولتها بإنكار كل ما يوحّدنا. لقد حاولت تشويه الوعي والذاكرة التاريخية لملايين الأشخاص الذين يعيشون في أوكرانيا، من جميع الأجيال. ليس من المستغرب أن المجتمع الأوكراني سرعان ما واجه صعود القومية المتطرفة، والتي اتخذت شكلًا عدائيًّا ضد روسيا مع نزعة نحو النازية الجديدة”.
اليوم وقد غزا الروس أوكرانيا، ويحاولون الوصول إلى كييف وإسقاط الحكم هناك لإعادة أوكرانيا إلى حظيرتها كحائط صدّ في وجه الغرب، لم تعد الضمانات التي أُعطيت في التسعينيات مجدية أمام مواجهة هذا الغزو، ورغم بعض الإمدادات الغربية العسكرية لحكومة زيلينسكي وتطبيق عزلة قاسية دولية على موسكو، إلا أن الرئيس الأوكراني يعتبر أن بلاده “تُركت وحيدة”.
وبالرجوع إلى اتفاقية بودابست التي عادت إلى الواجهة مجددًا، فقد لوح الرئيس زيلينسكي بإمكانية انسحاب بلاده من الاتفاقية، وقد أشار إلى أنه “منذ عام 2014 حاولت أوكرانيا 3 مرات إجراء مشاورات مع الدول الضامنة لمذكرة بودابست. 3 مرات دون نجاح. اليوم أوكرانيا ستفعل ذلك للمرة الرابعة. أنا، كرئيس، سأفعل ذلك للمرة الأولى. لكن أنا وأوكرانيا نقوم بذلك للمرة الأخيرة”.
وأضاف زيلينسكي: “في حال لم تنعقد تلك المشاورات مرة أخرى، أو إذا جاءت نتائجها لا تضمن الأمن لبلدنا، فسيكون لأوكرانيا كل الحق في الاعتقاد بأن مذكرة بودابست لا تعود بفائدة، وأن جميع القرارات الشاملة لعام 1994 موضع شك”.
إلى ذلك، علّق وزير الدفاع الروسي، سيرغي شويغو، على خطاب الرئيس الأوكراني بالقول إن “تصريحات زيلينسكي حول إعادة الوضع الأوكراني لدولة نووية هي بيان خطير للغاية. أوكرانيا لديها قدرات لتصنيع أسلحة نووية أكثر بكثير من إيران وكوريا الشمالية، وقد تظهر الأسلحة النووية التكتيكية على أراضي أوكرانيا”.
ختامًا، خاضت أوكرانيا منذ استقلالها العديد من المعارك على جميع الأصعدة في إطار ضمان استقلالها، لكن ذلك لم ينجح على ما يبدو في ضوء الغزو الروسي والتحشيد الغربي، وباتت كييف اليوم ضمن عقدة الصراع الغربي الروسي أكثر من كونها تخوض حربًا لضمان استقلالها وأمنها.