ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت الحرب في أفغانستان ما بين 1979-1989 حرب استنزاف مؤلمة بالنسبة للاتحاد السوفيتي إذ كان على موسكو في النهاية أن تستسلم لأن النصر ظل بعيد المنال مقابل تواصل تكبّد خسائر هائلة. فهل يمكن أن تواجه روسيا حرب استنزاف مماثلة يمكن اعتبارها نوعًا من الهزيمة بالنسبة لروسيا؟
من الصعب تصديق حدوث ذلك في بداية الحرب ولكن مع مرور الوقت بات هذا السيناريو أكثر ترجيحًا. وعلى خلاف ما تتداوله وسائل الإعلام، فإن الأرقام والحقائق على أرض الواقع لا توحي بانتصار روسي سهل. وبدلاً من ذلك، تُبدي أوكرانيا مقاومة أشد بكثير مُلحقة خسائر جسيمة بالقوات الروسية ناهيك عن التقدم الروسي البطيء على عكس ما كان متوقعًا. وعمومًا، بدأت تظهر مؤشرات على تطور الصراع إلى حرب استنزاف قد لا تتمكن روسيا حتى من الفوز بها.
تشير الكثير من الدلائل في اليومين الماضيين من القتال إلى أن المقاومة الأوكرانية أقوى مما كان متوقعًا، وهذا ما عرقل تقدم القوات الروسية على أرض الميدان:
-كان الجناح الغربي للقوات الروسية الذي دخل أوكرانيا عبر شبه جزيرة القرم وعبور نهر دنيبر في 24 شباط/ فبراير يهدف إلى السيطرة على أوديسا. استعادت القوات الأوكرانية السيطرة على رأس جسر أنتونوفسكي بحلول صباح يوم 25 شباط/ فبراير. على الرغم من أن الروس استعادوا الجسر بحلول مساء يوم 25 شباط/ فبراير، إلا أنهم تمكنوا فقط من الوصول إلى ميكولايف خلال اليوم الموالي.
-دخل الجناح الشرقي للجيش الروسي أوكرانيا من القرم وكان يهدف للوصول إلى القوات الروسية في منطقة دونيتسك الانفصالية. لكن توقّف تقدمهم في مدينة ميليتوبول في 24 شباط/ فبراير، ولم يتمكن الروس من اختراقها إلا في صباح يوم 26 شباط/ فبراير، لكن التقدم توقف مرة أخرى قبل أن تصل القوات الروسية إلى ماريوبول.
-بعد أن استولت قوات الإنزال الجوي الروسية على مطار أنتونوف بالقرب من كييف في وقت مبكر من يوم 24 شباط/ فبراير، استعادت القوات الأوكرانية السيطرة عليه ذلك المساء. وعلى الرغم من أن الروس استولوا على المطار مرة أخرى في الخامس والعشرين من الشهر، فمن الواضح أن خطتهم لم تسر كما هو مخطط له
– في وقت كتابة هذا التقرير، لم تحقق روسيا تقريبًا أي مكاسب إقليمية على طول الحدود وخط السيطرة بين خاركيف والبحر الأسود.
تشير الخسائر الروسية الجسيمة إلى أن النافذة الزمنية لهذه الحرب تتراوح بين أسبوعين وثلاثة أسابيع من الآن يتعين على روسيا خلالها تحقيق النصر، وإذا لم تتمكن من ذلك بعد مرور هذه النافذة الزمنية ستضطر إلى الاعتراف بالهزيمة ووقف أي تقدم عسكري. في تلك المرحلة، ستكون الخسائر الروسية جسيمة ومن المحتمل أن تدمر صواريخ جافلين وستينغر الأوكرانية الدبابات والمروحيات الروسية.
وفقًا لمصادر أوكرانية، فقد الروس خلال اليومين الأولين من الصراع 536 ناقلة جنود مدرّعة و102 دبابة قتال رئيسية و14 طائرة و8 مروحيات ناهيك عن مقتل 3500 جندي أثناء القتال وأسر 200 منهم. وإذا كانت هذه الأرقام صحيحة، فإن هذه الخسائر هائلة لا سيما أن عدد دبابات القتال الرئيسية المملوكة للقوات المسلحة الروسية يُقدَّر بحوالي 12500 دبابة حسب تقديرات سنة 2020. ونقلاً عن تقرير استخباراتي، يدعي موقع لينتا الروسي الإلكتروني أن أقل من ثلاثة آلاف دبابة كانوا قيد الاستخدام بالفعل.
هذا ليس مفاجئًا، لأنه بعد سقوط الاتحاد السوفيتي أصبح هذا هو الاتجاه العام في دول حلف وارسو. ومع أن عددًا كبيرًا من المعدات العسكرية التي تعود للحقبة السوفيتية أصبحت قديمة وغير صالحة للاستخدام حتى في مراحل مختلفة من تفكك الكتلة السوفيتية ومرور سنوات وهي خارج نطاق الخدمة دون صيانة، إلا أنها لا تزال تُحتسب في الإحصاءات الرسمية.
إن الصعوبات غير المتوقعة التي تواجهها روسيا ليست مفاجئة بإمعان النظر في بعض التفاصيل، حيث يعد الغزو ضد أوكرانيا أصعب معركة تخوضها روسيا منذ الحرب العالمية الثانية
إذا لم يكن لدى روسيا حقًا أكثر من ثلاثة آلاف دبابة، فإن الخسائر المعلنة تعتبر كارثية. ونظرًا لأن روسيا خسرت 102 دبابة قتال رئيسية في يومين ولا يوجد في البلاد بأكملها أكثر من 3000 دبابة، فهذا يعني أنه إذا ظلت المقاومة الأوكرانية شديدة ستخسر روسيا ما بين 20 و30 في المئة من إجمالي دبابات القتال الرئيسية من “قواتها المسلحة بأكملها في غضون 10 أو 16 يومًا فحسب.
بعبارة أخرى، إما أن تحقق روسيا النصر في غضون نافذة زمنية ما بين 10 و16 يومًا منذ أن استأنفت الحرب في 25 شباط/ فبراير، أو توقف جميع عمليات التقدم الأخرى إذا لم تنجح في ذلك لأنه بحلول ذلك الوقت “ستصل خسائرها إلى مستوى يدفع بجيشها” إلى نقطة الانهيار. في مثل هذا السيناريو، يمكن أن يتحول الصراع إلى حرب استنزاف طويلة الأمد تكون تداعياتها وخيمة على روسيا خاصة إذا تبعتها حرب عصابات خلف خطوط الجبهات. حتى مع احتمال أن تكون هذه الأرقام ليست صحيحة، وحتى لو كان متوسط الخسائر اليومية في عدد الدبابات نسبيًا بالنسبة لروسيا وأقل بمرتين أو ثلاث مرات من المعدل المذكور أعلاه، فإنه لا يزال يعني أنه لا يمكن للقوات الروسية مواصلة التقدم لمدة تزيد عن شهر واحد.
تعكس هذه الخسائر صورة قاتمة لروسيا إذا أصبح الصراع حربًا طويلة الأمد تحتاج فيها روسيا إلى أسلحة مختلفة للتقدم في الغزو أكثر مما هو مطلوب لشن حرب استنزاف دفاعية. لمواصلة التقدم، يحتاج الجانب الروسي إلى أسلحة معقدة وباهظة الثمن مثل الدبابات والمروحيات. لإبطاء مثل هذا الغزو، وجعله مكلفًا أكثر وخلق تحديات جديدة من خلال حرب العصابات الفعالة. تعد صواريخ جافلين وستينغر ذات القدرة على تدمير الدبابات والمروحيات خيارًا مناسبًا فهي أرخص بكثير من الدبابات وطائرات الهليكوبتر، ويبدو أن دول الناتو مستعدة لتزويد أوكرانيا بإمدادات غير محدودة تقريبًا من هذه الصواريخ. وفي هذه الحالة، تقوم المنافسة بين روسيا وأوكرانيا على مدى سرعة حلف الناتو في تسليم صواريخ جافلين وستينغر إلى أوكرانيا لتحل محل تلك المستخدمة بالفعل، والوتيرة التي يمكن لروسيا أن تصنع بها الدبابات لتحل محل الدبابات التي تم إطلاقها في ساحة الحرب.
في الحقيقة، إن الصعوبات غير المتوقعة التي تواجهها روسيا ليست مفاجئة بإمعان النظر في بعض التفاصيل، ولا يرجع ذلك بالأساس إلى الكمية الكبيرة من صواريخ جافلين وستينغر التي وقع تزويد أوكرانيا بها من قبل الدول الأعضاء في حلف الناتو. من خلال جوانب عديدة، يعد الغزو ضد أوكرانيا أصعب معركة تخوضها روسيا منذ الحرب العالمية الثانية. يبلغ تعداد سكان أوكرانيا 41 مليون نسمة أي ما يعادل أكثر بقليل من ربع سكان روسيا (146 مليونًا)، بينما يبلغ عدد الجنود النشطين في أوكرانيا وقت السلم 200 ألف جندي أي ما يعادل تقريبًا خُمس الجنود النشطين في روسيا (900 ألف).
لم يكن عدد جنود المجر في سنة 1956 ولاتشيكوسلوفاكيا في 1968 ولا أفغانستان في 1979 ولا الشيشان في التسعينيات ولا جورجيا في 2008 قريبا من هذه الأبعاد في كل هذه الحالات. وحرب جورجيا، كان على روسيا محاربة المتمردين وليس الجيوش النظامية. دون المبالغة، يمكن القول إن هذا الصراع يمثل في الحقيقة أكثر الحملات العسكرية تحديًا لموسكو منذ الحرب العالمية الثانية.
إذا كان هذا هو الحال بالفعل، فإن إلقاء نظرة عامة على النتائج المحتملة للحرب يساعد على التوصّل إلى بعض الاستنتاجات المثيرة للاهتمام:
أولًا، يبدو أن بسط روسيا سيطرتها على أوكرانيا وتشكيل حكومة عميلة موالية لها في كييف كان هدف الحرب في بداية الصراع، حيث أعربت روسيا عن نيتها إزالة الحكومة الأوكرانية. بالنظر إلى المقاومة الأوكرانية الشديدة، يبدو أن هذا السيناريو بعيد المنال بشكل متزايد حتى أن احتلال غرب أوكرانيا قد لا يكون أمرا ممكنًا، وحتى إذا تم تحقيقه بطريقة ما من المتوقع أن تندلع حرب عصابات طويلة وشرسة في النصف الغربي من البلاد تقتضي إرسال الدول المجاورة الأعضاء في الناتو مثل بولندا ورومانيا إمدادات أسلحة.
من المحتمل أن إدراك الكرملين كل هذه العوامل يجعل هذا السيناريو غير مرجح بشكل متزايد. وإذا ظلت الخسائر الروسية مرتفعة، وبقيت المقاومة الأوكرانية شرسة كما عهدناها حتى اللحظة الراهنة، فإن سعي موسكو لتحقيق هذا الهدف ورفض التسوية قد يدفع بها إلى التورط في حرب استنزاف طويلة الأمد من غير المرجح أن تكون قادرة على الفوز بها، وهو الأمر الذي سيؤدي بها في نهاية المطاف إلى الإعلان عن هزيمتها.
أما السيناريو الثاني المحتمل فهو تقسيم أوكرانيا: يتسم النصف الغربي والشمالي من البلاد بهوية ثقافية أوكرانية قوية معظمه من الناطقين بالأوكرانية مع ميول قومية ومؤيدة للغرب. أما النصف الشرقي والجنوبي من البلاد ذو ميول ثقافية روسية قوية ويتحدث معظم سكان هذه المناطق اللغة الروسية. وقد كان المرشحون المؤيدون لروسيا يفوزون بانتظام في الانتخابات في هذا النصف من البلاد قبل سنة 2014. وقد انتشرت تكهنات بشأن أهداف روسيا التي تشمل سعيها تقسيم البلاد لإنشاء دولة عملية موالية لها في النصف الشرقي والجنوبي تحت اسم “نوفوروسيا” (أو روسيا الجديدة) منذ انحياز أوكرانيا للغرب خلال سنة 2014.
يمكن لروسيا أن تواصل جهودها حتى تصل لحدود “نوفوروسيا المنشودة”، وعندما تحقق مبتغاها تعرض الجلوس على طاولة المفاوضات مع خصمها الأوكراني. وفي حال محاولة روسيا تقسيم الدولة فإن ذلك يعتمد على عاملين رئيسيين: أحدهما ما إذا كان النصف الغربي من الدولة الذي لا يزال بعيدًا عن متناول روسيا سيعترف رسميًا بهذه النتيجة أم لا، والآخر هو ما إذا كان سكان النصف الشرقي سيتعاونون مع روسيا بما يكفي لترسيخ حكمها. وإذا اعترف النصف الغربي بالانقسام وتعاون النصف الشرقي، فقد يكون هذا سيناريو مناسب لروسيا. أما إذا زاد نشاط حرب العصابات في النصف الشرقي، الذي وقع تعزيزه بصواريخ ستينغر وجافلين من قبل النصف الغربي الذي يرفض الاعتراف بالانقسام، فقد ينتهي الأمر بحرب استنزاف شبيهة بأفغانستان سيتعين على روسيا التراجع عنها عاجلاً أم آجلا.
هذا يعتمد إلى حد كبير على مواقف سكان النصف الشرقي من البلاد. حتى سنة 2014، كان نصف البلاد يصوتون بانتظام لمرشحين موالين لروسيا، وعند بدء الحرب الحالية يبدو أن القيادة الروسية توقعت منهم استقبال القوات الروسية بصفتهم محررين لهم، ولكن لم يكن هناك شيء من هذا القبيل، وهذا ما يجعل تحقيق روسيا أهدافها أمرا غير محتمل. واعتبارًا من 27 شباط/ فبراير، لا تزال روسيا تسيطر على أقل من نصف أراضي المناطق الشرقية والجنوبية التي صوتت بانتظام لمرشحين موالين لروسيا، وفي هذه المناطق لا يبدو أن السكان المدنيين يدعمون الروس ومن غير المؤكد إلى أي مدى يمكن لروسيا أن تواصل غزوها. وحتى لو لم تتمكن روسيا من السيطرة على النصف الشرقي والجنوبي من البلاد، فلا يزال بإمكانها اختيار حل وسط يمكنها من الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من هذه المنطقة خلال أسبوعين، ثم تصر أثناء المفاوضات على التمسك بتلك المناطق.
مع أنه من المغري بالنسبة لروسيا أن تواصل تقدمها، فقد ينتهي بها الأمر في وضع لا تستطيع فيه احتلال معظم النصف الشرقي من البلاد أو تعزيز سلطتها هناك
يتمثل الخيار الثالث في تجنب الحرب المطولة من خلال التوصل بسرعة إلى اتفاق تسوية وتحييد أوكرانيا، وهي نتيجة قابلة للتطبيق بالنسبة لكلا الجانبين: يمكن لروسيا أن تتجنب الإحراج الناجم عن عدم قدرتها على الفوز في حرب استنزاف طويلة المدى من خلال بدء المفاوضات في أقرب وقت ممكن، بينما يمكن لأوكرانيا تجنب خيار الحرب وكذلك الحفاظ على سيادتها وقيادتها الموالية للغرب دون أن تشعر روسيا بالقلق بشأن انضمام أوكرانيا إلى الناتو. وإذا حدث هذا السيناريو، فقد تكون روسيا قادرة على محاولة دمج الأراضي الشرقية والجنوبية التي استولت عليها خلال الحرب.
يكشف تباطؤ القوات الروسية وتكبدها خسائر أعلى من المتوقع أن النصر السريع لروسيا واحتلال أوكرانيا بأكملها قد يكون أمرا بعيد المنال. واستمرار الحرب في ظل هذه الظروف سينتهي على الأرجح بحرب استنزاف مطوّلة قد لا تتمكن روسيا من الانتصار فيها، وقد ينتهي بها المطاف بهزيمة مماثلة لما عانى منه الاتحاد السوفيتي في أفغانستان في الثمانينات لأنها قد لا تكون قادرة على تعويض خسائرها من الدبابات والمركبات العسكرية والأسلحة الثقيلة بنفس الوتيرة التي يمكن من خلال لأوكرانيا التزوّد بصواريخ جافلين وستينغر من حلف الناتو. وإدراكًا لهذا الوضع، قد تضطر روسيا في النهاية إلى الاتفاق على حلّ وسط بشأن حل يشمل تحييد أوكرانيا بعد ما لا يزيد عن أسابيع قليلة من القتال.
لعل العامل الأكثر خطورة هو سعي بعض الجهات لإغراء روسيا على مواصلة الغزو حتى لو كانت الظروف غير مواتية لها، ناهيك عن اعتقادها أنه يمكنها تحقيق بعض النتائج الإيجابية. قد يؤدي مثل هذا الخيار إلى تقسيم البلاد إلى نصف غربي وشرقي، مع بقاء النصف الغربي تحت القيادة الحالية، بينما يتم تنصيب حكومة عميلة موالية لروسيا في النصف الشرقي.
بناء على ما نوقش أعلاه، يبدو أنه من المستحيل معرفة ما إذا كان مثل هذا السيناريو قابلاً للتحقيق بالنسبة لروسيا في الوقت الحالي. ومع أنه من المغري بالنسبة لروسيا أن تواصل تقدمها، فقد ينتهي بها الأمر في وضع لا تستطيع فيه احتلال معظم النصف الشرقي من البلاد أو تعزيز سلطتها هناك، ما سيجبرها على الدخول في حرب دائمة وسط مثل هذه الظروف غير المواتية والمثيرة للارتباك إلى حد ما.
وخلال الأسابيع المقبلة سيتضح ما إذا كانت عوامل مثل الخسائر الكبيرة وبطء التقدم كافية لإجبار روسيا على الاختيار بين الانزلاق إلى حرب استنزاف مطوّلة قد لا تتمكن من الفوز بها، أو التفاوض على حل وسط مع أوكرانيا في أقرب وقت ممكن لدرء تداعيات حرب الاستنزاف.
المصدر: جيوبوليتيكول مونيتور