ترجمة وتحرير: نون بوست
فتح المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان تحقيقًا عن احتمالية ارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، مع سعيه الحثيث للحفاظ على الأدلة تزامنًا مع احتدام القتال. وتُعد جرائم الحرب انتهاكات خطيرة للقانون الإنساني الدولي الذي يضبط الأعمال العدائية وكيفية معاملة المدنيين والأسرى خلال الحرب.
مع وصول القوات الروسية إلى المدن الكبرى، تواترت أنباء عن شن غارات على أهداف مدنية مثل المباني السكنية والمدارس ورياض الأطفال والمستشفيات ومنشآت النفط والكهرباء. ومن الممكن أن يصبح الضرر الذي يلحق بالمدنيين أكبر بكثير مع انتقال المعارك الآن نحو المناطق المدنية هذا بالإضافة إلى حالة الإحباط التي تعيشها القوات الروسية بسبب المقاومة الأوكرانية.
ليست أوكرانيا عضوًا في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، لكنها قبلت مرتين الولاية القضائية للمحكمة تجاه أي جرائم دولية تُرتكب على أراضيها. ويمكن أن يشمل ذلك الجرائم المرتكبة من قبل الانفصاليين الموالين لروسيا أو القوات العسكرية الروسية أو الأوكرانية. ومع أنه لا يهم كون روسيا ليست عضوًا في المحكمة وأنها لم تقبل ولايتها القضائية، إلا أن هذا يعني أنها من المستبعد أن تتعاون مع المحكمة، كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة.
ما هي جريمة الحرب؟
عند النظر فيما إذا كانت جرائم الحرب قد ارتُكبت، تكمن العلة في التفاصيل القانونية. وهذا هو السبب في أن تحقيقات الطب الشرعي الجنائية مهمة للغاية لكشف الحقيقة ولقطع الطريق على الدعاية أو العاطفة الواضحة التي تطغى في النزاعات التي يتعرض فيها المدنيون للأذى.
لا يمنع القانون الإنساني الدولي إلحاق الأذى بالمدنيين أو ممتلكاتهم بشكل كامل، ويتسامح مع بعض الأضرار الجانبية التي قد تلحق بالمدنيين. لكن القانون لا لبس فيه عندما يتعلق الأمر بالهجمات المتعمدة ضد المدنيين والأهداف المدنية التي تعتبر جرائم حرب، ما لم يتم استخدام هدف مدني لأغراض عسكرية وبالتالي يصبح هدفًا عسكريًا أيضًا.
تعتبر الهجمات غير المتناسبة جرائم حرب أيضًا. وهي هجمات تُسبب خسائر مدنية مبالغ فيها مقارنة بالفائدة العسكرية المتمثلة في مهاجمة هدف عسكري. ويمكن أن يشمل ذلك، على سبيل المثال، هجومًا صاروخيًا على مبنى سكني تعلم القوات الروسية أنه سيؤدي إلى خسائر كبيرة في صفوف المدنيين مقابل مكاسب عسكرية قليلة.
يحظُر القانون الدولي أيضًا الهجمات العشوائية. ويمكن أن يشمل ذلك استخدام أسلحة معينة ضد أهداف عسكرية في مناطق مدنية كثيفة، مثل سلاح المدفعية والذخائر العنقودية والقنابل الحرارية “الفراغية”، التي قد يؤدي تأثيرها الواسع إلى إصابة المدنيين أيضًا.
سبق أن اتّهمت القوات الروسية باستخدام الذخائر العنقودية والقنابل الفراغية في المناطق المدنية في أوكرانيا. كما استُخدم كلاهما من قبل القوات الروسية في حروب الشيشان المدمرة في التسعينيات.
تشمل جرائم الحرب الأخرى تصفية المعتقلين والتعذيب وخطف الرهائن والاحتجاز غير القانوني والتدمير المتعمد للممتلكات. وقتل أو طعن أي شخص يرتدي الزي العسكري للطرف الآخر يعد جريمة حرب أيضًا (مثل المخربين الروس المحتملين الذين يرتدون زيًا أوكرانيًا)، أو من يرتدون الزي المدني دون أي شارة عسكرية (حيث يمكن أن يشمل ذلك المدنيين الأوكرانيين الذين يقذفون زجاجات المولوتوف).
من المحتمل أن تكون جرائم الحرب قد وقعت بالفعل
ليست هذه المرة الأولى التي تحقق فيها المحكمة الجنائية الدولية في جرائم مزعومة في أوكرانيا. فقد بيَّنت دراسة أولية أجرتها فاتو بنسودا، المدعية العامة السابقة للمحكمة الجنائية الدولية التي سبقت كريم خان، في سنة 2020 وجود “أسباب معقولة للاشتباه” في وقوع جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في شرق أوكرانيا وشبه جزيرة القرم منذ سنة 2014.
لم تشر بنسودا إلى الجهة المسؤولة عن ذلك مع أن الكثير من الانتهاكات يُحتمل أن تكون قد ارتُكبت من قبل القوات الروسية (في شبه جزيرة القرم)، وكذلك من قبل الانفصاليين الموالين لروسيا (في شرق أوكرانيا). وإلى الآن، لم يطلب مكتب المدعي العام تصريحًا من القُضاة لفتح تحقيق شامل. لكن خان أكد هذه النتائج حاليًا، وهو يرغب في فتح مثل هذا التحقيق الرسمي، بالإضافة لتوسيع نطاقه ليشمل الصراع الحالي.
تشمل الادعاءات في شبه جزيرة القرم كل شيء: القتل العمد والتعذيب والتجنيد الإجباري للمدنيين الأوكرانيين في الجيش الروسي والنقل القسري للسجناء المدنيين من الأراضي المحتلة. وفي شرق أوكرانيا، تشمل جرائم الحرب المزعومة القتل والتعذيب والاغتصاب وشن هجمات من شأنها أن تُسبب إصابات غير متكافئة في صفوف المدنيين.
يعتقد خان أن هذه الجرائم المزعومة شنيعة بما يكفي لتبرير المحاكمة في المحكمة الجنائية الدولية، وأن أوكرانيا وروسيا إما غير قادرتين أو غير راغبتين في هذا التحقيق. فلا يمكن لأوكرانيا احتجاز المشتبه بهم في مناطق لا تسيطر عليها، بينما تبدو روسيا غير مهتمة بمحاكمة أي شخص.
مع ذلك، لا تمتلك المحكمة الجنائية الدولية ولاية قضائية على جريمة العدوان الدولي – أي محاكمة الهجوم الروسي غير القانوني على أوكرانيا. ومن جهتها، تقدّمت أوكرانيا بادعاء أمام محكمة العدل الدولية بأن روسيا تغزوها بحجة وقف الإبادة الجماعية التي ترتكبها أوكرانيا، لكن هذه مجرد مناورة تخمينية. ولا تمتلك محكمة العدل الدولية الولاية القضائية للاستماع مباشرة إلى أي ادعاء بشأن ارتكاب روسيا عدوانًا.
وجود التحديات يجعل الملاحقات القضائية أمرًا مستبعدًا
يُرسل تحقيق المحكمة الجنائية الدولية رسالة مهمة إلى روسيا مفادها أنه لن يتم التسامح في الإفلات من العقاب بخصوص الجرائم الدولية. وهو ما يتناقض مع موقف المحكمة بخصوص أفغانستان، حيث جرى “تخفيض أولوية” التحقيق في جرائم الحرب المزعومة التي ارتكبتها الولايات المتحدة وقوات أجنبية أخرى السنة الماضية.
لكن لا تزال هناك عقبات كبيرة. فبمجرد فتح تحقيق رسمي سوف يستغرق إحراز تقدم سنوات عديدة. ويُعزى ذلك إلى صعوبة الحصول على الأدلة (المادية والرقمية) والحفاظ عليها أثناء القتال المباشر وحرب الدعاية المنتشرة. كما أن روسيا ستكون غير متعاونة.
مع ذلك، لا يُرجَّح من الناحية الواقعية أن تتم العديد من الملاحقات القضائية على الإطلاق هذا إن وُجدت. فعلى سبيل المثال، سيكون تحديد القادة العسكريين أو السياسيين الروس المسؤولين عن جرائم محددة أمرًا بالغ التعقيد والصعوبة. كما أن اعتقالهم في الأراضي التي تحتلها روسيا أو تسليمهم من قبلها سيكون شبه مستحيل. وخلال عقدين من الزمن، أدانت المحكمة الجنائية الدولية 10 أشخاص فقط، على الرغم من انتشار الجرائم الدولية في العديد من النزاعات.
وفي غالب الأمر، قد يفكر أي شخص متهم مرتين قبل السفر خارج روسيا أو أوكرانيا المحتلة في نهاية الأمر، حيث من الممكن أن يتم اعتقاله في 123 دولة عضو في المحكمة. ويوجد كذلك احتمال سقوط نظام بوتين في نهاية المطاف، وقد تكون الحكومة الروسية الجديدة أكثر انفتاحًا في سعيها لتحقيق العدالة. لذلك، من المهم جمع الأدلة والحفاظ عليها لأي جهود مساءلة في المستقبل.
وبعد أن فشلت جهود منع الصراع، فإن أقل ما يمكن أن يفعله المجتمع الدولي حاليًا هو توفير موارد أفضل لمكتب المدعي العام لإجراء تحقيقاته المهمة ومشاركة الأدلة والمعلومات الاستخباراتية ذات الصلة.
المصدر: الكونفرسيشن