ترجمة وتحرير: نون بوست
ظنّ الروس أن غزو أوكرانيا سيكون “حربًا خاطفة” لكن نجم عنه في المقابل صعوبات غير متوقعة تعود إلى المخاطر التي قد تنطوي عن أي حملة عسكرية هذا إلى جانب وجود مشاكل هيكلية واضحة.
قبل أسبوع، أمر فلاديمير بوتين بشن “عملية عسكرية خاصة” ضد أوكرانيا دون اكتراث لردّ الدولة التي تعرضت للغزو، وذلك لأسباب وجيهة. فنظريًا، كانت موازين المعركة غير متكافئة وكان يُعتقد أن أوكرانيا قد تنهار في غضون أيام قليلة بعد محاصرتها جوًا وبحرًا.
ومن خلال النشر المتزامن للقوات الروسية للسيطرة على المجال الجوي بينما تواصل القوات البرية تقدمها، كان رئيس الكرملين يهدف بالتأكيد إلى إسقاط كييف بسرعة ليضمن استسلام أوكرانيا بأكملها. ولكن في اليوم السابع من الغزو، لم تتمكن القوات الروسية على من السيطرة أي من المدن الأوكرانية الاستراتيجية (كييف، خاركيف، وأوديسا وماريوبول) باستثناء خيرسون على الرغم من أن الضغط شديد الخطورة في المناطق المحيطة بها.
لا يزال أمام الجيش الروسي مزيد من الخيارات. وفقًا للمؤرخ العسكري سيدريك ماس “استغرق انتشار أكثر من 50 بالمئة من القوات الروسية ثلاثة أيام، مع العلم أن العقيدة العسكرية السوفيتية تقوم على إشراك القوات تدريجيًا”. وحتى الآن، كان الجيش الروسي مقيّدًا نسبيًا بالضربات الدقيقة – على الأقل في البداية – مع إطلاق 400 صاروخ كروز منذ اليوم الأول لتحييد البنية التحتية الاستراتيجية العسكرية الأوكرانية، وذلك وفقًا لآخر حصيلة للبنتاغون نقلتها وسائل الإعلام الأمريكية.
تُرك الهجوم البري في الغالب لوحدات النخبة ولم يتم نشر الدبابات الروسية الحديثة على نطاق واسع بعد. باختصار، يبدو أن قوات فلاديمير بوتين لديها احتياطيات ولكنها قد تواجه المخاطر المعروفة في أي حملة عسكرية، بينما تواجه حاليًا صعوبات هيكلية.
قوات جوية غير مستغلة بما فيه الكفاية في الوقت الحالي
وفقًا لتحليل سيدريك ماس، راهن الكرملين “على أن أوكرانيا سوف تنهار بالقوة، وأن النظام سوف يستسلم، وأن الرئيس زيلينسكي سيهرب إلى خارج البلاد، كل ذلك قبل أن يكون لدى المجتمع الدولي الوقت الكافي للتحرك”. لكن يبدو أنه رهان خاسر وذلك ما يتضح من خلال الهجوم السريع على مطار هوستوميل، وهي منطقة استراتيجية تقع على بعد بضعة كيلومترات شمال كييف.
يوضح المؤرخ العسكري أن “الاستيلاء على مطار بالقوة يتطلب استيفاء عدد معين من الشروط: عنصر المفاجأة، والتفوق الجوي المطلق، وتشتيت انتباه العدو”. لكن يبدو أن الروس لم يحققوا أي شرط من هذه الشروط الثلاثة، ونتيجة لذلك كان المطار مسرحًا لاشتباكات طويلة وعنيفة بشكل خاص مما جعل الموقع غير صالح للاستخدام. وإذا لم تُحقق روسيا التفوق الجوي الكامل، فذلك لأنها لم تستغل قواتها الجوية منذ اليوم الأول للغزو بالشكل المطلوب.
يرى جوزيف هينروتين، رئيس تحرير مجلة الدفاع والأمن الدولي الفرنسية والمسؤول عن الأبحاث في مركز التحليل والتنبؤ بالمخاطر الدولية الفرنسي، فإننا “بعيدون عن رؤية كل أنشطتهم وذلك لسبب وجيه ألا وهو أن سلاح الجو الروسي يملك كميات قليلة نسبيًا من الذخائر الموجهة بدقة”.
بناءً على منطق عدم استهداف المدنيين والبقاء بعيدة عن الهجمات اختارت القوات الجوية الروسية الاكتفاء بصد الضربات الأوكرانية في الوقت الحالي، وقد شوهدت قاذفات القنابل التكتيكية سو-34 في سماء أوكرانيا لمدة يومين، وهي رموز لقوة أكبر بكثير.
التقليل من شأن المقاومة الأوكرانية
يبدو أن الجيش الروسي قلّل إلى حد كبير من شأن المقاومة الأوكرانية. ويؤكد جوزيف هينروتين أنه كان “هناك خلل حقيقي فيما يتعلق بالاستخبارات الاستراتيجية من الجانب الروسي”. ومن الواضح أن الدراسة المتعمقة “لهيكل وطريقة عمل وعقلية وإرادة المقاومة لدى الأوكرانيين كانت مفقودة. لقد اعتقد الروس حقّا أن أوكرانيا سوف تسقط دون بذل كثير من العناء”.
يعتقد سيدريك ماس أن “الاستخبارات الغربية تلعب دورًا حاسمًا” ويبدو أن أوكرانيا “كانت على علم بالتحركات الروسية مما مكنها من الاحتفاظ ببعض الاحتياطيات” وتوقع تحركات القوات لدرجة أن الدولة اختارت نشر قواتها الجوية قبل مرحلة الاستحواذ على المجال الجوي للهروب من الضربات. ويضيف المؤرخ أنها “لم تضطر بعد إلى استخدام أحدث معداتها وتمكنت من إعداد هجومها المضاد في المناطق المحيطة بكييف”.
ويرى جوزيف هينروتين أن البيانات الاستخباراتية ساعدت القوات الأوكرانية على إعاقة تقدم القوات الروسية وإحداث نوع من الفوضى. وتابع هينروتين أنه “بات من الواضح الآن أن تفجير القوات الأوكرانية للجسور كان الهدف منه عرقلة تقدم القوات الروسية”. لهذا السبب، تتقدم القافلة الكبيرة التي يقدر طولها بعشرات الكيلومترات المتجهة نحو العاصمة الأوكرانية كييف بشكل أبطأ من المتوقع بسبب عدم قدرتها على تجاوز النهر
صعوبات لوجستية وغياب المهارات
كشفت تطورات الأزمة الأوكرانية الروسية غياب التنسيق في أوساط الجيش الروسي. في هذا الصدد، يقول المؤرخ العسكري سيدريك ماس إن “عدم توقع القوات الروسية مثل هذه المقاومة الشديدة من طرف القوات الأوكرانية دفعها إلى التقدم بسرعة كبيرة متجاوزةً بذلك القوات الأوكرانية. وبدلًا من التركيز على اتجاه واحد، وقع تفريق القوات بغاية ضمان تواجدها في جميع الأماكن في وقت واحد”. لكن في ظل اعتماد مثل هذه الستراتيجية ستواجه القوات عدة مشاكل من بينها نقص الإمدادات.
ويضيف سيدريك ماس أن “الاستيلاء على المخزون الموجود في المستودعات الأوكرانية كان ليجعل من الممكن التغلب على هذه المشكلة اللوجستية”، لكن القوات الأوكرانية سارعت إلى تدمير هذه المستودعات تحسبا لسيطرة الجانب الروسي عليها.
يواجه الجيش الروسي مشاكل هيكلية أخطر بكثير. حيال هذا الأمر، يقول جوزيف هينروتين إنه “منذ ضم شبه جزيرة القرم في سنة 2014، أجرت القوات الروسية العديد من التدريبات في مجال عمليات التمركز والانتشار شاركت فيها عشرات الآلاف من القوات. وفقا للأحداث الأخيرة، يبدو أن هذه التدريبات أتت أكلها. لكن نشر هذا الكم الهائل من القوات لا يعكس بالضرورة مدى قدرتها على المناورة في ساحة المعركة”.
ويعتقد هينروتين أنه “كلما لجأ الجيش الروسي إلى استخدام أساليب قمعية في مراحل الحرب، زادت الصعوبات التي سيتعين عليه التغلب عليها. لذلك، يلجأ في ساحة الحرب إلى العديد من الاشتباكات ويميل إلى ارتكاب الأخطاء باستخدام وحدات لم توجه إلى الموقع الصحيح. هذه سلسلة كاملة من القرائن التي تثبت أن القوات الروسية لا تتحرك وفقًا للتوقعات”.
هل الجيش أقل قوة مما كان متوقعًا؟
يبدو أن عملية تحديث الجيش الروسي التي انطلقت منذ سنة 2008 لم تغطي جميع المجالات، لا سيما المتعلقة بالاتصالات. وحسب ما أفادت به إيزابيل فاكون، نائب مدير مؤسسة الدراسات الاستراتيجية، “تم في وقت سابق الإعلان عن رقمنة القوات لكن التطورات الأخيرة تظهر أن القوات الروسية لا زالت تستخدم أجهزة الاتصال اللاسلكية والهواتف المحمولة. ودون أجهزة مشفرة، يمكن بسهولة التنصت على القوات الروسية بشكل واضح”.
كما أشارت إيزابيل فاكون إلى المشاكل المتعلقة بالموظفين منذ نهاية الحرب الباردة ووجود انطباع بإنتشار الإحباط وسط الجنود.
تعليقًا على ذلك تساءلت فاكون “هل كانوا غير مستعدين؟ هل لم يحيطوا علما بأهداف التدخل التي تستند مما لا شك فيه إلى تقييمات سيئة؟ إن مسألة التدخل من خلال عملية بهذا الحجم في بلد تجمعه بروسيا العديد من الروابط الثقافية والاجتماعية لم يكن واضح المعالم بالنسبة لهم على ما أعتقد”.
تشير إيزابيل فاكون إلى أن القوات العسكرية الروسية تركت انطباعا غير مألوف بسبب سرعة الجيش وقوات النخبة مثل القوات المجوقلة (القوات المنقولة جوا وتكون في الغالب وحدات من المشاة الخفيفة يتم إنزالها بالمظلات خلف خطوط العدو) وقُوات المارينز وتعزيز هيئة الأركان العامة في السنوات الأخيرة، مع أن عددا كبيرا من القوات لم يتلقى التدريبات اللازمة ويفتقر إلى الحوافز. لكن هل هذا يكفي لشرح وصول القوات الشيشانية أو مرتزقة فاغنر إلى هناك؟ إن ضعف أداء القوات سيدفع روسيا إلى البحث عن قوات بديلة متحمسة وتمتلك خبرة عسكرية واسعة”.
تعقيبًا على ذلك يقول هينروتين إن “الوضع الناتج عن هذه التطورات يمثل مشكلة حقيقية بالنسبة لروسيا، التي تتباهى بشكل دائم بقواتها العسكرية. من الناحية النظرية، يدرك العالم أن القوة الروسية لا تضاهيها قوة أخرى، لكن من الناحية العملية تبدو المسألة أكثر تعقيدا من المتوقع”.
من جانبه، يرى سيدريك ماس أن خيوط اللعبة انفلتت من بين يد روسيا وسارت الأمور على عكس ما خططت له، ومع أن جيشها يواجه العديد من التحديات غير أنه لا يزال في ساحة الحرب. ينبه هينروتين إلى “خطر حدوث اشتباكات قد يدفع الجيش الروسي إلى استخدام القوة النارية، الأمر الذي سيمثل بداية نوع آخر من الهجمات التي تقوم على الاستخدام المكثف للمدافع – وهو ما يُشتهر به الجيش الروسي – من أجل تخطي العقبات التي تعترض طريق القوات البرية. واتباع هذه الاستراتيجية قد يشكل خطرًا على حياة الجنود والمدنيين على حد سواء”.
المصدر: لوفيغارو