في العصور الوسطى، وبينما كانت تغرق أوروبا في ظلامها، ازدهرت الحياة العملية في فلسطين، وكانت الأرض المقدسة زاخرة بالعلم، وقد قطعت شوطًا كبيرًا في الثقافة، واتّسمت هذه الحياة الثقافية بالصفة الدينية حيث الاهتمام بدراسة أصول الفقه والحديث وعلم الكلام ومسائل الخلاف واللغة، وأخرجت هذه المرحلة أعلامًا في الساحة الدينية والعلمية والثقافية.
لكن فترة الصعود هذه كان لا بدّ أن تشهد فترات فتور، خاصة مع تدفق الأزمات الداخلية والخارجية على الدولة العثمانية التي حكمت أغلب المنطقة العربية لأكثر من 400 عام، وقد رأت أوروبا، التي كانت في أوج حملاتها التبشيرية بعدما أنهت ظلامها، في ترهُّل الحياة الثقافية في فلسطين، فرصةً لتزرع بذور ثقافتها الدينية والعلمية، وإنشاء المدارس الدينية الخاصة في البلاد المقدسة، واستغلالها كمدخل للتغلغل في أواصر الفلسطينيين، ولم تكن الدولة الروسية الممتدة على اتساع رقعتها الجغرافية الأكبر، بمعزل عن أطماع الولوج في الحياة الثقافية الفلسطينية.
الحياة الدينية: مدخل روسيا في فلسطين
بدأ الغرب بإرسال بعثاته وتبشيراته إلى الأراضي الفلسطينية -وبقية الدول العربية- تحت ما أسماه بالمساعي لـ”حماية المسيحيين” العرب، وبدأ هذا النشاط من خلال تزويد الكنيسة الكاثوليكية فلسطين بعدد وافر من المترجمين المسيحيين، الذين يتقنون لغات أجنبية كالفرنسية والإيطالية، للعمل في الأديار والكنائس، وعليه أنشأ الآباء الفرنسيسكان أول مدرسة في بيت لحم في القرن الـ 16، وتلاها إنشاء 6 مدارس أخرى على النهج ذاته في القرن الـ 17.
وفي السياق نفسه، توسّعت أعمال الكنيسة البروتستانتية ونشاطها في الأراضي المقدسة، وبدأت بإرسال بعثاتها الإنجليزية والألمانية والأمريكية، وأقامت مدارس في القدس ونابلس وبيت لحم والناصرة ويافا واللد والرملة، منها مدرسة سان جورج والمدرسة الإنجليزية ومدرسة صهيون.
في ظلّ هذا التمدُّد الروسي في فلسطين تحت مظلة الأرثوذكس، كانت الدولة الروسية تحمي اليهود المتصهينين، واعتبرتهم رعايا لا يحقّ لأحد التعرض لهم، وما كان للأخير إلا أن تنعّم بهذه الحماية
وسط هذا كله، يذكر الباحث حنا أبو حنا في كتابه “طلائع النهضة في فلسطين (خريجو المدارس الروسية)” أن الدولة الروسية كانت آنذاك ترفع لواء الأرثوذكسية، وقد وطّدت علاقاتها بالأرثوذكس في الدولة العثمانية، وذلك في معاهدة كوتشوك كاينرجي عام 1774، وسارعت على إثرها إلى التحرك تحت شعار “استرداد الخراف الضالة”، و”عضد الأرثوذكسية في البلاد المقدسة”، في ظل تنامي النشاط البروتستانتي والكاثوليكي في فلسطين.
تحقيقًا لشعارها، أنشأت روسيا شبكة مدارس في فلسطين، بلغ عددها، بحسب ما يرويه الباحث أبو حنا في كتابه، 114 مدرسة تتلمذ فيها ما يقارب 15 ألف طالب وطالبة حتى الحرب العالمية الأولى، وبرزت هذه المدارس بشكل خاص في منطقة الجليل والناصرة.
الحضور الروسي الثقافي: دعم الصهيونية
هذه العلاقات بين روسيا والأرثوذكس في الدولة العثمانية كان لها ما بعدها سياسيًّا، خاصة مع ما يحتله الأرثوذكس من الطائفة المسيحية الأكبر في الدولة العثمانية، حيث استغلت قبّعتها الدينية للتدخل في الحياة الإدارية والاجتماعية في المنطقة خلال فترة الحكم العثماني، بدءًا بإيفاد قنصل روسي إلى المنطقة وبناء مكاتب تابعة له لخدمة الحجّاج الروس، خاصة في مدينتَي يافا والقدس.
في عام 1882، تشكّلت الجمعية الروسية الفلسطينية، التي نظّمت نشر مجلات الدراسة الفلسطينية، وتولت لاحقًا إدارة الممتلكات الروسية في البلاد، ووسّعت حركة تملُّك الأراضي والتغلغل في المجتمع الفلسطيني، من خلال بناء المدارس والمستشفيات ودور العبادة، مستغلة قانون الأراضي العثماني الذي أتاح تحويل أراضي الدولة إلى ممتلكات خاصة، عوضًا عن عمليات الاستملاك التي كانت تمارسها القنصليات الأجنبية، متّكئة على الامتيازات والمعاهدات والتسهيلات السلطانية الناتجة عن الحروب والأحداث السياسية، خاصة خلال القرن الـ 19.
وفي ظلّ هذا التمدُّد الروسي في فلسطين تحت مظلة الأرثوذكس، كانت الدولة الروسية تحمي اليهود المتصهينين، واعتبرتهم رعايا لا يحقّ لأحد التعرض لهم، وما كان للأخير إلا أن تنعّم بهذه الحماية، واستغلَّ الامتيازات، وعزّز من حضوره في فلسطين، لا سيما بعد مؤتمر بازل الصهيوني الأول عام 1897، والإعلان فيه عن فكرة دولة “إسرائيل”، وقد استفادوا مطلع القرن الـ 20 من “تضييقات مقصودة بحقهم” كما ادّعوا في الإمبراطورية الروسية، وزادوا من سيل الهجرة إلى الأرض المقدسة.
بعد قدوم الاتحاد السوفيتي على أنقاض الإمبراطورية الروسية، وظهور ملامح الدولة العلمانية في روسيا، عانت الجمعيات التبشيرية الروسية في فلسطين من شحّ الإمدادات والتمويل، ووصلت الكنيسة الروسية إلى أدنى مستوياتها من حيث التأثير، خاصة في ظل وجودها تحت حكم انتداب بريطاني على فلسطين لم يعترف بالاتحاد السوفيتي في ظل صراع قطبَي العالم، وقد أفرز عدم الاعتراف هذا ضبابية على حال الممتلكات الروسية في فلسطين.
يعزي بعض المحللين الموقف السوفيتي إلى اعتقاد السوفيت أن المجتمع اليهودي في فلسطين “بملامحه الاشتراكية البارزة” سيكون حقلًا سهلًا لانتشار الشيوعية، ودوران الدولة الجديدة في فلك السياسة السوفيتية
ولاحقًا، كان الاتحاد السوفيتي داعمًا لمطلب الحركة الصهيونية إنشاء دولة يهودية للمستوطنين الصهيونيين اليهود في فلسطين، والذي اتّخذه ستالين عام 1947، وكان لهذا الدعم دور مهم للغاية في منح شرعية دولية لإنشاء دولة يهودية للمستوطنين اليهود في فلسطين، وفي استصدار قرار التقسيم، سوية مع الدول الاستعمارية، في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947، لخدمة هذا الغرض.
ويعزي بعض المحللين الموقف السوفيتي إلى اعتقاد السوفيت أن المجتمع اليهودي في فلسطين “بملامحه الاشتراكية البارزة” سيكون حقلًا سهلًا لانتشار الشيوعية، ودوران الدولة الجديدة في فلك السياسة السوفيتية، وأن التوجُّهات الاشتراكية للمهاجرين اليهود من الكتلة الشرقية سيكون لها تأثير كبير على مستقبل العلاقات السياسية بين الاتحاد السوفيتي والدولة اليهودية القادمة.
كما أدرك الاتحاد السوفيتي في وقت مبكر أن فكرة ديمومة “إسرائيل” قائمة على استقطاب المستوطنين من شتى أنحاء العالم، وتوفير الأمن لهم، وفي ذلك الوقت كانت النسبة العظمى من اليهود يعيشون في أوروبا الشرقية التي أصبحت تحت مظلة الاتحاد السوفيتي حينها.
واعتقد الاتحاد السوفيتي أن بمقدوره استثمار هذا العدد الكبير من اليهود في أراضيه كقوة ضغط سياسية للتأثير على حياة الدولة اليهودية واستقطابها إلى جانبه، ومن جهة أخرى استخدام اليهود السوفيت المهاجرين إلى “إسرائيل” كحصان طروادة لتهريب عناصر شيوعية موالية لموسكو إلى الشرق الأوسط.
من غير المؤكد بعد متى بدأت فكرة الصهيونية في التبلور في العالم، أهي فكرة تمخّضت في القرن الـ 19 أم كانت تضرب جذورًا استيطانية قديمة في تاريخ العصور الوسطى؟ لكن الشواهد على الأرض، وفي عُرف السياسة، أشارت بوضوح إلى أن الإمبراطورية الروسية مهّدت، من خلال كنائسها وبعثاتها التبشيرية في الأراضي الفلسطينية، الطريقَ أمام المستوطنين، قبل أن يؤيّد الاتحاد السوفيتي فكرة الدولة الصهيونية على الأراضي ذاتها التي اُبتعث إليها مبشروه.