رغم أن الحرب الروسية الأوكرانية بعيدة عن المنطقة العربية، إلا أن تأثيراتها السلبية وصلت العرب لارتباطهم الوثيق بكلا الطرفين على أكثر من صعيد، ما جعلَ دولًا عديدة تدقّ نواقيس الخطر لتدارك الكارثة سواء على المستوى الأمني أو الاقتصادي. وفي ظل هذه الظروف، يمكن لبعض الدول العربية على غرار الجزائر الاستثمار في الحرب وحسن استغلالها اقتصاديًّا على وجه الخصوص، وذلك من خلال استغلال ارتفاع أسعار النفط وحاجة الأوروبيين إلى بديل عن الغاز الروسي، الذي يتوقع أن يتمَّ وقف العمل به في أي لحظة.
تأثيرات سلبية على السوق العربية
رغم البُعد الجغرافي لأوكرانيا وروسيا عن العالم العربي، إلا أن تأثير الحرب المتواصلة منذ 10 أيام تقريبًا سيكون كبيرًا على العرب، خاصة إذا علمنا أن عدة بلدان عربية تستورد عادةً الحبوب وخاصة القمح من روسيا، أول مصدر عالمي لهذه المادة الحيوية، وأوكرانيا التي تحتل المرتبة الرابعة دوليًّا، حيث تستورد الدول العربية مجتمعة 60% من احتياجاتها للحبوب من روسيا وأوكرانيا إضافة إلى فرنسا ورومانيا، وتستورد مصر مثلًا 50% من القمح من روسيا و30% من أوكرانيا، أما تونس فتستورد 60% من القمح من أوكرانيا وروسيا، وفي خصوص لبنان فإنه يستورد بين 600 و650 ألف طن سنويًّا 80% منها من أوكرانيا.
تواصُل الحرب بين الطرفَين سيؤدّي تلقائيًّا إلى وقف الحركة التجارية، ما يعني ضرورة التجاء الدول العربية إلى بلدان أخرى لاستيراد الحبوب، ما سيزيد من رفع أسعارها لعدة أسباب لم تضع الميزانيات العربية لها حساب، حيث بلغت أسعار القمح أعلى مستوى في شيكاغو منذ 14 عامًا، إذ وصلت إلى 344 يورو للطن.
سيحمّل ارتفاع أسعار النفط ميزانيات الدول غير النفطية أعباء كبيرة لاعتمادها على استيراد جزء كبير من احتياجاتها النفطية
في السياق نفسه، حذّر معهد الشرق الأوسط للأبحاث من أنه “إذا عطّلت الحرب إمدادات القمح” للعالم العربي، الذي يعتمد بشدة على الواردات لتوفير غذائه، “قد تؤدي الأزمة إلى مظاهرات جديدة وعدم استقرار في عدة دول”.
لا تمس التأثيرات السلبية الأمن الغذائي العربي فقط، إذ تمتدّ التأثيرات إلى قطاع الطاقة ويمسّ خاصة الدول العربية غير النفطية، في ظلّ ارتفاع أسعار النفط في السوق العالمية وبلوغه 105 دولارات للبرميل الواحد، وفي هذه الحالة سيحمّل ارتفاع أسعار النفط ميزانيات الدول غير النفطية أعباء كبيرة لاعتمادها على استيراد جزء كبير من احتياجاتها النفطية، ما سيزيد من مشكلة عجز الموازنة في تلك الدول، وأيضًا سيرتفع الدين العام الخاص بها، الأمر الذي يشكّل ضغطًا جديدًا على الطلب على النقد الأجنبي.
ستؤثر الحرب على المجال السياحي أيضًا، فعدة دول على غرار تونس ومصر تستقبل حصة مهمة من الوفود السياحية من أوكرانيا وروسيا، وتواصُل الحرب سيؤدّي إلى تراجع أعداد السائحين من هاتين الدولتَين، ما سيؤثر في إيرادات السياحة.
استثمار الجزائر للحرب اقتصاديًّا
“مصائب قوم عند قوم فوائد”، ينطبق هذا المثل على الحالة الجزائرية الآن، فالحرب الروسية الأوكرانية لها أن تعود بفوائد كبيرة على الجزائر -التي يعاني اقتصادها من مشاكل كبرى- إن أحسنت استثمار الأزمة لصالحها، فخلال إعدادها لموازنة عام 2022، راهنت الحكومة الجزائرية على سعر مرجعي لبرميل النفط الخام قدره 45 دولارًا، و50 دولارًا كسعر السوق لبرميل النفط الخام، لكن هذا السعر تضاعف على أرض الواقع بفعل الحرب الروسية.
⛽
إذا استمر الوضع الحالي قد يصل سعر البرميل إلى 150 دولار
#نفط #غاز #الجزائر #Algerie#الحرب_الروسية_الاوكرانية #UkraineRussiaWar
?️ pic.twitter.com/jbW154ExJ3
— Mohamed Amine NACIB © ?? (@Amine_today) March 1, 2022
قفزت أسعار خام برنت القياسي العالمي خلال تعاملات أمس الخميس إلى مستويات قياسية، إذ قاربت الـ 120 دولارًا للبرميل، وتجاوز سعر خام غرب تكساس الوسيط الأميركي الخميس 115 دولارًا للبرميل الواحد في رقم قياسي منذ عام 2008.
الحرب الروسية الأوكرانية فرضت على الدول الأوربية البحث عن موردين جدد للغاز المسال، وبعد ترشيح غاز الجزائر بديلا للروسي ، هاهي إيطاليا أولى اللاجئين للتفاوض بهذا الخصوص pic.twitter.com/kSdUfzim2i
— أوراس | Awras (@AwrasMedia) February 28, 2022
بدوره وصل سعر خام النفط الجزائري “صحاري بلاند” إلى مستوى 115 دولارًا للبرميل في تعاملات الخميس، بارتفاع قاربت نسبته 4%، بذلك أصبح الخام الجزائري الأغلى سعرًا بين جميع خامات المنتجين من منظمة “أوبك” ومن خارجها، ويعود ارتفاع أسعار النفط إلى تخوف المستثمرين من تأثر إمدادات النفط من روسيا، أحد أبرز منتجي الخام في العالم، بالأزمة الأوكرانية.
يأمل الجزائريون أن تستثمر بلادهم هذه الفرصة لإنعاش الاقتصاد المتدهور، إذ تشهد الجزائر نسبة عجز كبيرة في الموازنة العامة نتيجة ارتفاع فاتورة الاستيراد، كما ارتفعت نسبة التضخم في الفترة الأخيرة، والشيء نفسه بالنسبة إلى الأسعار.
فكّ العزلة الإقليمية
لا تقتصر فوائد الجزائر من الحرب على ارتفاع أسعار النفط، وإنما تمتد لتصل إلى الغاز أيضًا، ومن المعروف أن روسيا تمدّ دول الاتحاد الأوروبي بالنسبة الأكبر من الغاز سنويًّا، وهذه النسبة يُخشى أن تتراجع في ظلّ العقوبات الغربية على موسكو وتوتُّر العلاقات بين الطرفَين نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية.
تواصُل الغزو الروسي لأوكرانيا، ووقف ألمانيا العمل في خط أنابيب الغاز “نورد ستريم 2” الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا ومنها إلى أوروبا، أثارا قلقًا كبيرًا في أوروبا من مواجهة نقص في إمدادات الغاز، ما جعل الأوروبيين يبحثون عن شركاء جدد لسدّ النقص الفوري إذا أوقفت روسيا الإمدادات.
يُذكر أن الاتحاد الأوروبي يعتمد على روسيا في الحصول على أكثر من ثلث احتياجاته من الغاز، وأي انقطاع في التدفقات من شأنه أن يزيد نقص الإمدادات الذي أدّى بالفعل إلى ارتفاع فواتير المستهلكين بشدة في عدة دول أوروبية.
يمكن للنظام الجزائري أيضًا استغلال هذا الأمر فيما يخصّ مسألة الصحراء الغربية، ذلك أن الغرب يميل نوعًا ما إلى وجهة النظر المغربية في هذا الشأن
تبدو الجزائر الوجهة الأمثل للأوروبيين، حيث زار وزير الخارجية الإيطالي، لويجي دي مايو، الجزائر بداية الأسبوع، لإجراء محادثات حول زيادة إمدادات الغاز من الدولة الواقعة شمال أفريقيا، للتعويض عن النقص المحتمل في الإمدادات الروسية بسبب غزو أوكرانيا.
وتمدّ الجزائر الغاز إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب العابرة للبحر الأبيض المتوسط وفي ناقلات الغاز الطبيعي المسال، وتعدّ الجزائر اليوم ثاني أكبر مصدر للغاز في إيطاليا بعد روسيا مباشرة، كما تصدّر الجزائر الغاز لفرنسا وإسبانيا أيضًا.
اشد البلاء فوق هاد الارض، هو يكون في مناصب الحكم في بلادك ناس اغبياء، في عز الازمة الروسية الاوربية وطبول الحرب التي تقرع صباح مساء، والبحث عن مصادر الطاقة للدول الاوربية تعوضهم عن غاز روسيا، اختارت الجزائر اتباع اهواءها وعجرفتها ونزواتها، فاغلقت انبوب الذي يربطها باوربا،??
— Harraz (@Harraz50920257) February 23, 2022
يمكن للجزائر أن تستغلَّ فرصة مدّ الأوروبيين بالغاز واستثمار ذلك اقتصاديًّا وسياسيًّا، فمن الناحية الاقتصادية ستجني الجزائر أموالًا هائلة إضافية لدعم موازنة الدولة وسدّ العجز المتواصل منذ سنوات، أما على المستوى السياسي فيمكن للنظام الجزائري فكّ عزلته الإقليمية وفرض شروطه على الغرب، كما يمكن لنظام عبد المجيد تبون استعادة دور الجزائر في المنطقة وإعادة ربط علاقاتها بأوروبا، من خلال استغلال حاجة الأوروبيين إلى الطاقة، خاصة أن العلاقات الأوروبية الجزائرية ليست على أحسن ما يُرام منذ وصول تبون للسلطة في انتخابات ديسمبر/ كانون الأول 2019.
يظهر جليًّا أن النظام الجزائري لا يُريد خسارة الحليف الروسي، خاصة أنه على يقين من أن الأوروبيين سيتخلون عنه مباشرة عقب انتهاء الحرب
عرفَ النظام الجزائري ضغطًا أوروبيًّا كبيرًا خاصة في مسألة الحريات، مع تزايُد الانتهاكات في صفوف نشطاء الحراك والزجّ بعدد كبير منهم في السجن رغم ادّعاء النظام سعيه وراء الحوار، ومن المتوقع أن يستغلَّ نظام تبون حاجة الأوروبيين للغاز لفرض شروطه.
كما يمكن للنظام الجزائري أيضًا استغلال هذا الأمر فيما يخص مسألة الصحراء الغربية، ذلك أن الغرب يميل نوعًا ما إلى وجهة النظر المغربية في هذا الشأن، وهو منح الصحراء الحكم الذاتي، فيما تصرّ الجزائر على حق البوليساريو في دولة مستقلة.
إضاعة الفرص؟
جعل الغزو الروسي لأوكرانيا أوروبا تفكر في وجهات جديدة لجلب الغاز علّها تحقق اكتفاءها الذاتي، وهو ما مثّل فرصة مهمة للجزائر إن أحسنت استغلالها، لكن الإعلامي الجزائري رياض المعزوزي يرى أن النظام في بلاده امتهنَ إضاعة الفرصة، إذ يقول المعزوزي في حديثه لـ”نون بوست”: “العلاقات المتينة بين الجزائر وروسيا ستكون حجر عثرة أمام استغلال النظام لهذه الفرصة”، مستبعدًا أن تتوجّه بلاده نحو تعويض الغاز الروسي لأوروبا، وبالتالي ستفقد الجزائر فرصة جديدة وفق قوله.
يرى المعزوزي أن نظام عبد المجيد تبون سيغلّب العلاقة مع روسيا على حساب مصلحة الجزائر وشعبها، وبذلك ستكون البلاد “أمام حلقة جديدة من مسلسل ضياع الفرص الذي دأب عليه الجزائريون منذ سنوات عديدة”.
الجزائر حليف إقتصادي و سياسي مع روسيا منذ القدم طبعا في المجال العسكري أيضا و لا ننسى الصفقة التي أبرمتها الجزائر من أجل شراء مقاتلات الصوخوي 35 و أخيرا نحن تقريبا نفس العقلية في تسيير شؤون البلاد
( ممكن يكون تعبير مجازي ) و لكن حب الوطن يدفعنا لإعلاء شأن الجزائر بين الدول . pic.twitter.com/tkWfFxH9fE
— رضا جزائري (@KoubaReda) February 24, 2022
ويعتقد أن نظام بلاده لا يمكن أن يكون في صراع مصالح مع موسكو، خاصة أن روسيا تُعتبر المزوّد الأول للسلاح للجزائر، كما أن الروس يُعادون المغرب بسبب الجزائر وقضية الصحراء الغربية، أي أنه ليس من السهل على النظام الجزائري أن يتخلى عن الحليف الروسي.
يبيّن المعزوزي أن الجزائر في هذه الفترة في وضعية حرجة، فهي بين مطرقة مصلحتها في الغاز الذي سيثري الخزينة العمومية وتوطيد علاقاتها مع الأوروبيين، وسندان العلاقات التي تربطها مع روسيا الاتحادية، ما يعني أن الجزائر ستعيش ضغوطًا من المعسكر الشرقي بقيادة روسيا التي ترى الجزائر بوابتها نحو أفريقيا، وجزءًا مهمًّا لمستقبل علاقاتها مع دول المتوسط، ومن المعسكر الغربي الذي يطمح في ضمّ الجزائر إلى صفه.
وما يؤكد أن النظام الجزائري سيضيّع الفرصة التي بين يديه، اختياره الصمت وعدم إدلاء أي موقف سياسي في الحرب الجارية بين روسيا وأوكرانيا، إذ اكتفى بالحديث عن رعاياه ومحاولات إجلائهم من أوكرانيا، في ظل تواصُل الحرب وعدم وجود بوادر لوقفها في القريب العاجل، حتى خلال جلسة الأمم المتحدة الأخيرة التي انتهت بإصدار قرار يدين روسيا، اختارت الجزائر الامتناع عن التصويت، ما يعني أنها قد تكون في صف الروس.
#الجزائر بكل ثقلها امتنعت عن التصويت على قرار يدين #روسيا لأنها بكل بساطة دولة قوية ذات سيادة، مستقلة بقراراتها، ولا تقبل الاملاءات من أحد تحت أي ظرف كان.. #الحرب_الاوكرانيه_الروسيه
— Leila BAÏR ليلى بعير (@LeilaBair1) March 2, 2022
يُفهم ذلك أيضًا من خلال مسارعة مدير شركة المحروقات الحكومية سوناطراك، إلى رفع دعوى قضائية ضد صحيفة “ليبرتي” المحلية، بتهمة “التلاعب وتحريف تصريحاته”، حيث عنونت في تقرير لها “الجزائر مستعدة لتزويد الأوروبيين بإمدادات الغاز”، بما يعني تعويض الغاز الروسي.
وقالت شركة سوناطراك إن العنوان الذي وُضع في الصفحة الأولى هو من وحي الجريدة ولا يتناسب مع محتوى الحوار، وقد نُقل عن الرئيس التنفيذي للشركة توفيق حكار، يوم الأحد، قوله إن الشركة “ستبقى شريكًا ومموّنًا موثوقًا للغاز الطبيعي لأوروبا”، مضيفًا أن الشركة مستعدة لدعم شركائها في القارة “على المدى الطويل في الأوقات الصعبة”.
يظهر جليًّا أن النظام الجزائري لا يُريد خسارة الحليف الروسي، خاصة أنه على يقين من أن الأوروبيين سيتخلون عنه مباشرة عقب انتهاء الحرب، وعلى ذلك يبدو أن الجزائر ترى أن إبقاء الأبواب الدبلوماسية مفتوحة بينها وبين الكرملين أفضل من الغنائم الاقتصادية التي قد تستحوذ عليها خلال فترة الحرب الحالية.