خالفت العاصمة الأوكرانية كييف توقعات كل من قال إنها ستسقط سريعًا عند بداية الغزو الروسي في نهاية شهر فبراير/شباط الماضي، حيث ما زالت المدينة صامدة أمام ضربات الجيش الروسي وتوغّله المستمرَّين في مناطق البلاد كافة.
لم تصدر تلك التوقعات من خبراء أو محلِّلين فحسب، إنما خرجت من أروقة صنع القرار في عدة دول أهمها أمريكا، حيث أخبر رئيس هيئة الأركان المشتركة، الجنرال مارك ميلي، المشرّعين بأن “كييف قد تسقط في غضون 72 ساعة إذا حدث غزو روسي واسع النطاق لأوكرانيا”. مع العلم أن عدة مدن في عموم أوكرانيا تشهد معارك عنيفة وهي صامدة أيضًا أمام ضربات الجيش الروسي، مثل مدن خاركيف وأوديسا وميكولاييف وماريوبول.
ولحماية أراضيها، حثّت سلطات المدينة السكان على القتال ضد الجيش الغازي، من خلال إعداد زجاجات حارقة لانتفاضة المواطنين إذا اخترق المقاتلون الروس خطوط الدفاع، وتوزيع الجيش الأوكراني الأسلحة للمواطنين الراغبين في القتال للدفاع عن بلادهم، وافتتاح مكاتب لتجنيد المتطوعين، وأول اختراق حدث في كييف من قبل عملاء للقوات الروسية وجنود روس يرتدون زي العساكر الأوكرانيين، حيث تقدموا إلى منطقة أوبولون شمالي كييف التي تبعد عن مركز المدينة ما يقارب الـ 10 كيلومترات.
إثر تلك الاشتباكات التي كادت تودي بالعاصمة كييف، أعلنَ الرئيس زيلينسكي أن قواته تمكّنت من صد الهجوم الروسي، واستمرت في السيطرة على المدينة والمدن الرئيسية المحيطة بها، ومدّدَ حظر التجوال المفروض من الخامسة مساء حتى الثامنة صباحًا، واعتبرَ من قام بالهجوم “مجموعات التخريب أو الاستطلاع الروسية”. ورغم ذلك ما زالت الضربات الروسية القوية تستهدف مناطق متعددة من العاصمة، متسبِّبة في دماء هائل وقتلى بين المدنيين الذين آثروا البقاء في مدينتهم.
وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن صمود العاصمة الأوكرانية أحدث فارقًا كبيرًا في طبيعة المعارك، كما أنه أدّى إلى تباطؤ التحرك الروسي وتغيير في الخطط والتكتيكات، لأنه كانت التوقعات ترجح سقوط هذه المدينة خلال ساعات وليس أن تصمد لأيام في وجه ثاني أقوى الجيوش في العالم.
الرئيس وإدارته الحكيمة
أعطى الرئيس الأوكراني زيلينسكي دافعًا قويًّا لصمود العاصمة التي يقيم فيها، رغم محاولات إقناعه بمغادرة البلاد، أو حتى مغادرة كييف إلى مدينة لفيف حيث الاشتباكات تكون بعيدة عنه، إلا أنه تمسّك في أكثر من مرة ببقائه في العاصمة وحرصه على المشاركة في القتال، حيث ردّ على دعوات خروجه بأن “المعركة هنا، أنا بحاجة إلى ذخيرة، وليس توصيلة”.
كما قال: “نحن لا نلقي السلاح”، وقال أيضًا إنه “حسب معلوماتنا، فقد حددني العدو (روسيا) كهدف رقم 1، وعائلتي كهدف رقم 2. إنهم يريدون تدمير أوكرانيا سياسيًّا من خلال تدمير رئيس الدولة. ولدينا معلومات أن مجموعات التخريب المعادية دخلت كييف”.
وظهر زيلينسكي في مقاطع فيديو وهو يمشي في شوارع كييف، وأخرى في قصره الرئاسي، وذلك للردّ على الشائعات التي ظهرت ومفادها أنه طلب من الجيش الاستسلام للقوات الروسية، وقال: “انتشرت الكثير من الأخبار الكاذبة على الإنترنت، وأنني طلبت من الجيش تسليم أسلحته، وعن عمليات إجلاء. لكنني هنا. لن نستسلم وسندافع عن دولتنا”.
وإلى جانب الرئيس زيلينسكي، فقد حضر عدد من المسؤولين الأوكرانيين الذين يُعتبرون حاليًّا قيادات الصف الأول في وجه روسيا، حيث يبرز اسم رئيس الوزراء الأوكراني دينيس شميهال وحكومته، اللذين يعملان على منع الاضطرابات في إمدادات المواد الغذائية والأساسية للسكان، بالإضافة إلى حضور واضح لأوليكسي ريزنيكوف وزير الدفاع، الذي يقود مفاوضات بلاده مع روسيا هذه الأوقات إلى جانب مستشار مدير مكتب الرئيس ميخايلو بودولياك.
يعدّ بقاء الرئيس الأوكراني في كييف من الأسباب التي أدّت إلى صمود كييف، بالإضافة إلى تماسُك المناطق الأخرى، ولعلّ ما فعله زيلينسكي خلال هذه الحرب جعل منه هدفًا لموسكو التي دأبت على إرسال فِرَق لاغتياله، حيث قالت صحيفة “ذا تايمز” البريطانية إن زيلينسكي نجا من 3 محاولات اغتيال خلال الأسبوع الأول من الحرب المستعرة.
وأضافت الصحيفة أن الكرملين أرسل مجموعة من مرتزقة “فاغنر” وقوات شيشانية خاصة إلى أوكرانيا من أجل قتل زيلينسكي، وتتحدث الصحيفة عن أن أشخاصًا ضمن القيادة الروسية هم من نبّهوا القيادة الأوكرانية لخطر الاغتيال، وتقول الصحيفة إن هؤلاء العناصر هم من الطرف المناهض للحرب داخل جهاز الأمن الفدرالي الروسي.
المقاومة الأوكرانية
ربما فاجأت المقاومة الشرسة التي قابل بها الأوكرانيون الروس الدول التي توقعت سقوط أوكرانيا سريعًا، ما دفع أن زعماء عدة دول غربية توجّهوا بالتحية لمقاومة الجيش والشعب الأوكراني.
وفي هذا السياق يقول الجيش الأوكراني إنه قتل 9 آلاف جندي روسي خلال أسبوع من المعارك، وأسقط 29 طائرة حربية و29 مروحية بينما دمّر 189 دبابة، لكن في الطرف المقابل أعلنت روسيا أنها خسرت ما يقرب من 500 عنصر من جيشها في المعارك الجارية، كما أعلنت تدمير 1612 من مرافق البنية التحتية العسكرية في أوكرانيا، وتدمير 49 طائرة أوكرانية على الأرض و13 في الجو و11 طائرة من دون طيار.
إلى جانب الجيش الأوكراني، يخوض الشعب أيضًا كفاحه ضد روسيا بأشكال متعددة، حيث استجاب مدنيون أوكرانيون لنداء وزارة دفاعهم التي دعتهم إلى التطوع وحمل السلاح للدفاع عن العاصمة كييف، وتوجّه بعضهم إلى مراكز عسكرية قريبة للحصول على السلاح، وكانت الحكومة قد دعت المواطنين للتسلُّح للدفاع عن بلادهم.
ليس بعيدًا عن التسلُّح، ظهرت عدة مقاطع تظهر أوكرانيين يحاولون إعاقة وصول الدبابات الروسية إلى مبتغاها في أكثر من مدينة، والأمر لا يقتصر على كييف، إلى ذلك يعمل العديد من المدنيين اليوم في إنتاج الزجاجات الحارقة لمقاومة المدرّعات الروسية بها، وفي هذا الصدد يقول تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية إن “المقاومة الأوكرانية الشرسة منعت القوات الروسية من السيطرة على المدن الرئيسية حتى الآن”.
حرب جديدة
إضافة إلى ما سبق، نستطيع القول إن من الأسباب التي أخرت سقوط كييف هي بأن روسيا لا تخوض هذه المرة حربًا مع أطراف هشة أو ضعيفة، إذ لاقى الجيش مقاومة مذهلة من الأوكرانيين وهو ما لم يعتد عليه الجيش الروسي خلال حروبه السابقة، حيث كان يعتمد على الدعم الجوي أو الزج بميليشيات تقاتل بالنيابة عنها، مثلما حدث في سوريا أو ليبيا عندما اعتمدت على مرتزقة فاغنر.
التسليح الغربي المتواصل
في بداية المعركة كان التشاؤم سيد الموقف، لكن الصمود الذي ظهر على جبهات كييف وغيرها من المدن أعادَ الأمل في إمكانية صدّ العدوان، ما جعلَ الدول الأوروبية وأمريكا تثقان أكثر بالجيش الأوكراني والقوات الرديفة له، فبدأتا بتكثيف شحنات الأسلحة المضادة للطائرات والمضادة للدروع والدبابات، فيما تبحث بعض الدول الآن إمداد كييف بالطائرات.
وقد غيّرت المعركة في أوكرانيا من النهج الذي تتبعه العديد من الدول، كألمانيا التي كانت لا تقدِّم الدعم العسكري لأحد، إلا أنها أعلنت دعم حكومة كييف بمئات الصواريخ المضادة للدروع والطائرات، وكذا فعلت حكومات هولندا وفرنسا وسلوفاكيا والتشيك ودول البلطيق وكندا وأمريكا وإسبانيا وفنلندا والنرويج وغيرهم.
يتمّ استخدام هذه الأسلحة على الفور في المعارك الجارية ويبدو أنها أحدثت تأثيرًا على سير المعارك، ورغم تقديم هذه الأسلحة إلا أن الرئيس الأوكراني يقول إن هذه الشحنات أتت متأخرة، ويطالب بما هو أكثر مثل حظر الطيران عن أوكرانيا وزيادة العقوبات على موسكو.
عوامل الصمود آنفة الذكر جعلت من موسكو تعيد حساباتها بالنسبة إلى سير معاركها على الأرض، وأظهرت صور بالأقمار الصناعية قافلة عسكرية روسية يزيد طولها عن 60 كيومترًا تتقدم باتجاه العاصمة كييف، ولكنّ تقدمًا بطيئًا لهذا الرتل أثار الانتباه، فوفقًا لوزارة الدفاع البريطانية، فإن الجزء الرئيسي من الرتل الروسي لا يزال على بُعد أكثر من 30 كيلومترًا من وسط المدينة، لافتة إلى أن الرتل حقق “تقدمًا طفيفًا ملحوظًا في أكثر من 3 أيام، بعد أن تأخر بسبب المقاومة الأوكرانية القوية والانهيار الميكانيكي والازدحام”.
السيناريو التالي، ماذا بعد سقوط كييف؟
قالت صحيفة “ذا هيل“: “إن القوات الروسية تشعر بالإحباط لأنها لم تسيطر بعد على العاصمة كييف، ما قد يدفعها إلى اتخاذ نهج أكثر عدوانية عسكريًّا”، وتقول الصحيفة نقلًا عن مصادر أمريكية: “لقد تباطأوا وكانوا محبطين بسبب عدم إحراز تقدم في كييف”.
ويعزو سبب التباطؤ في التقدم إلى نفاذ الوقود من المركبات وطرق الإمدادات الطويلة، إضافة إلى مشاكل لوجستية، عدا عن السبب الأكبر ألا وهو المقاومة الأوكرانية الكبيرة.
لكن رغم ذلك الصمود الذي تحققه بعض الجبهات في العاصمة وغيرها من الأراضي الأوكرانية، إلا أن الجيش الروسي يتقدم يومًا بعد يوم ويعمل على تطويق المدن، خاصة كييف، وفي السياق قال فلاديمير بوتين إن “العملية العسكرية التي أمر بشنّها ضد أوكرانيا تجري حسب الخطة الموضوعة لها”.
كما أضاف أن القوات الروسية “نجحت في اختراق دفاعات الجيش الأوكراني والنازيين في أوكرانيا”، مشيرًا إلى أن “القوات الروسية تواجه قوات النازية الجديدة في أوكرانيا”.
بدأت القوات الأوكرانية في كييف منذ أيام بتعزيز دفاعات المدينة لصدّ القوات الروسية التي تتقدم باتجاهها، ما يُنذر بمعارك شديدة على تخومها، وهنا يبرز السؤال عمّا إذ كانت القوات الأوكرانية ستصمد أمام الآلة الروسية، أم أن الروس سيدخلون المدينة، وفيما إذا كانت ستمتد المعارك لأشهر طويلة، وماذا إن سيطرت القوات الروسية على كييف.
يجيب الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، على السيناريو الذي ينتظر العالم في حال تمت السيطرة على كييف من قبل الروس بعبارة تخيف الغرب وهي: “حال هزمت روسيا بلاده، ستستهدف بقية دول أوروبا الشرقية بدءًا من دول البلطيق وصولًا إلى جدار برلين”، وقال: “إذا لم نعد موجودين، سيأتي دور لاتفيا وليتوانيا وإستونيا وصولًا إلى جدار برلين”.
في هذا الصدد، يقول الكاتب في صحيفة “نيويورك تايمز” توماس فريدمان: “اعتقدَ بوتين أن غزو أوكرانيا سيكون مجرد نزهة، وصدّق أوهامه، وظن أن هناك حفنة من النازيين تدير شؤون أوكرانيا، وأنه بمجرد دخوله فإن الشعب الأوكراني سيستقبله بالورود وسيطالبه بطرد أولئك الحاكمين”، ويضيف أن “ذلك لم يحدث، وبدا جليًّا أن بوتين لا يملك خطة بديلة، كما أنه لن يمكنه ببساطة أن يفعل ما كان يطمح إليه، ألا وهو تنصيب دمية ثم يعود أدراجه”.
وفي حال نجح بوتين بالسيطرة على كييف، يقول فريدمان: “إذا نجح الرئيس الروسي في تنصيب دمية، فإنه سيضطر لإبقاء قواته في أوكرانيا إلى الأبد”، كما يعتقد الكاتب الأميركي أن أمام بوتين 4 خيارات فقط “فإما يخسر مبكرًا، وإما يخسر متأخرًا، وإما يخسر كثيرًا، وإما يخسر قليلًا”.
ختامًا، يبقى أمر صمود العاصمة كييف مرهونًا بتكثيف الدعم الغربي للمقاومة الأوكرانية ضد الغزو الروسي إضافة لإرادة الأوكرانيين أنفسهم بصد العدوان، كما أن للمفاوضات الجارية إن توصلت لتسوية معينة يمكن أن تجنب كييف الحرب، ولكن مهما كانت السيناريوهات القادمة فقد كتبت كييف اسمها في سجل المدن التي صمدت في وجه غزو ثاني أقوى جيش في العالم، وهو ما كان مفاجئة للقوى الحليفة قبل العدو.