ترجمة وتحرير: نون بوست
في الساعات الأولى من يوم 24 شباط/ فبراير، شنّ الكرملين حربًا جديدة واسعة النطاق في قلب أوروبا. وتظهر لقطات مقاطع فيديو من ضواحي المدن الأوكرانية مشهدًا فوضويًا: بطانيات متناثرة على أرضيات الملاجئ الصلبة وتصريحات مبتذلة عن البطولة الملحمية وصرخات الأطفال الهستيرية.
في مواجهة هذا الرعب، من الطبيعي أن تُنسب هذه الجرائم إلى رجل مجنون أو بلأحرى زعيم منفصل تمامًا عن الواقع. إن الخطاب التاريخي المختل الذي ألقاه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل الغزو، الذي تحدث فيه عن رغبته في بعث الاتحاد السوفيتي، قائم على الادعاء القائل إن فلاديمير لينين اخترع أوكرانيا، وهو لا يتناقض كثيرًا مع هذا التقييم – على الأقل للوهلة الأولى.
لطالما مثّل التاريخ محور خطابات بوتين في الحرب ونقطة انطلاق لمقارنة وتبرير اعتداءات روسيا الحديثة في إطار ما حققته من أمجاد وما تعرضت له من إذلال في الماضي. إن كذب الحكومة الروسية بشأن اعتبار عنفها الحالي ضد الشعب الأوكراني مجرد عملية خاصة لـ “اجتثاث النازية” في أوكرانيا الهدف منه – ببساطة- توسيع نطاق الحجة المؤيدة للكرملين بأن النازيين وصلوا إلى السلطة في كييف بعد ثورة الميدان الأوروبي في 2013-2014.
من الصعب تقبّل حقيقة أن الكرملين نفسه يصدّق دعايته التي تروّج إلى أن الرئيس اليهودي الأوكراني فولوديمير زيلينسكي نازي. للحصول على سرد تفاصيله أكثر تناسقُا ويُظهر شكلاً من أشكال المنطق في تفكير الكرملين، من المفيد النظر في تشبيه تاريخي آخر مستخدَم كثيرًا في الحرب الروسية على أوكرانيا وهو معركة كوسوفو وقصف الناتو سنة 1999 ليوغوسلافيا (اليوم صربيا والجبل الأسود).
تضمّن خطاب إعلان الحرب الذي ألقاه بوتين رسائل أساسية من قبيل حماية السكان المحليين من الإبادة الجماعية ووقف تشكيل حكومة قوميّة خارجة عن السيطرة وترسيخ حقوق الإنسان ومنع الفظائع التي ترقى لجرائم النازية. وتعكس هذه الرسائل كذلك – بوعي ذاتي – نفس التبريرات التي قدمها قادة الناتو لقصف يوغوسلافيا قبل أكثر من عقدين.
ليس ذلك محض مصادفة، ذلك أن بوتين في خطاب يوم 21 شباط/ فبراير الذي أعلن فيه اعتراف روسيا بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك الشعبيتين أشار إلى قصف الناتو ليوغوسلافيا ودعم كوسوفو كنقطة اتصال وتبرير. من وجهة نظره، يبدو أن الناتو اختلق إبادة جماعية مزيفة في كوسوفو لإضفاء الشرعية على تدخله، والآن يفعل بوتين الشيء نفسه. والأمر لا يتعلق فقط بتقديم سابقة وإنما أيضًا بتوجيه رسالة: إذا كان بإمكان الغرب إعادة رسم حدود كوسوفو، فيمكننا أيضًا إعادة رسم حدود جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك الشعبية في شرق أوكرانيا.
جاء هذا الخطاب بعد المشهد المنظم لاجتماع مجلس الأمن، حيث دُعي الوزراء للتعهد بدعم قرار الاعتراف باستقلال الجمهوريتين. وفي خطابهما، تذرعت رئيسة مجلس الاتحاد فالنتينا ماتفينكو ووزير الخارجية سيرغي لافروف بقصف الناتو ليوغوسلافيا كمبرر وسابقة لتحركات روسيا لحماية سكان دونباس من الإبادة الجماعية المزعومة.
مع أن هناك عنصرًا هدّامًا لهذه المقارنات، إلا أن مثل هذه التصريحات ليست مجرد مراوغة لتجنب المسألة الأصلية. إن مقارنة الكرملين لشرق أوكرانيا بكوسوفو توضح أن هدف الحكومة الروسية من مهاجمة أوكرانيا هو إعادة الهيكل الأمني للحرب الباردة، بشكل يسلب الغرب السلطة الحصرية لإعادة رسم الحدود وتغيير الأنظمة. كما يتعلق الأمر أيضًا بتدمير هيمنة الغرب الفكرية – جاذبية قيمها للدول الأخرى – من خلال تأكيد أنها تقوم على المصلحة الذاتية وجني الأرباح.
إن فهم روسيا لحرب الناتو التي استمرت 78 يومًا ضد صربيا يختلف عن فهم العديد من الدول الغربية، التي تعتبره تدخلاً إنسانيًا لمنع – أو حتى كان ردًا على – الإبادة الجماعية. ولا تركز الحسابات الغربية كثيرًا على عدم موافقة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة على الضربات أو الخسائر البشرية بين صفوف المدنيين.
إذا نظرت إلى بوابة التاريخ الأكثر شعبية على الإنترنت الروسي – التي يمولها الكرملين – ستجد أن الأزمة في كوسوفو لم يكن سببها القائد الصربي القوي سلوبودان ميلوسيفيتش الذي أثار عمدًا التوترات القومية أو التطهير العرقي لألبان كوسوفو وغيرهم، وإنما الولايات المتحدة بدعم من حلف الناتو وبعض دول الاتحاد الأوروبي التي كانت تستغل ضعف روسيا في فترة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي لتدمر حليفتها – طويلة الأمد – صربيا. ولطالما نظرت روسيا إلى البلقان على أنها تقع ضمن دائرة نفوذها وكانت علاقاتها الأخوية مع صربيا حاسمة تاريخيًا في ممارستها للسلطة في هذه المنطقة.
حتى في ذلك الوقت، نقلت وسائل الإعلام الغربية والروسية المعاصرة صورًا مختلفة جدًا للحرب في كوسوفو. ودعم الغرب لجيش تحرير كوسوفو، الذي كان يقاتل القوات اليوغوسلافية من أجل استقلال كوسوفو الذاتي عن صربيا، دفع مشرّعي المعارضة الروس ذوي الميول الديمقراطية إلى انتقاد الإجراءات الغربية في البلقان بشدة. وازداد هذا الشعور قوة بعد حملة القصف التي شنها الناتو على يوغوسلافيا، التي أجبرت ميلوسوفيتش على التفاوض والتنازل عن كوسوفو، ما دفع العديد من المدنيين الصرب للفرار من المنطقة.
بصرف النظر عن انتهاك روسيا للمعايير الدولية، ردّ بوتين على الانتقادات الغربية لضم شبه جزيرة القرم من خلال التذرع بتجاهل الغرب للقانون الدولي عندما قصف بلغراد أو تدخل في كوسوفو
على الرغم من أن روسيا ساهمت في جهد دولي لإرسال قوات حفظ سلام إلى كوسوفو، إلا أنها دعمت علنًا القوات اليوغوسلافية هناك حتى أنها اقتحمت مطار بريشتينا ومنعت طائرات الناتو من الهبوط. وبينما كان هذا العمل عديم الجدوى من الناحية التكتيكية، فإنه كان مليئا بالمعاني الرمزية وعكس معارضة روسيا لسياسة الناتو ورغبتها المتجددة في تأكيد مصالحها. كما أشار إلى استعداد سابق لأوانه للمجازفة بالحرب من أجل الكبرياء الوطني، مع تجنب الناتو والقوات الروسية المواجهة بفضل التدخل لوقف التصعيد من قبل جنرال بريطاني.
في بعض النواحي، عكس ذلك أيضا موقف وزير الخارجية الروسي آنذاك يفغيني بريماكوف الذي كان مصدر الكثير من التبجح: قرر في آذار/ مارس 1999 عودة طائرته إلى موسكو بعد أن كان في طريقه إلى واشنطن حين علم أن الناتو بدأ الضربات الجوية على يوغوسلافيا. وفي ذلك الوقت، اعتبرت روسيا تصرفات الناتو إذلالًا متعمدًا لها وإنكارًا لمكانتها في المنطقة وخارجها.
ترسخ هذا المنظور أكثر على مدى السنوات الـ 23 الماضية، حيث يصور بوتين تلك الحرب على أنها عمل غير قانوني وغير شرعي أهان به الناتو روسيا عمدًا. كانت يوغوسلافيا نقطة مرجعية ثابتة في خطابات بوتين ولافروف، خاصة فيما يتعلق بأوكرانيا. فعلى سبيل المثال، خلال ثورة الميدان الأوروبي 2013-2014 التي أطاحت بالزعيم الأوكراني والحليف الروسي الفاسد والمهووس فيكتور يانوكوفيتش، ركّز بوتين على يوغوسلافيا. وقد اعتبر قصف الناتو ودعم الولايات المتحدة في وقت لاحق لثورة البلدوزر التي أطاحت بميلوسوفيتش نذيرًا لاندلاع ثورة ميدان أوروبا في أوكرانيا – على أساس أن ما حدث في يوغوسلافيا مثّل الثورة الملونة الأولى. وهو ما أشارت إليه القنوات التليفزيونية الفيدرالية الموالية لروسيا طوال سنة 2014، حيث عُرضت لقطات لقصف بلغراد وغيرها من المدن الأخرى لفضح النفاق المفترض للغرب الذي ينتقد الأفعال الروسية. وتتداول الجهات الفاعلة ووسائل الإعلام الموالية لروسيا اليوم أيضًا رسائل ولقطات مماثلة من ذلك الوقت، بما في ذلك صربيا نفسها.
تشير الأصوات الموالية لروسيا بشكل روتيني إلى النفاق الغربي في دعم وتيسير استقلال كوسوفو، لكنها تُدين حق تقرير المصير المزعوم لسكان شبه جزيرة القرم وأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. لكن التبرير الوارد بموجب القانون الدولي لدعم انفصال كوسوفو عن صربيا لن ينطبق بالتأكيد على شبه جزيرة القرم ويصعب تطبيقه أيضًا على أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية.
بصرف النظر عن انتهاك روسيا للمعايير الدولية، ردّ بوتين على الانتقادات الغربية لضم شبه جزيرة القرم من خلال التذرع بتجاهل الغرب للقانون الدولي عندما قصف بلغراد أو تدخل في كوسوفو. وفي خطاب ألقاه سنة 2016 في نادي فالداي للمناقشة، قال بوتين “من الواضح أن قصف بلغراد كان تدخلا خارج معايير القانون الدولي وقواعده، وهو ما فعلته الولايات المتحدة من جانب واحد. لقد تحدثت عن القرم، ماذا بشأنها؟ [إنها لا شيء مقارنة بما] فعلته في يوغوسلافيا”.
ومن الواضح أن الكرملين يريد أيضًا إقالة حكومة زيلينسكي في كييف، تماما مثلما أطاح الغرب بميلوسيفيتش. وسعياً لتحقيق هذا الهدف، تجاوزت روسيا بالفعل إجراءات الناتو في يوغوسلافيا.
من خلال مثل هذه التعليقات، لا يحاول بوتين فقط استفزاز الغرب بل أيضًا جعل الأحداث في البلقان إطارا تاريخيًا مناسبا ومهما يمكن من خلاله تفسير الإجراءات الغربية الحالية والانتقادات الموجهة لروسيا. بعبارة أخرى، إنه يستخدم النفاق الغربي لتبرير استخفافه بالقانون الدولي وجعله مسألة مبدأ ومساواة واعتزاز بأنه لا بد لروسيا أيضا أن تكون قادرة على تجاهل القواعد.
في سنة 2017 في فالداي، أعرب الرئيس الروسي عن أسفه على الطريقة التي عامل بها الغرب روسيا في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفيتي رافضًا انفتاحها وثقتها لأنها “تجاهلت تماما مصالحنا الوطنية أثناء قصف يوغوسلافيا وبلغراد، وإرسال القوات إلى العراق، وما إلى ذلك”. وسبب ذلك واضح، فقد نظروا إلى حالة مجمعنا النووي المعقدة، وقواتنا المسلحة، واقتصادنا، ثم غدا القانون الدولي غير ضروري”.
حسب هذا التفسير، تُعتبر يوغوسلافيا نقطة محورية في تدهور علاقات روسيا مع الغرب “حيث بدأ كل شيء” على حد تعبير بوتين. وأشار لافروف في اجتماع مجلس الأمن في 21 شباط/ فبراير إلى دعم الناتو لكوسوفو كسبب لتجاهل الانتقادات الغربية لروسيا في الوقت الحالي. وفي سنة 2014، تحدث في منتدى شباب سيليجر، وأشار إلى قصف يوغوسلافيا باعتباره حربًا “تنتهك جميع الأعراف والمسؤوليات التي يمكن تصورها”. وإذا ما نظرنا من خلال هذه العدسة المليئة بالمظالم إلى ما كان قوة عظمى سقطت في يوم من الأيام فقط لتُبعث من جديد، فلا بد أن نفهم أن الضربات الروسية على أوكرانيا اليوم هي النتيجة النهائية لإعادة سيناريو كوسوفو – ولكن هذه المرة تبرز روسيا بوصفها القوة المنتصرة والقوية بما يكفي لانتهاك القواعد وليس الغرب.
مثلت كوسوفو فيما مضى الضعف الروسي، في حين أن غزو أوكرانيا يمثل العكس. ففي اللغة الروسية، يعني الفعل “زيركاليت” تقليد أو نسخ شخص ما مثل المرآة، وهو يصف كيفية تصوير الكرملين لحربه ضد أوكرانيا. تبدو ادعاءات الكرملين المستمرة بالإبادة الجماعية في دونباس وخلقه أزمة لاجئين هناك من خلال دعوة ورشوة مواطني دونباس للمجيء إلى روسيا وكأنها جهود واضحة لتكرار الأعمال الغربية في كوسوفو. كما يمكن رؤية هذا الانعكاس أيضا في التكتيكات العسكرية للكرملين، مع استهداف البنية التحتية والأهداف المدنية والعسكرية في مختلف أنحاء أوكرانيا تماما مثلما حدث أثناء قصف الناتو ليوغوسلافيا.
يثبت الغرب أن القياس التاريخي لبوتين صحيح جزئيًا، حيث يتطابق الضعف الأخلاقي للغرب الآن مع ضعف روسيا الاقتصادي والسياسي أثناء الحرب في كوسوفو.
لقد شهد العالم تحرك القوات البرية الروسية إلى نهر دونباس لتفادي خطر الإبادة الجماعية واستخدام ما يسمى بقوات حفظ السلام. ومن الواضح أن الكرملين يريد أيضًا إقالة حكومة زيلينسكي في كييف، تماما مثلما أطاح الغرب بميلوسيفيتش. وسعياً لتحقيق هذا الهدف، تجاوزت روسيا بالفعل إجراءات الناتو في يوغوسلافيا.
لطالما انغمس الكرملين في الصدمة الوطنية الجماعية لانهيار الاتحاد السوفيتي وحرصه على تقديم نفسه على أنه المنتقم لما لحقه من إذلال في السابق. ومن خلال التذرع بكوسوفو في غزو أوكرانيا، تبرهن روسيا لنفسها في المقام الأول أنها عادت إلى وضع القوة العظمى وتعتزم التراجع بشكل صريح عن الهيكل الأمني لما بعد الحرب الباردة وإنشاء نظام عالمي مختلف بدلا من مجرد تشديد القواعد الحالية أو تعديلها.
في حين يرى بوتين أن يوغوسلافيا كانت أول ثورة ملونة، من الممكن أن تُعتبر أوكرانيا ثورة التبييض الروسية التي تحاول تحييد أوكرانيا دون الاهتمام بالضرر الذي تسببه هذه العملية لشعب ذلك البلد أو نسيجه الاجتماعي.
من منظور كوسوفو والمظالم الروسية، فإن الغزو الذي بدا في البداية غير منطقي تمامًا أصبح أكثر منطقية. ومن خلال شن هذه الحرب على أوكرانيا، تُظهر روسيا تكافؤ المكانة مع الغرب وتصف افتقاره إلى الشجاعة والقوة. في حين أن استراتيجية الأمن القومي لروسيا لسنة 2021 تصف بإسهاب اعتقاد الكرملين بأن الولايات المتحدة والغرب الأوسع نطاقا قوتان فاسدتان – لا تكترثان سوى لمصالحهما وتشهدان انحدارًا أخلاقيًا وثقافيًا – لم يكن جليًا قبل الغزو أن بوتين واثق جدًا من جبن الغرب، لذلك كان يبدو أنه فقط يتصرف بوقاحة.
في الساعات الأربع والعشرين الأولى التي أعقبت الغزو، كان رد الفعل الغربي مخيبًا للآمال. فمنذ ذلك الحين، اتخذ الغرب إجراءات صارمة وفرض عقوبات على البنك المركزي الروسي وأزال معظم البنوك الروسية من نظام “سويفت” وعرض أسلحة على أوكرانيا للدفاع عن نفسها. مع ذلك، من الصعب رؤية الفرق الكبير إذا لم تُظهر هذه البلدان لبوتين استعدادها لتنفيذ تدابير تأتي بتكلفة حقيقية على حساب مصالحها الاقتصادية، بما في ذلك خطة مارشال ومصادرة الأصول المرتبطة بالكرملين وتحويلها إلى المقاومة الأوكرانية.
وفي ظل غياب مثل هذه التدابير، يثبت الغرب أن القياس التاريخي لبوتين صحيح جزئيًا، حيث يتطابق الضعف الأخلاقي للغرب الآن مع ضعف روسيا الاقتصادي والسياسي أثناء الحرب في كوسوفو.
المصدر: فورين بوليسي