ترجمة وتحرير: نون بوست
كُشف النقاب عن حرب جديدة في خضم الغزو الروسي لأوكرانيا. لكن الحرب هذه المرة بين أبناء البلد الواحد، وهم الشيشان الذين أرسلهم رمضان قديروف – زعيم الجمهورية الموالي لروسيا – وأولئك الذين يقاتلون ضده في صف أوكرانيا.
تُعتبر الشيشان في حد ذاتها نموذجًا مصغرًا لما يود الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تأسيسه في أوكرانيا. فالشيشان التي كانت على الدوام جزءًا مضطربًا من الإمبراطوريتين الروسية ثم السوفيتية، أعلنت انفصالها عن موسكو في سنة 1991 ثم أصبحت دولة مستقلة بحكم الواقع في شمال القوقاز. انتهت المحاولة الأولى لإعادة فرض السلطة الاتحادية التي تسببت في اندلاع الحرب الشيشانية الأولى ما بين 1994 و1996 بفشل مذل لروسيا بعد أن حقق المقاتلون الشيشان نصرًا مذهلًا على الرغم من أنهم كانوا أقل عددًا وعدَّة، ما أجبر روسيا على الانسحاب.
عندما تولى بوتين السلطة في أواخر سنة 1999 لم يكرر نفس الخطأ وإنما عمدَ إلى تسوية العاصمة الشيشانية غروزني بالأرض مع رشوة بعض القادة الرئيسيين للإنشقاق مع قواتهم إلى صف الجانب الروسي. كان أحمد قديروف أحد هؤلاء لذلك تم تنصيبه رئيسًا للبلاد. وبعد اغتياله في سنة 2004، تولى ابنه رمضان – أمي غير متعلم – رئاسة الجمهورية. ومنذ ذلك الحين، حكم قديروف الشيشان بقبضة من حديد وسحق المعارضة بوحشية مستعينًا بميليشياته التي تمولها موسكو المسماة “قاديروفتسي” (المأخوذة من اللغة الروسية وتعني “رجال قديروف”). وبعد أن قاتلوا في شرق أوكرانيا سنة 2014، عاد هؤلاء المقاتلون بأعداد كبيرة لتعزيز صفوف الروس في غزوهم للبلاد بأكملها.
إن عدد الجنود الذين أرسلهم قديروف إلى أوكرانيا غير معروف بالضبط لكنه كبير. وتشير معظم التقارير إلى أنه تم نشر ما يقارب 10 آلاف مقاتل، وتظهر أعلى الأرقام أن عددهم يصل إلى 70 ألف مقاتل (وهو عدد مستبعد جدًا)، مع استمرار تجنيد المزيد بشكل فعَّال أيضًا. يوم 25 شباط/ فبراير، نشر مصدر في مدينة غروزني مقطع فيديو يظهر آلاف الرجال الذين يتم تجميعهم وتجهيزهم للقتال في أوكرانيا. وتكشف التسجيلات الصوتية للمحادثات بين قديروف وبعض المسؤولين الروس الآخرين أن حاكم الشيشان كان من بين الشخصيات القليلة التي تم إبلاغها بخطط بوتين لغزو واسع النطاق في الفترة السابقة.
لعِبت قوات قديروف بالفعل دورًا رئيسيًا في الهجوم. فقد رُصد أفراد من قوات “روزجفارديا” الشيشانية (وتعني الحرس الوطني) شمال العاصمة كييف بتاريخ 27 شباط/ فبراير، وهم يتقدمون في منطقة الحظر النووي في “تشيرنوبيل” باتجاه العاصمة الأوكرانية. وأفادت مصادر أخرى بتورطهم في الهجوم على الضواحي الغربية لكييف ومطار “هوستوميل” الحيوي، وذلك في المعارك التي تلت الإنزال المظلي الروسي هناك في اليوم الأول من الحرب.
يتواجد كبار مستشاري قديروف في أوكرانيا، وذلك ما يتضح من خلال صورة التقطها دانييل مارتينوف، وهو ضابط سابق في وحدة النخبة من القوات الخاصة التابعة لأجهزة الأمن الاتحادية الروسية “إف إس بي ألفا” الذي قام بتشكيل وتدريب قوات النخبة التابعة لقديروف. في غضون ذلك، زعم رئيس جهاز الأمن الأوكراني أنه “تمت تصفية” فريق من قوات النخبة التابعة لقديروف، الذي تم إرساله لاغتيال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي. ويوجد أدلة دامغة تؤيد ذلك، حيث رُصد أتباع قديروف بملابس مدنية مستخدمين مركبات عادية للتسلل إلى العاصمة الأوكرانية.
لا يمكن لأي شيشاني حقيقي أن يقاتل في صف روسيا، من أجل ذلك البلد الذي قتلنا لمدة 300 سنة. ويتعرض غالبية [رجال قديروف] للضرب والتهديد بعائلاتهم، لذلك هم مجبرون على الخدمة. إن خدمة روسيا تخالف كل شيء
تعكس الخسائر الفادحة التي تكبدتها قوات قديروف حجم الخسائر الروسية بشكل عام. من جهتها، تدعي أوكرانيا إن 8.500 جندي روسي قد قتلوا حتى الآن، بينما أبلغت موسكو عن مقتل نحو 500 جندي فقط. وفي تسجيل صوتي باللغة الشيشانية تم تداوله على نطاق واسع، حصل المؤلف على نسخة منه، يتحدث أحد الرجال في مستشفى عسكري في شبه جزيرة القرم عن عشرات الضحايا الذين خسرتهم وحدته في أعقاب غارة شنتها طائرة أوكرانية مُسيَّرة من طراز “تي بي 2 بيرقدار”، حيث يقول بصوت ضعيف “هناك ما لا يقل عن سبعين فردًا منا قد تعرضوا لحروق شديدة، إضافة للعديد من القتلى”.
تصف رسالة صوتية أخرى مقتل أو جرح عشرات المقاتلين من رجال قديروف في أحد الكمائن، حيث يقول الرجل في التسجيل “لا بد أن هؤلاء كانوا شيشانيين من الجانب الآخر، لأنهم [نصبوا لنا كمينًا] بنفس الطريقة التي حدثت في غروزني في سنة 95” (عندما دمرت القوات الانفصالية الشيشانية أرتال روسية غزت العاصمة الشيشانية). وقد وجد قديروف نفسه مجبرًا على الاعتراف بمقتل اثنين من جنوده في أوكرانيا، وهو رقم يتناقض مع حصيلة أعلى من ذلك بكثير. يبدو أن تلك القوات، التي تمثّل رأس الحربة الروسية، هي التي تدفع الثمن.
لكن الشيشان الموالين لروسيا ليسوا الوحيدين في أوكرانيا. فعلى الجانب الآخر، توجد القوات الشيشانية المعادية لها التي تضم العديد من قدامى المحاربين في حرب الشيشان الأولى والثانية، الذين يقاتلون ضد الموالين لقديروف.
توجد وحدتان رئيسيتان من المقاتلين الشيشان النشطين في الجانب الأوكراني، حيث تم تشكيلهما في سنة 2014 بعد ضم شبه جزيرة القرم. إحداها كتيبة الشيخ منصور التي تنشط بشكل أساسي في جنوب شرق أوكرانيا، وتحديدًا في مدينة ماريوبول، حيث انخرطوا بشدة في قتال القوات المدعومة من روسيا في سنة 2014 و2015.
تُظهر الصور الأخيرة ما وُصف بأنه مجموعة فرعية تابعة لكتيبة الشيخ منصور أو تشكيل شيشاني جديد بالكامل، حيث يقف ما يزيد قليلاً عن عشرة رجال، ومن الواضح أن أغلبهم شيشانيون، ولكن قيل إن بعضهم من تتار القرم أيضًا، مصطفين على مدرج المطار ومزودين بأسلحة ثقيلة. وتُظهر صورة أخرى أحد الرجال وهو يحمل صاروخًا من طراز “إن لاو” المضاد للدبابات من النوع الذي قدمته المملكة المتحدة للقوات الأوكرانية. ومن الواضح أن هذه الوحدات تعمل بتنسيق وثيق مع الجيش الأوكراني.
كان التشكيل الشيشاني الرئيسي الآخر في أوكرانيا، وهي كتيبة جوهر دوداييف (التي سميت على اسم أول رئيس للشيشان في التسعينات)، قد أعلنت مؤخرًا عن إعادة نشاطها. وقد وجَّه زعيمها آدم أوسمايف، من خلال كلمة مسجلة بالفيديو، رسالة إلى البلاد قائلاً “أريد أن أؤكد للأوكرانيين بأن الشيشان الحقيقيين هم الذين يدافعون عن أوكرانيا اليوم”. وأضاف “هؤلاء الدمى [أتباع قديروف] الذين يقاتلون من أجل روسيا، هم عار على أمتنا – نحن نعتبرهم مجرد خونة”. لأوسمايف، المحارب القديم الذي شارك لمدة ثمان سنوات في حرب دونباس، أسبابًا شخصية عميقة للمشاركة في هذه المعركة: فقد قُتلت زوجته أمينة أوكوييفا، زميلته في المقاومة الشيشانية، في هجوم بقنبلة خارج مدينة كييف في سنة 2017.
وصف أحد المقاتلين في كتيبة الشيخ منصور، يدعى مسلم، لمجلة “نيولاينز” ما يعتبره واجبه في القتال إلى جانب أوكرانيا. وقد روى مسلم (45 عاما) تجربته في مقابلة قبل بدء الحرب. يقول مسلم عن نفسه ورفاقه “قاتلنا في حرب الشيشان الأولى والثانية، ونحن ندرك مسبقًا كل ما تستطيع [روسيا] فعله، من قتل العائلات والنساء والأطفال. نحن نعلم أنه يوجد حوالي 10 آلاف من رجال قديروف هنا”.
كلما ظلت قوات قديروف بعيدة وكلما تدهور الوضع الداخلي في روسيا، تزداد المخاطر التي قد يتعرض لها ديكتاتور الشيشان نفسه – وهي ثورة أكدَّ العديد من الشيشان أنها مسألة وقت فقط.
لم يتلاعب بالكلمات عندما طُلب منه وصف قوات قديروف، فقال “إنهم خونة”. وأضاف “لا يمكن لأي شيشاني حقيقي أن يقاتل في صف روسيا، من أجل ذلك البلد الذي قتلنا لمدة 300 سنة. ويتعرض غالبية [رجال قديروف] للضرب والتهديد بعائلاتهم، لذلك هم مجبرون على الخدمة. إن خدمة روسيا تخالف كل شيء، فهي تخالف “النوكشالا” [المعايير التقليدية للأخلاق الشيشانية].
لقد حان وقت القتال الآن. ذكر مسلم “لقد قاتلنا في سنة 2014، وعندما تبدأ الحرب مجددًا، فإننا سنعود إلى الجبهة”. لم يكن ما قاله مجرد كلمات فارغة. فقد أكد مسلم، في رسالة صوتية في الأول من آذار/ مارس أنه وأعضاء آخرون من كتيبة الشيخ منصور كانوا متواجدين في الخطوط الأمامية في كييف، وهم يقاتلون القوات الروسية التي تحاول اختراق العاصمة.
مع تشديد التكتيكات الروسية، يوجد العديد من المؤشرات بأن القوات الشيشانية بقيادة قديروف ستكون في مقدمة الجهود الرامية لقمع واحتلال المدن الأوكرانية. ومع تزايد القصف العشوائي للمراكز السكانية، والتراجع الواضح لمعنويات العديد من الجنود الروس، فإن جاهزية رجال قديروف لارتكاب جرائم حرب وحشيّة لكسر المقاومة هي أداة رئيسية في ترسانة الكرملين.
في رسالة نُشرت على قناته على “تيليغرام” في 27 شباط / فبراير احتجَّ الزعيم الشيشاني قائلاً: “إن القومي [في أوكرانيا] لا يفهم أي لغة باستثناء القوة”. وأقرَّ بأن القوات الأوكرانية كانت “مسلحة لدرجة عالية بمختلف الأسلحة والذخائر الجديدة”، وجادل بأن الوقت قد حان لوقف “تدليل” العدو، ويجب بدلاً من ذلك “البدء بعملية واسعة النطاق في جميع الاتجاهات” في أنحاء البلاد. وأضاف قديروف “نحن بحاجة إلى تغيير تكتيكاتنا من أجل إقناعهم بطريقة أفضل، يجب أن يُصدر بوتين الأمر المناسب حتى نتمكن من القضاء على هؤلاء النازيين”.
في الوقت ذاته، كلما ظلت قوات قديروف بعيدة وكلما تدهور الوضع الداخلي في روسيا، تزداد المخاطر التي قد يتعرض لها ديكتاتور الشيشان نفسه – وهي ثورة أكدَّ العديد من الشيشان أنها مسألة وقت فقط.
أفاد أحد السكان المحليين في غروزني، الذي لا يمكن الكشف عن اسمه لأسباب أمنية: “لن يلوم أحد الأوكرانيين في حال خسارتهم أمام عدو مثل روسيا، لكننا نأمل شيئًا واحدًا، وهو بما أن عدد سكان أوكرانيا يبلغ أربعين ضعف عدد سكان الشيشان، فإننا نأمل أن يُكبدوا روسيا خسائر تزيد عن أربعين ضعفًا”.
يوقنُ مسلم أيضًا أن هذه الحرب تمثل نقطة تحول في تاريخ أمته ذلك أنَّ “هذا الغزو سيكون بداية النهاية لروسيا. سوف تتفكك مثل الاتحاد السوفيتي بعد أفغانستان، سينتفض شعبنا [الشيشانيون] ويسقط قديروف”.
أضاف المواطن الغروزني ملاحظة أخيرة تقشعر لها الأبدان “نأمل أن يقتل الأوكرانيون أكبر عدد ممكن من رجال قديروف، فإن قتل أي واحد منهم سوف يجعل الأمر أسهل بالنسبة لنا هنا عندما يحين الوقت”.
المصدر: نيولاينز