مع انشغال العالم بمتابعة الحرب المتصاعدة بين روسيا وأوكرانيا وتطوراتها ومالآتها، استيقظ سكان تايوان خلال الأيام القليلة الماضية على أصوات الطائرات الحربية الصينية التي اخترقت المجال الجوي لبلادهم، ومع هذا المشهد المتكرر، تلوح في الأفق أزمة جديدة، اختلفت فيها التفاصيل لكن السيناريوهات متشابهة، وقد تكون النهاية واحدةً لمشهد متقارب بين حليفين يسعيان إلى ضم دول الجوار.
في سياق أزمة أوكرانيا وتداعياتها وانعكاساتها على العالم، يتحدث كثيرون عن حرب محتملة في مكان آخر بشرق آسيا مع تكهنات بشأن نية الصين فرض سيطرتها عسكريًا على تايوان، لا سيما بعد تصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية واعتراف موسكو باستقلال دونيتسك ولوجانسك، فهل يتكرر السيناريو الأوكراني في تايوان؟
لماذا تزيد الصين ضغوطها على تايوان في هذا التوقيت؟
على غرار الطرق التي هدد بها بوتين بمعاقبة أوكرانيا إذا سعت إلى تعزيز العلاقات الأمنية مع الغرب من خلال الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، كثف شي جين بينغ في السنوات الأخيرة تحذيراته لتايوان بعدم السعي للحصول على استقلال رسمي عن الصين.
في مسعى لذلك، كررت الصين مند مطلع العام الحاليّ نمطها المألوف في إرسال طائرات حربية إلى منطقة تحديد الدفاع الجوي التايوانية – وهي ليست نفسها المجال الجوي الإقليمي للدولة، لكنها تشمل منطقة أكبر بكثير تتداخل مع جزء من “منطقة تمييز الهوية لأغراض الدفاع الجوي” (أديز) التابعة للصين – بما في ذلك الطائرات المقاتلة والقاذفات النووية وطائرات المراقبة والنقل.
أظهر استطلاع للرأي في أبريل/نيسان أن نحو 40% من الناس يعتقدون أن تايوان والصين تتجهان نحو صراع عسكري
على الرغم من أنها كانت استفزازية للغاية، فإنها كانت في كثير من النواحي مجرد يوم آخر من شهر يناير/كانون الثاني، فطوال الشهر، امتنعت بكين عن تهديد تايوان جوًا في عدد قليل من الأيام، وفي هذا الشهر أيضًا، نفذت بكين بالفعل عدة غارات بطائرات أقل.
زاد جيش التحرير الشعبي الصيني من نشاطه خلال العامين الماضيين، وتضاعفت الطلعات الجوية الصينية إلى 950 في العام الماضي بمتوسط مذهل بلغ 2.6 رحلة في اليوم، وخلال الأيام الأربعة الأولى من أكتوبر/تشرين الأول، أرسلت بكين ما يقرب من 150 رحلة جوية ضد تايوان، 56 منها في 4 أكتوبر/تشرين الأول، وهو الرقم القياسي الحاليّ ليوم واحد.
نتيجة لهذه التهديدات المتلاحقة، يتحدث الناس في تايوان عن الهجوم الصيني، في المدرسة وفي العشاء العائلي وفي تجمعات الأصدقاء، وأصبح حساب تويتر التابع لوزارة الدفاع جزءًا من موجز الأخبار اليومي للناس، الأمر الذي دفع رئيسة تايوان، تساي إنغ وين، بالتزامن مع الغزو الروسي لأوكرانيا – إلى الدعوة لتعزيز اليقظة بشأن الأنشطة العسكرية في تايوان، خاصة بعد أن شهدت المنطقة خلال الأشهر الماضية خروقات صينية للأجواء التايوانية.
تُظهر بيانات تتبع الطلعات الجوية تغييرًا في تركيبة مهام سلاح الجو لجيش التحرير الشعبي الصيني، فبينما كانت طائرات المراقبة هي الأكثر إرسالًا، فإن الميزان يميل الآن لرؤية هيمنة الطائرات المقاتلة، كما زاد استخدام القاذفات القادرة على حمل أسلحة نووية.
تمامًا كما لا يمكن لبوتين أن يتسامح مع السيادة الأوكرانية، فإن الحزب الشيوعي الصيني لن يقبل أبدًا بانفصال تايوان التي يعتبر الحزب الشيوعي السيطرة عليها، أو كما يفضل أن يسميها “إعادة التوحيد”، الهدف الأساسي للسياسة الخارجية الصينية.
بناءً على ذلك، أظهر استطلاع للرأي في أبريل/نيسان أن نحو 40% من الناس يعتقدون أن تايوان والصين تتجهان نحو صراع عسكري، لكن هذا الرقم آخذ في الارتفاع، ووجد استطلاع آخر هذا العام أن 50% من الناس قلقون من احتمال اندلاع حرب في العام المقبل.
في حين أن هناك آراءً سياسيةً متنوعةً ومعقدةً في تايوان، فوجدت استطلاعات الرأي المنفصلة في أكتوبر/تشرين الأول الماضي أن 77.6% من الناس على استعداد للقتال في حالة الغزو الصيني، ووجدت دراسات أخرى أن معظمها يدعم الجهود الدبلوماسية.
تدعي بكين أن تايوان مقاطعة صينية، وتعهدت باستعادتها بالقوة إذا لزم الأمر، وتتهم حكومتها المنتخبة ديمقراطيًا بأنها انفصالية، بينما تقول حكومة تايوان إنها دولة ذات سيادة وليست بحاجة لإعلان الاستقلال. ردًا على ذلك، كتبت رئيسة تايوان، تساي إنغ وين، يوم الثلاثاء الماضي، أن بلادها لن تكون مغامرة، لكنها ستفعل كل ما يتطلبه الأمر للدفاع عن نفسها.
تزعم بكين بشكل متكرر أن الحكومات الأخرى ملزمة بـ”مبدأ الصين الواحدة”، الذي يعلن تايوان مقاطعة صينية، لكن قلة من الدول تعترف بحكومة تايوان، وقد نقلت العديد منها علاقاتهم الرسمية إلى بكين منذ السبعينيات فصاعدًا، ولدى العديد من الدول الأخرى سياسات “الصين الواحدة” الخاصة بها، التي تحدد مستوى الاعتراف الذي تتحمله حكوماتها لسياسة بكين، فالولايات المتحدة وأستراليا، على سبيل المثال، تقران لكنهما لا تعترفان بادعاء بكين بشأن تايوان.
هل يتبع شي جين بينغ بوتين في طريق الحرب؟
بينما يشاهد التايوانيون القوات الروسية تتدفق إلى أوكرانيا، يتزايد قلقهم بشأن مستقبل جزيرتهم، ويقول بعض المحللين في البرامج الإخبارية والبرامج الحوارية التايوانية، إن بكين قد تستغل الغرب المشتت لتكثيف ضغطها على تايوان، وأعرب آخرون عن مخاوفهم من أن رد الفعل الغربي الضعيف على الغزو الروسي قد يشجع القيادة الصينية، بينما لا يزال آخرون يقولون إن مثل هذا الكلام لم يؤد إلا إلى خلق قلق لا داعي له.
وفي حين أن هناك تكهنات متزايدة بأن الصين قد تتخذ خطوة بشأن تايوان، فإن توقيت وطبيعة مثل هذا الإجراء موضع نقاش قوي بين المحللين والشخصيات الحكومية.
في مطلع أكتوبر/تشرين الأول، قال وزير الدفاع التايواني إن الصين قادرة الآن، لكن بحلول عام 2025 ستكون أكثر استعدادًا لشن “غزو واسع النطاق”، لكنها لن تبدأ حربًا بسهولة، إذ يتعين عليها أخذ العديد من الأشياء الأخرى في الاعتبار، واصفًا التوترات الحاليّة بأنها الأسوأ منذ 40 عامًا.
استخدم القوميون الصينيون الغزو الروسي لأوكرانيا لدعوة أمتهم إلى أن تحذو حذو روسيا بتعليقات مثل: “إنها أفضل فرصة لاستعادة تايوان الآن!”
اليوم، ربما أصبحت محاولة بكين للمطالبة بتايوان بالقوة أكثر ترجيحًا أكثر من أي وقت مضى، هذا ليس بالضرورة بسبب وجود صلة مباشرة بين غزو بوتين لأوكرانيا وتهديد بكين لتايوان، لكن لأن الحرب من أجل أوكرانيا هي المؤشر الأسوأ حتى الآن على الاتجاه المخيف لإعادة تقسيم الجغرافيا السياسية العالمية.
ومع غزو روسيا لأوكرانيا، ظهرت مخاوف بشأن احتمال غزو الصين لتايوان، هذه المخاوف، في أجزاء منها، تفاقمت بسبب ما قاله رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون في مؤتمر ميونيخ للأمن، فقد حذَّر من أنه “إذا تعرضت أوكرانيا للخطر، فسوف يتردد صدى الصدمة في جميع أنحاء العالم، وستُسمع هذه الأصداء في شرق آسيا، وستُسمع في تايوان”.
أشار جونسون إلى أن الخطر على تايوان من العواقب الوخيمة على مستوى العالم إذا فشلت الدول الغربية في الوفاء بوعودها لدعم استقلال أوكرانيا، لكن بكين رفضت أي صلة من هذا القبيل بين قضيتي أوكرانيا وتايوان، وقالت وزارة الخارجية الصينية: “تايوان ليست أوكرانيا”، موكدةً “تايوان كانت ولا تزال دائمًا جزءًا لا يتجزأ من الصين، هذه حقيقة قانونية وتاريخية لا جدال فيها”، مضيفة “تايوان وأوكرانيا تختلفان اختلافًا جوهريًا من حيث الإستراتيجية الجغرافية والجغرافيا وسلاسل التوريد الدولية”.
في الواقع الافتراضي لا يبدو حديث بكين عن الاختلاف بين تايوان وأوكرانيا مقنعًا، فقد كان شعار “اليوم أوكرانيا وغدًا تايوان” أكثر ارتدادًا على الإنترنت، وعلى منصة ويبو “Weibo” للتواصل الاجتماعي، النسخة الصينية من تويتر، استخدم القوميون الصينيون الغزو الروسي لأوكرانيا لدعوة أمتهم إلى أن تحذو حذو روسيا بتعليقات مثل: “إنها أفضل فرصة لاستعادة تايوان الآن!”.
وعلى وسائل التواصل الاجتماعي الأكثر شعبية في الصين، أبدى مستخدمو الإنترنت والأصوات القومية البارزة تعاطفهم مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفي بعض الأحيان شككوا في مصداقية الغرب، وسخروا علانية مما اعتبروه ردة فعل متواضعة من الدول الغربية على الهجوم الروسي، وألقوا باللوم على منظمة حلف شمال الأطلسي في تأجيج الصراع.
رئيس الوزراء الياباني، كيشيدا فوميو، كانت له وجهة نظر مقاربة أيضًا، ففي إشارةٍ إلى أن اعتداء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا قد يشجع نظيره الصيني شي جين بينغ فيما يتعلق بتايوان، حذَّر فوميو قائلًا: “إذا سمحنا باستخدام القوة لتغيير الوضع الراهن، فسيكون لذلك تأثير على آسيا أيضًا”.
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة لسفير أمريكا السابق لدى تايوان ويليام تايلور، ففي حديث لقناة CNBC قال: “هناك علاقة بين ما تفعله أمريكا في أوكرانيا وروسيا وما يفكر الصينيون في فعله مع تايوان، الصينيون يشاهدون ويراقبون هل ستتراجع الولايات المتحدة بالفعل أم هل تعلمت شيئًا من الماضي؟ ومن ثم تتخذ موقفًا قويًا من التهديد الروسي لأوكرانيا، الصينيون يلاحظون ذلك”.
الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب كان أكثر جرأةً في تصريحاته، وتوقًّع أن تهاجم الصين تايوان لاحتلالها بعد قرار بوتين غزو أوكرانيا، وقال في برنامج على شبكة “فوكس نيوز” الأمريكية إن الصين ستكون الخطوة الثانية للتحرك بقوة على المسرح العالمي، مضيفًا “الرئيس الصيني سيتخذ منهج إجراءات روسيا ضد أوكرانيا”، في إشارة منه لاستعادة تايوان.
لا يعني هذا أن هجومًا صينيًا على تايوان وشيك، فبحسب مايكل شومان مؤلف كتابَي “قوة عظمى غير مستمرة: التاريخ الصيني للعالم” و”المعجزة: القصة الملحمية لبحث آسيا عن الثروة”، من المستحيل التكهن على وجه اليقين بما قد يفكر فيه شي بشأن تايوان في أعقاب حرب بوتين في أوكرانيا، على عكس بوتين عندما يتعلق الأمر بأوكرانيا، فإن شي لا يحشد قوة غزو على المضيق الذي يفصل تايوان عن البر الرئيسي الصيني.
ورغم أن شي له أشياء سيئة كثيرة، ليس أقلها مسؤوليته عن الإبادة الجماعية ضد أقلية الإيغور المسلمة، لكن التهور ليس واحدًا منها، وفي تصوره، صعود الصين مقابل التراجع الأمريكي أمر لا مفر منه، والوقت في صالحه، لذلك لا داعي لاتباع بوتين في طريق الحرب في الوقت الراهن.
لكن يبقى عدوان بوتين العسكري على أوكرانيا علامة على ما قد يأتي لاحقًا، فـ”القوى الاستبدادية” – بحسب وصف شومان في مقال بمجلة “ذا أتلانتيك”- تعتقد أن الوقت حان للرد على الولايات المتحدة وحلفائها وإعادة تشكيل العالم، وإذا استمرت هذه الاتجاهات في الظهور، يقترب اليوم الذي تغزو فيه الصين تايوان.
اختبار جديد لأمريكا وحلفائها
بالنسبة لأولئك المهتمين بالسلام في منطقة آسيا والمحيط الهادئ، فإن أوكرانيا، كما تقول إحدى الصحف اليابانية “ليست حريقًا على الشاطئ المقابل”، إذ يبدو تشابه تايوان مع أوكرانيا واضحًا للكثيرين في هذه الجزيرة التي يبلغ عدد سكانها 23 مليون نسمة، فقد عاشت تايوان، مثل أوكرانيا، طويلًا في ظل جار “متغطرس”، وناشد كل من الزعيم الصيني والرئيس الروسي الروايات التاريخية القومية لتبرير مطالبهم الإقليمية الحاليّة.
في الواقع، وبعيدًا عن تأكيد حكمة سياسة شي الخارجية المتأنية حتى الآن، فإن الحرب في أوكرانيا تكشف حدود القوة المحتملة، وفي غضون ذلك، تتضح بعض الاختلافات بين أوكرانيا وتايوان أكثر من أوجه التشابه، بدءًا من مستويات الدعم لتايوان، وما إذا كانت الولايات المتحدة ملتزمة بالدفاع عن الجزيرة، وصولًا إلى الاستعداد لخوض الحرب للدفاع عنها.
في حين لا يستطيع معظم الأمريكيين أن يجدوا لأوكرانيا، الشريك التجاري رقم 67 لبلادهم، مكانًا على خريطة التحالفات، فإن تايوان على النقيض من ذلك هي تاسع أكبر شريك تجاري الأمريكا وقوة عظمى في قلب سلاسل التوريد العالمية.
خسارة تايوان تعني نهاية النظام الأمني الذي قادته أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية في المنطقة، والتنازل للصين عن دور القوة غير المتنازع عليها في المنطقة
وباعتبارها ديمقراطية ناطقة بالصينية، تشير الخبيرة في الشؤون الصينية في صندوق مارشال الألماني بالولايات المتحدة، بوني جلاسر، إلى أنه لطالما كانت الولايات المتحدة موضع تقدير لتايوان كنموذج سياسي بديل للبر الرئيسي الذي يديره الشيوعيون، وكان لدى البلدين معاهدة دفاع متبادل حتى عام 1979، منذ ذلك الحين، قدمت أمريكا الأسلحة، وقالت إنها ستقاوم المحاولات القسرية لتغيير وضع الجزيرة كدولة مستقلة في كل شيء ما عدا الاسم.
تقع تايوان أيضًا في قلب “سلسلة الجزر الأولى” في غرب المحيط الهادئ، وتحت إدارة توفر حاجزًا حاسمًا لليابان، الحليف الرئيسي لأمريكا في المنطقة، من التهديدات الصينية، لذا فإن المصداقية الأمريكية معرَّضة للخطر في آسيا بشأن تايوان أكثر مما هي عليه في أوروبا بشأن أوكرانيا.
بحسب تحليل لصحيفة “ذا إيكونومست“، فإن خسارة تايوان تعني نهاية النظام الأمني الذي قادته أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية في المنطقة، والتنازل للصين عن دور القوة غير المتنازع عليها في المنطقة، وليس من المستغرب إذن أن تحدد رئيسة تايوان، تساي إنغ وين، وإدارتها الكثير من الاختلافات بين بلادهم وأوكرانيا، ويجادلون بأن شي يعرف أن أمريكا سترد بقوة على أي هجوم.
الرابط الأخير هو أن روسيا نفسها قوة آسيوية، فقبل أن تبدأ في الاستعداد للحرب ضد أوكرانيا، لم تكن أنشطتها العسكرية في الشرق الأقصى الروسي أكثر قوة فحسب، بل أصبحت أيضًا أكثر عداءً لأمريكا وأصدقائها، فتستخدم روسيا بحر أوخوتسك، شمال اليابان، كمعقل لغواصاتها المسلحة نوويًا (المصممة لمهاجمة الولايات المتحدة كملاذ أخير)، وأجرت مناورات بحرية مشتركة مع الصين، الشريك العسكري الوثيق بشكل متزايد، في بحر اليابان.
في غضون ذلك، تعد اليابان العضو الوحيد في مجموعة الدول السبعة الكبرى الذي تتداخل معه روسيا في نزاع إقليمي مباشر، فقد استولى الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين على أربع جزر شمالية في الأيام الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، وأدت آمال اليابان في استعادتهم إلى سنوات من محاولات التقارب مع روسيا، حيث كانت اليابان في مأزق حتى لا يُنظر إليها على أنها جزء من مجموعة مناهضة لروسيا.
لكن يبدو أن التوتر المتزايد بين روسيا واليابان أصبح هو القاعدة، فقد أدانت الأخيرة الأسبوع الماضي العدوان الروسي، وانضمت إلى العقوبات الغربية على البلاد على الرغم من التدريبات الروسية الكبيرة غير العادية في المياه بالقرب من اليابان في الأسابيع الأخيرة، التي تهدف، كما يقول المحللون العسكريون، إلى ردع اليابان عن الانحياز إلى أمريكا وأوروبا.
دروس للصين وتايوان
قد تكون أزمة أوكرانيا أكبر تهديد للسلام في أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة، لكن بالنسبة للصين، إنها هدية ثمينة، فعلى المدى القصير، أدَّى تهديد روسيا بالحرب إلى تشتيت انتباه الولايات المتحدة، ما أجبر إدارة بايدن على تخصيص موارد كبيرة لمواجهة الرئيس فلادمير بوتين.
كما دفعت التوترات مع الغرب روسيا إلى الاقتراب من الصين، فالبيان المشترك الصادر عن بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ في بكين يوم 4 فبراير/شباط لا يترك مجالًا للشك في أن العلاقات الصينية الروسية دخلت مرحلة جديدة من التوافق الإستراتيجي، كذلك بدا الخطاب السائد في الصين أكثر تأييدًا لروسيا مما كان عليه في الماضي، ويعكس المزيد من نقاط المحادثات الرسمية الروسية، ولم يخل من رسم أوجه تشابه مع تايوان.
إعلان أمريكا أنها لن تخوض حربًا ضد موسكو بشأن أوكرانيا من المحتمل أن يثير إعجاب الصين أكثر، وقد تفسره بكين أنه بدافع الخوف من صراع كارثي محتمل مع نظير مسلح نوويًا
إذا واصلت روسيا السيطرة على المدن الأوكرانية وعجّلت بصراع طويل الأمد في أوروبا الشرقية، ستكسب الصين المزيد من الفوائد الجيوسياسية، حينها ستضطر الولايات المتحدة إلى التركيز على أزمة ملحة وإعطاء بكين مساحة أكبر للتنفس، وستجعل العقوبات القاسية التي فرضها الغرب روسيا أكثر اعتمادًا اقتصاديًا على الصين.
بينما يراقب قادة الصين الأحداث الجارية في أوكرانيا، سيحاولون بشكل مفهوم استنساخ بعض تكتيكات بوتين، وتحديد نقاط الضعف الحاسمة في استجابة الولايات المتحدة وحلفائها، ثم محاولة تجنب بعض أخطاء بوتين.
ويتوقع وزير الدفاع التايواني السابق أندرو يانغ أن تكثف الصين من حملات التضليل والهجمات الإلكترونية المصممة لبث الشكوك بشأن الالتزامات الأمريكية وتعزيز رواية حتمية الهيمنة الصينية. هنا، توجد صلة مع أوكرانيا، حيث تراقب الصين عن كثب كيف تطبق روسيا حربًا هجينةً هناك، وتتعلم منها الدروس لاستخدامها ضد تايوان.
قد يتأثر شي بشدة باستخدام بوتين للدبلوماسية الخشنة، فهدف موسكو كما يبدو ليس حربًا أو احتلال بلد كبير مثل أوكرانيا، بل استعادة مجال النفوذ الذي فقدته بعد انهيار الاتحاد السوفيتي قبل ثلاثة عقود، وفي كل الحالات، جذب بوتين أخيرًا انتباه الولايات المتحدة وحلفائها لأنه يمتلك القدرات العسكرية لجعل تهديده بالحرب أمرًا ذا مصداقية.
كما تمكن من قياس درجة الاستعداد الأمريكي لخوض الحرب للدفاع عن أوكرانيا وتايوان، ففي الحالة الأولى، أوضحت الولايات المتحدة أنها لن تخاطر بخوض حرب مباشرة ضد روسيا، لكن في حالة تايوان، فإن السياسة الأمريكية الحاليّة هي “الغموض الإستراتيجي”، الذي لا يوضح ما إذا كانت واشنطن ستدافع عن تايوان في حالة تعرضها لهجوم صيني أم لا.
إعلان أمريكا أنها لن تخوض حربًا ضد موسكو بشأن أوكرانيا من المحتمل أن يثير إعجاب الصين أكثر، وقد تفسره بكين على أنه بدافع الخوف من صراع كارثي محتمل مع نظير مسلح نوويًا، وإذا كان هذا هو الدرس حقًا، فلا ينبغي أن نتفاجأ إذا كانت أزمة أوكرانيا تحفز الصين على زيادة الاستثمار في قدراتها العسكرية وترفع مخاطر نشوب حرب محتملة على تايوان إلى مستوى غير مقبول للولايات المتحدة.
وبغض النظر عن النتائج المحتملة بشأن الدعم الأمريكي للجزيرة الآسيوية، يرى العديد من التايوانيين أن هناك حاجةً لمزيد من الاعتماد على الذات، فرفض الغرب إرسال قوات لمساعدة أوكرانيا في محاربة روسيا يجعل الاعتقاد السائد أن تايوان لا يمكنها الاعتماد على دول أخرى في الدفاع عنها.
من ناحية أخرى، تمنح التهديدات بالعقوبات التي أعلنتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الصين عمليًا معاينة للمخاطر الاقتصادية التي يجب أن تستعد لها في حالة نشوب حرب على تايوان، فقد سبق أن بذل بوتين قصارى جهده لحماية روسيا من مثل هذه العقوبات عن طريق عزل الدولار عن التجارة الروسية وتخزين العملات الصعبة وتنويع الأسواق لصادرات الطاقة الروسية.
لكن في نظر الصين، ربما لم تفعل روسيا ما يكفي لحماية اقتصادها، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا المهمة، فالأزمة الأوكرانية ستجعل شي أكثر تصميمًا على المضي قدمًا في زيادة الاعتماد على النمو المحلي والاكتفاء الذاتي التكنولوجي، على الرغم من أن مثل هذا المسار سيضر بشكل كبير بالكفاءة الاقتصادية.
الخطأ التكتيكي الوحيد الذي يبدو أن بوتين ارتكبه وسيحاول القادة الصينيون المستقبليون تجنبه هو أنه وضع نفسه في مأزق، على وجه التحديد، يبدو طلب بوتين الحصول على ضمان مكتوب من الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي بشأن الأمن في الجوار المباشر لروسيا غير مرن للغاية. إن الفشل في تحقيق هذا الهدف سيجبر بوتين على بدء حرب لا تخدم الغرض الإستراتيجي المتمثل في استعادة مجال نفوذ روسيا دون شن نزاع.
الهدف النهائي للصين هو استعادة تايوان، أيضًا دون حرب كارثية، وستحرص بكين، عندما تأتي الفرصة المناسبة، على ألا تمتلك فقط القدرات العسكرية الضرورية والمرونة الاقتصادية لجعل التهديد باستخدام القوة أمرًا ذا مصداقية، فالأهم من ذلك، أنها ستحتاج إلى تبني تكتيكات أكثر مرونة حتى تتمكن من منح نفسها مساحة كافية للمناورة والمطالبة بالنصر حتى لو كانت أهدافها الأساسية بعيدة المنال.
الآن سيراقب العالم – خاصة شي جين بينغ – ليرى مقدار الألم والتكلفة التي يمكن للولايات المتحدة وحلفائها أن تلحقها بروسيا، فقد أظهرت الولايات المتحدة قوتها ليس فقط مع حاملات الطائرات، لكن مع تقنيتها وعملتها وموهبتها في تنظيم العمل الجماعي، ويعتبر هجوم بوتين على أوكرانيا اختبارًا لهذه الأدوات العديدة.
ومن المؤكد أن الصين وروسيا ستستمران في الضغط وسيثيران أزمات جديدة للضغط على الولايات المتحدة وشركائها، وربما يمكن كسر التحالفات وتآكل السيادة الأمريكية، قد يكون غزو أوكرانيا مجرد مرحلة واحدة في حملة لتدميرها، وقد تشمل المرحلة التالية السيطرة على تايوان.
الحقيقة أن مباراة روسيا أوكرانيا على ملعب الأخيرة لم تنته بعد، ومهما كانت نتيجة الأزمة الأوكرانية، فقد تعلمت الصين بالفعل دروسًا لا تقدر بثمن قد تكون قابلة للتطبيق في أي أزمة مستقبلية تشمل تايوان، حينها يمكن أن نرى حرائق أوكرانيا مشتعلةً بالفعل على الشاطئ الآسيوي.