لم تمض ساعات على بدء غزو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا، حتى أعلنت الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون عقوبات اقتصادية صارمة على روسيا، بما في ذلك قطاع الطاقة الروسي، من جانبها، علقت ألمانيا رسميًا الموافقة على خط أنابيب (نورد ستريم 2) الجديد، المملوك لشركة الغاز الروسية التابعة للحكومة، والمصمم لتوصيل الغاز الروسي إلى أوروبا عبر ألمانيا.
السؤال الأهم الذي يشغل السياسيين والاقتصاديين الأوروبيين الآن هو ما إذا كانت موسكو سترد وكيف سترد، فهناك مخاوف متزايدة في جميع أنحاء القارة من أن روسيا يمكن أن ترد على أوروبا بطريقة مؤلمة جدًا من خلال قطع إمددات الطاقة عن البلدان الأكثر اعتمادًا على الغاز الطبيعي الروسي.
بالنسبة للعديد من الدول الأوروبية، فإن التهديد بقطع الغاز الروسي يشكل كابوسًا حقيقيًا، إذ تستورد أوروبا 40% من غازها الطبيعي من روسيا، والعديد من الدول لديها تجارة واستثمارات كبيرة في الأسواق الروسية، وبنفس القدر من الأهمية، لا تؤثر روابط الطاقة والاقتصاد هذه على جميع الدول الأوروبية بالتساوي، الأمر الذي دفع الكرملين إلى استغلال هذه الاختلافات لبث الشقاق في استجابة الاتحاد الأوروبي للغزو، فلو تمكنت روسيا من استخدام نفوذها في مجال الطاقة لإقناع ألمانيا أو إيطاليا، على سبيل المثال، بعدم دعم المستوى الأشد من العقوبات الاقتصادية والمالية، فقد كان هذا ليمنح موسكو سبيلًا لتحمل العواقب الاقتصادية لغزوها.
لا ترسل أي دولة في الاتحاد الأوروبي أكثر من 20% من صادراتها إلى روسيا
لكن إستراتيجية فرق تسد لم تنج، فالدول الأوروبية عازمة على محاسبة موسكو على عدوانها وقررت أن تواجه بوتين بشكل فعال، وللقيام بذلك سيتعين على الاتحاد الأوروبي دعم الأعضاء الأكثر عرضةً للابتزاز الروسي وربما إعادة التفكير في هيكل أسواق الطاقة الأوروبية بشكل كامل.
من الناحية النظرية، يتمتع الاتحاد الأوروبي بميزة كبيرة في علاقته الاقتصادية مع روسيا، إذ تعتمد روسيا على الأسواق الأوروبية في أكثر من نصف صادراتها، بينما تشكل صادرات الاتحاد الأوروبي إلى روسيا 5% فقط من إجمالي صادراته، ويعكس هذا التفاوت الاختلاف في الحجم – اقتصاد الاتحاد الأوروبي أكبر بعشر مرات من اقتصاد روسيا – بالإضافة للتكامل على مستوى التجارة الدولية، فمستوى اندماج روسيا في الاقتصاد العالمي يعتبر منخفضًا، وعلى الرغم من الضجة بخصوص التقارب المتزايد بين بكين وموسكو، فإنها ستواجه صعوبة في استبدال عائدات الصادرات الأوروبية المفقودة بإيرادات الأسواق الصينية.
على العكس من ذلك، لا ترسل أي دولة في الاتحاد الأوروبي أكثر من 20% من صادراتها إلى روسيا، ورغم أن بلغاريا وإستونيا وليتوانيا الأكثر تعرضًا للخطر من هذه الأزمة، فإن صادراتها إلى روسيا لا تشكل أكثر من 5% من ناتجها المحلي الإجمالي.
أوروبا بحاجة إلى تقليل اعتماد بلدانها على الغاز الروسي بشكل كامل من خلال السعي لإبرام عقود جديدة طويلة الأجل مع دول أخرى منتجة للغاز الطبيعي
كما تعتبر روسيا أقل أهمية بالنسبة للاقتصادات الكبيرة مثل اقتصادات فرنسا وألمانيا وإيطاليا، فتمثل صادرات هذه الدول إلى روسيا ما بين 1 إلى 2% من إجمالي صادراتها، وبالتالي، فإن أي عقوبات مضادة روسية محتملة تستهدف واردات الاتحاد الأوروبي لن يكون لها إلا آثار هامشية على الاقتصاد الكلي الأوروبي.
لكن الطاقة قصة مختلفة، فلطالما شكل الغاز الطبيعي النفوذ الاقتصادي الأكبر لروسيا في أوروبا، ولا يزال كذلك رغم جهود الاتحاد الأوروبي لتقليل اعتماده على الإمدادات الروسية، وقد تتعاظم قدرة موسكو على استغلال هذا الاعتماد على الغاز الروسي بسبب التباينات الواسعة في احتياجات الدول الأعضاء بالاتحاد الأوروبي، إذ تستورد بلجيكا وفرنسا وهولندا أقل من 25% من غازها الطبيعي من روسيا، ولا تستورد إسبانيا والبرتغال أي شيء.
في المقابل، تعتمد ألمانيا على موسكو في نحو نصف وارداتها من الغاز الطبيعي، وتعتمد إيطاليا بنحو 40% على الغاز الروسي، أما بالنسبة للنمسا والمجر وسلوفينيا وسلوفاكيا، فإن الرقم يقارب 60% وبولندا 80%، في حين تعتمد بلغاريا على روسيا بشكل كامل في وارداتها من الغاز الطبيعي.
كيف ستواجه أوروبا عسكرة إمدادات الطاقة؟
في حال أوقفت روسيا إمداداتها من الغاز الطبيعي إلى أوروبا لا بد من وجود استجابتين قصيرة وطويلة الأمد:
على المدى القصير يمكن للدول الأوروبية اللجوء إلى احتياطات الغاز الإستراتيجية، ويمكن للدول التي لديها كميات أكبر من الغاز مثل فرنسا أو هولندا، أن تشاركها مع الدول التي تواجه نقصًا مثل النمسا وألمانيا، كما يمكن الاعتماد على بعض الدول كقطر ومصر واليابان وكورويا الجنوبية في تأمين بعض الشحنات المنقولة بحرًا، لكن استبدال الغاز الروسي بالكامل سيكون مكلفًا للغاية، لما له من تأثيرات كبيرة على ارتفاع التضخم وتآكل القوة الشرائية للأسر الأوروبية والقدرة التنافسية للشركات.
على المدى الطويل تحتاج أوروبا إلى تبني إستراتيجية طاقة شاملة على مستوى القارة تتمثل في إجراء تقييم مفصل لقطاع الطاقة في كل دول الاتحاد الأوروبي ونقاط ضعف الشركات أمام الضغط الروسي على وجه الخصوص، وتصنيف الخيارات المتاحة لتقليل اعتمادها على الغاز الروسي وانكشاف القطاع الخاص على السوق الروسية.
يجب أن تحفز الأزمة الحاليّة الدول الأوروبية على تسريع الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة
إن الحكومات الأوروبية بحاجة أيضًا إلى تقليل اعتماد بلدانها على الغاز الروسي بشكل كامل من خلال السعي لإبرام عقود جديدة طويلة الأجل مع دول أخرى منتجة للغاز الطبيعي لإضافة مرونة إضافية إلى السوق الأوروبية.
كما يجب أن تحفز الأزمة الحاليّة الدول الأوروبية على تسريع الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة، ورغم أن هذه الإجراءات لن تؤدي إلى الاستغناء عن الغاز الروسي في المدى القريب، فإنها قد تسفر عن نتائج مهمة في غضون خمس إلى عشر سنوات.
يدرك القادة الأوروبيون أن موسكو ستحاول تفتيت وإضعاف استجابة الاتحاد الأوروبي لغزو روسيا لأوكرانيا من خلال إستراتيجية “فرق تسد”، لذلك فهم بحاجة إلى اتخاذ خطوات سريعة سواء على المدى القريب أم البعيد، لأن فشل الاتحاد الأوروبي في القيام بذلك، يعني أنه سيواجه أزمة طاقة متنامية قد تمتد إلى سنوات وستؤدي إلى انكماش اقتصادي وما لذلك من تبعات سياسية على الحكومات، وربما يخلق سابقة في العلاقات الدولية اسمها (عسكرة إمدادات الطاقة).