غرد بطل الشطرنج العالمي الروسي غاري كاسباروف، في الثالث من الشهر الحاليّ، بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لا يلعب الشطرنج، وذلك ردًا على سؤال عن خطط الرئيس إزاء غزو أوكرانيا، منوهًا أنه ربما يجيد لعبة البوكر، غير أن أوراقه ضعيفة ويحاول في الوقت الحاليّ اللعب بورقة النووي.
تعكس تغريدة بطل العالم في الشطرنج الذي تحول بعد الاعتزال إلى كاتب وناشط سياسي معارض، فشل الخطة البوتينية في تحقيق أهدافها داخل الأراضي الأوكرانية، إذ قوبلت بمفاجآت غابت عن مخيلة واضعي خطة الحرب، أبرزها المقاومة الشرسة التي وضعت القوات الروسية في مأزق خطير، ما أجبرها على تغيير مسار الغزو.
وبينما تدخل الحرب يومها العاشر، بات من الواضح أن حسابات بوتين بشأن هذه الخطوة التي كان يتصورها البعض بداية الأمر مجرد نزهة لاستعراض عضلات روسيا القتالية في ظل الفجوة الكبيرة بينها وبين الجيش الأوكراني صاحب الإمكانات الضعيفة والقدرات المحدودة، كانت في معظمها خاطئة، الأمر الذي ربما يلقي بظلاله على أرضية الميدان خلال الأيام القادمة بعد الفشل حتى الآن في إسقاط المدن الرئيسية التي كان يتوقع ألا تصمد أكثر من يومين على أقصى تقدير.
“Putin… has been playing poker and now he’s playing nuclear poker.”
Asked if he has ever played chess against the Russian president, former world champion Garry Kasparov tells @mattfrei “dictators do not play chess”. pic.twitter.com/7xJ3wHrUy5
— Channel 4 News (@Channel4News) March 3, 2022
المقاومة الأوكرانية.. مفاجأة غير متوقعة
بداية الحرب كانت كل التوقعات تسير في اتجاه واحد، انتصار مدو للروس في أقرب وقت وهزيمة قاسية للأوكرانيين، لكن مسار الأحداث وتطوراتها جاء عكس عقارب الساعة التخمينية المبنية بطبيعة الحال على الأرقام الرسمية لقدرات وإمكانات كلتا القوتين.
الصور والمقاطع التي تم بثها على منصات التواصل الاجتماعي لشباب أوكرانيين يتصدون بصدورهم لدبابات الروس ويحذرون من التقدم ويتوعدون بالرد القاسي، كانت صورًا غريبة نسبيًا على المشهد أحادي القطبية، لكنها كانت تعبيرًا عن سردية مغايرة تمامًا لما تم الترويج له سابقًا.
صحيفة “نيويورك تايمز” في تقرير لها أشارت إلى أن المقاومة الأوكرانية التي وصفتها بـ”الشرسة” حالت دون سيطرة القوات الروسية على المدن الرئيسية حتى الآن، لافتة إلى أن إستراتيجيات المقاومة الجديدة التي اتبعها الأوكرانيون كانت مفاجئة للروس وقواتهم التي وجدت – ولا تزال – صعوبات بالغة في التقدم الميداني نحو العاصمة كييف، وهي الهدف الرئيسي لها.
الصدمة هنا كان مردها عنصر المباغتة التي لم يعتده الروس في حروبهم التي خاضوها، سواء بطريق مباشر كما هو الحال في سوريا وجورجيا والقرم والشيشان، أم بطريق غير مباشر عبر ميليشيات “فاغنر” كما هو الحال في ليبيا، حيث كانوا يواجهون في الغالب مقاومة هشة نسبيًا، وأرضًا شبه ممهدة تمامًا، وهو ما لم يجدوه في جارتهم الأوكرانية.
الأرقام التي أعلنها الجيش الأوكراني بشأن الخسائر التي تكبدتها روسيا طيلة الأيام العشر الماضية، تعكس بشكل لا يقبل الشك حجم المقاومة وتأثيرها الواضح في إصابة الجدار الروسي بضربات غائرة ما كان يتوقعها، بصرف النظر عن حقيقة تلك الأرقام التي لا تختلف كثيرًا عن تقديرات الاستخبارات الأمريكية والأوروبية التي أشارت إلى خسارة القوات الروسية 5% من حجمها مقابل 10% في صفوف الأوكرانيين.
وتكبد الروس منذ 24 فبراير/شباط الماضي وحتى 4 مارس/آذار الحاليّ خسائر فادحة، قدرت بنحو 9 آلاف جندي روسي قتيل (مقابل 500 فقط بحسب الرواية الروسية) وإسقاط 29 طائرة حربية وتدمير 189 دبابة، هذا بجانب أسر العشرات من العسكريين الروس، ما دفع موسكو لتعزيز قواتها بموجات متتالية من القوات المتمركزة على الحدود مع إقليم دونباس لمواجهة المقاومة المتصاعدة يومًا تلو الآخر، خاصة بعد الدعم الغربي المستمر.
يبدو أن حسابات موسكو كانت تتمحور حول قدرات الجيش الأوكراني فقط (يحتل المرتبة 22 عالميًا فيما يحتل الجيش الروسي المرتبة الثانية عالميًا) الذي لا يملك إلا 318 طائرة حربية فقط، (69 مقاتلة و29 طائرة هجومية و32 طائرة شحن عسكري)، إضافة إلى 71 طائرة تدريب و112 مروحية عسكرية منها 34 مروحية هجومية، فيما لا تتعدى قدراته البرية 2596 دبابة و12303 مدرعة و1067 مدفعًا ذاتي الحركة وأكثر من 2040 مدفعًا ميدانيًا، إضافة إلى 490 راجمة صواريخ.
لكن سرعان ما اصطدمت تلك الحسابات بحسابات أخرى أكثر واقعية، إذ فوجئ الروس بأن المقاومة لم تنحصر فقط في الجيش النظامي الرسمي الأوكراني، فقد انضم عشرات الآلاف من الشباب الأوكراني لصفوف المقاومة فيما عرفت بـ”القوات الرديفة”، مستخدمة في ذلك أسلحة التصدي التقليدية: البنادق والرشاشات الخفيفة بجانب الاستعانة بالزجاجات الحارقة “مولوتوف” التي حالت دون تقدم القوات الروسية إلى العاصمة حتى الآن، فضلًا عما تكبده لها من خسائر فادحة في معارك الدونباس شرقًا.
موقع “VOX” الأمريكي يتوقع أن يلعب المدنيون والمتطوعون الأوكرانيون دورًا حاسمًا في الدفاع عن بلدهم، لافتًا أنهم يستعدون لهذا اليوم منذ أحداث القرم في 2014، مقدرًا عدد المتطوعين بعشرات الآلاف، منوهًا أن سلطات العاصمة كييف وحدها وزعت حتى أول أمس الخميس، 18 ألف قطعة سلاح على المدنيين و70 ألف بندقية من طراز AK-47.
الانتصار الديموغرافي.. معتقدات غير دقيقة
كان مبرر روسيا – المعلن إعلاميًا – لشن حربها ضد أوكرانيا دعم الانفصاليين في إقليم دونباس شرقًا من الانتهاكات والعنصرية التي يتعرضون لها على أيدي حكومة كييف، وكانت معظم المؤشرات تذهب إلى أن الخريطة الديموغرافية في تلك المنطقة تميل أكثر لصالح روسيا التي استطاعت خلال السنوات الثمانية الماضية إضفاء السمت الروسي على كل مجالات الحياة في الإقليم حتى بات روسي الهوية أكثر منه أوكراني.
التقديرات الروسية كانت تذهب إلى أن حجم الولاء الذي يدين به الأوكرانيون في دونباس وبقية المدن الأوكرانية ما عدا كييف، يؤهل لغزو سهل يقابل بترحيب وتأييد منقطع النظير، يجعل من الحرب جولة ترفيهية داخل الأراضي الأوكرانية، وهو ما ثبت بالأرقام فقدانه للموضوعية.
على سبيل المثال.. يشكل الأوكرانيون في منطقة “دونيتسك” التي اعترفت موسكو باستقلالها قبل أيام، نحو 56.8%، فيما يمثل الروس 38.2%، وتتوزع النسبة الباقية من عدد السكان البالغ نحو 7 ملايين نسمة، على قوميات أخرى، كالتترية والأرمنية، ولا يختلف الوضع كثيرًا في “لوغانسيك” البالغ عددها 2.2 مليون نسمة، منهم 58% أوكرانيون مقابل 39% من الروس.
خلال السنوات السبعة الماضية سارعت روسيا الخطى لضمان ولاء سكان الإقليم، فمنحت نحو مليون أوكراني الجنسية الروسية بين عامي 2016 و2020 فقط، فيما نشطت الأحزاب الأوكرانية الموالية لنظام الحكم في روسيا على حساب نظيرتها الأوكرانية محدودة الإمكانات.
عمليًا.. فإن منطقة كهذه ذات الحضور الروسي السياسي والاقتصادي والديموغرافي، وفق معطيات موسكو، من المستبعد أن تقاوم التدخل العسكري الروسي، لكن المفاجأة كانت في حجم الشراسة التي أبداها سكان الإقليم في عرقلة التمدد العسكري للجار النووي.
وحتى اليوم لم تنجح موسكو في السيطرة على أي مدينة كبرى في مدن دونباس رغم الحشد العسكري الهائل والدعم المقدم من الانفصاليين في مقابل محدودية الإمدادات المقدمة للأوكرانيين، ما يعكس الحسابات الخاطئة التي كانت تستند إليها موسكو في حجم الولاء المتوقع من أبناء الإقليم الذين استطاعوا حتى اليوم تكبيد الروس خسائر غير متوقعة.
وعليه فإن المقاومة الشرسة التي يبديها الجيش الأوكراني وقواته الرديفة في لوغانسك وخاركيف وماريوبول، تعكس بشكل مؤكد حالة الرفض الشعبي للحرب الروسية والدعم الكامل لحكومة كييف واختيار مسار الدفاع عن البلاد مهما كلف الأمر، وهي السردية التي تخالف شكلًا ومضمونًا حسابات موسكو.
Video of a Russian Mi-24 helicopter getting shot down reportedly from this morning. #StopPutinNOW #Ukraine #UkraineRussianWar #UkraineUnderAttaсk #Kyiv #الحرب_الروسية_الاوكرانية pic.twitter.com/XBYw2Bc4NX
— belal EL Nemer (@BELALnemer) March 5, 2022
الاعتماد على الحلفاء.. حسابات متأرجحة
كانت تستند موسكو منذ احتلالها شبه جزيرة القرم في 2014 وحتى اليوم على بعض الحواضن الاقتصادية لامتصاص تأثير العقوبات الغربية المفروضة عليها، في المقدمة منها الصين التي يعتبرها خبراء محرك الدفع الأول لبوتين في حربه ضد أوكرانيا، وضمانته الرئيسية في مجابهة الغرب وضغوطه، هذا بجانب بعض الحلفاء الآخرين كالهند ودول الخليج ومصر وغيرها من البلدان التي فتحت أسواقها للسلع الروسية.
الأيام الماضية شهدت تحولًا نوعيًا في خريطة التحالفات، فبعد تأييد بعض القوى لخطوة الحرب كالصين أو الامتناع عن الإدانة كالإمارات أو محاولة النأي بالنفس عن الأزمة كمصر والسعودية، إذ بالأوضاع تتغير خلال اليومين الماضيين، وذلك بعد الضغوط التي مارستها واشنطن على تلك الدول لتبني وجهة النظر الغربية الضاغطة على موسكو.
العديد من التغيرات في مواقف الدول شهدتها الجلسة الأخيرة للأمم المتحدة للتصويت على قرار إدانة الحرب الروسية ضد أوكرانيا، فها هي الإمارات التي امتنعت سابقًا عن التصويت على مقترح أمريكي لإدانة الغزو الروسي تصوت لصالح القرار، الحال كذلك مع القاهرة التي انتقلت من محور الصمت إلى دعم الرؤية الغربية، حتى الصين التي كانت حائط الصد الأبرز امتنعت عن التصويت، بل ازداد الأمر سوءًا حين قررت استبعاد لاعبي روسيا وبيلاروسيا من بطولة الألعاب البارالمبية الشتوية التي انطلقت في العاصمة بكين أمس الجمعة.
الضغوط الأمريكية تجاوزت دبلوماسيتها الناعمة إلى هذا النوع الخشن، فقد لوح مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون جنوب آسيا، دونالد ليو، أن إدارة الرئيس بايدن تفكر في فرض عقوبات على الهند، بسبب اعتمادها الزائد على الأسلحة الروسية وتخزينها المفرط لها، في مقابل زيارة محتملة لنائبة وزير الخارجية الأمريكي، ويندي شيرمان، إلى المغرب وتركيا وربما مصر قريبًا، وحديث عن تعزيز سبل التعاون مع تلك الدول كنوع من “المكافأة” على مواقفها خلال تلك الحرب.
تلك الضغوط التي أثارت مخاوف الكثير من الدول أثرت بشكل أو بآخر على عائدات النفط الروسي، إذ تتجنب الكثير من العواصم وبيوت الوساطة النفطية التعاقد على صفقات نفط روسية خلال الآونة الأخيرة رغم الخصومات التي تقدمها على أسعارها التي تقل قرابة 20 دولارًا عن سعر البرميل في السوق العادية، وهو ما يعكس وبشكل كبير خسارة الرهانات على النفط كسلاح رادع في يد موسكو خلال حربها الحاليّة مع الغرب.
يتزامن ذلك مع خطة غربية لتقليل الاعتماد على الغاز الروسي مرحليًا من خلال فتح قنوات اتصال مع إمدادات من دول أخرى أو تعويض الزيادة المتوقعة في الأسعار نتيجة وقف تصدير الغاز، بالإفراج عن جزء من الاحتياطي النقدي لتغطية الاحتياجات.
وفي الجهة الأخرى جاء الدعم الغربي لأوكرانيا على عكس المتوقع تمامًا، فالبروفة التي أجراها بوتين في القرم قبل 7 سنوات يبدو أنها أغرته بصورة طمأنته بأن سقف العقوبات الحاليّ لن يتجاوز كثيرًا الحاجز القديم، فإذ به يجد أحزمة دعم على المسارات كافة، عسكرية واقتصادية ولوجستية وسياسية، وصلت إلى حد الإصرار على عزل روسيا وجعلها دولة منبوذة رغم أوراق الضغط التي تمتلكها موسكو التي طالما رضخ الغرب أمامها لسنوات طويلة.
في ضوء المعطيات السابقة، يبدو جليًا أن بوتين لا يجيد لعبة الشطرنج كما قال كاسباروف، إذ إن جل الحسابات التي استند إليها في حربه كانت خاطئة، وعليه لم يجد الرئيس المنتشي بعناده إلا لعبة “البوكر” لإثبات حضوره، غير أن كل الخوف ألا يجد دب روسيا سوى “البوكر النووي” لكسب المعركة، وهي الخطوة التي، حتى إن كانت في إطار الضغط على المعسكر الغربي، ستغير قواعد اللعبة تمامًا.