ظهرت الآثار الاقتصادية للحرب الروسية على أوكرانيا بسرعة على جوانب متعددة من القطاعات الاقتصادية في الدول العربية، ولأن الدول العربية تعتمد في الغالب على الدول الأخرى لاستيراد الاحتياجات الأساسية فإنها تعاني من تبعات الأزمات العالمية مهما كانت بعيدة جغرافيًا، وبذلك تزداد معاناة المواطن العربي بؤسًا نتيجة غلاء الأسعار وانخفاض المدخول وعدم الاكتراث الحكومي بالمعاناة المستمرة على أي صعيد كان.
تبرز سوريا اليوم كونها من أكثر البلدان العربية تأثرًا بالحرب الروسية على أوكرانيا، لأنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالاقتصاد الروسي، فيما تعتاش حكومة النظام بجزء لا بأس به من المساعدات الروسية أو السلع الأساسية التي تأتي من هناك بأسعار مخفضة مقارنة بغيرها من الدول، أما اليوم وقد أضحت موسكو ضمن إطار عزلة دولية وعقوبات ضاربة يبدو أنها ستمتد مهما كانت نتيجة الحرب فإن حكومة النظام السوري باتت على أعتاب أزمة اقتصادية أشد وطأةً مما كانت عليه.
قيود حكومية
كما أسلفنا فإن تأثيرات الحرب كانت سريعة وخاصة على سوريا، من أجل ذلك فإن اجتماعات حكومة النظام منذ بدأت المعارك في أوكرانيا تتركز في الأساس على كيفية التعامل مع الأزمات “المحتملة” التي قد تصيب البلاد، ففي الاجتماع الوزاري الذي عقد يوم الخميس 24 فبراير/شباط الماضي، أقرت الحكومة “اتخاذ ما يلزم لإدارة المخازين المتوافرة من المواد الأساسية وهي القمح والسكر والزيت والأرز بالإضافة للبطاطا خلال الشهرين المقبلين، والتدقيق في مستويات توزيع هذه المواد وترشيدها لضمان استدامة توافرها”.
ووضعت حكومة النظام قائمة بالتوريدات الأساسية الأكثر ضرورةً والاتفاق على عقود التوريدات، كما دعت إلى مراجعة الصادرات وتقييد تصدير المواد التي يمكن أن تؤدي إلى أزمة حال نقصانها مثل زيت الزيتون والمواد الغذائية المحفوظة بالإضافة إلى الأدوية، وبحثت الحكومة وضع خطة لتوزيع المشتقات النفطية في ظل ارتفاع أسعار النفط العالمية، كما وضعت آلية لمراقبة أسعار صرف العملات الأجنبية والتعامل بها.
خلال اجتماعها الثاني الذي عقد يوم الثلاثاء الماضي 3 مارس/آذار، أقرت حكومة النظام خطة وبرامج تنفيذية لتحديد أولويات الإنفاق وضمان تعزيز المخازين من المواد الأساسية والمشتقات النفطية والأدوية، لمواجهة تداعيات الأزمة الحاليّة، وتركز الخطة على “أولوية تأمين مستلزمات الإنتاج الزراعي للموسم الحاليّ، والتشديد بمنع تهريب أي مواد إلى خارج سوريا وتسلم كامل محصول القمح للموسم المقبل من المزارعين، وإعطاء الأولوية لتأمين المحروقات اللازمة لمحصول القمح”، والكلام هنا من بيان صدر بعد الاجتماع الوزاري.
عطفًا على ما سبق أقرت حكومة النظام أيضًا، فتح مدة الشحن في إجازات الاستيراد وتعزيز الاحتياطي من المشتقات النفطية والقمح وضمان عدم حصول أي نقص، وقال رئيس الوزراء حسين عرنوس: “الحكومة تعمل لتعزيز الكميات المتوافرة من مختلف المواد تفاديًا لأي تداعيات سلبية قد تحصل نتيجة الأحداث على الساحة الدولية”.
المستشار في رئاسة الحكومة أيوب عريش قال: “الأزمة الأوكرانية تحمل تأثيرات واسعة على الاقتصاد العالمي، ومن ضمنه سوريا”، وتوقع ارتفاع معظم أسعار السلع وتوريدات القمح بشكل أساسي، لكن وزير التجارة في الحكومة عمرو سالم، أحال سبب التأثر السريع بالأزمة إلى التجار السوريين الذين “رفعوا الأسعار وخزنوا المواد”، لكنه لم ينف تأثير الحرب في أوكرانيا على الشحن من روسيا والتحويلات المالية، وعلى الرغم من ارتفاع الأسعار في الأصل قال سالم: “لا توجد مخططات لرفع أسعار السكر أو الأرز أو القمح”، مؤكدًا “توافر كميات جيدة من القمح، ترسو يوميًا منه بواخر يتم تفريغها بشكل سريع”.
التصريحات الحكومية والأخبار القادمة من أوكرانيا بالإضافة إلى اقتراب شهر رمضان، دفعوا المواطنين السوريين إلى الأسواق لتخزين حاجياتهم الأساسية خوفًا من الغلاء وانقطاع السلع الرئيسية، فقد بات السوريون يتوقعون الأسوأ في كل أزمة محلية كانت أم عالمية وسط اقتصاد بات في مهب الريح بفعل الحرب التي شنها بشار الأسد على الشعب إبان ثورة 2011.
التحجج الحكومي بأزمة أوكرانيا وإن كان محقًا لدرجة معينة، ما هو إلا شماعة جديدة لتعليق الفشل الاقتصادي على الغير، فالأزمة الاقتصادية تتفاقم منذ سنوات في البلاد دون حلول رادعة تعمل على تنمية دخل المواطن والعمل على تحسين معيشته، بل على العكس كانت حلولها في اتجاه مغاير لما يتطلبه الشعب من احتياجات، وهنا نستذكر أن النظام السوري رفع منذ أسابيع الدعم عن عشرات آلاف السوريين في إطار سياسته الاقتصادية الجديدة.
آثار على الأسعار
إلى ذلك تمثلت الارتدادات الأولية للأزمة في أوكرانيا على الاقتصاد السوري بانهيار قيمة الليرة السورية، فقد انخفضت أمام الدولار إلى مستوى 3930 ليرةً أمام الدولار الواحد في أسواق العاصمة دمشق، الجدير بالذكر أن الأيام التي سبقت الحرب الأوكرانية الروسية كانت الليرة تترواح عند حد 3500 مقابل الدولار الواحد.
ويعزى سبب انهيار الليرة إلى اعتماد النظام السوري الكبير بعلاقاته التجارية على موسكو بالإضافة إلى العلاقات المصرفية المرتبطة بالتحويلات المالية، وبالطبع فإن العقوبات الغربية الكبيرة التي فرضت على المؤسسات والبنوك الروسية وعزلها جزئيًا عن النظام المالي العالمي سيؤثر بشكل أكبر على التعاملات المالية للنظام.
ليس بعيدًا عن انهيار العملة فقد ارتفعت أسعار السلع الاستهلاكية والمواد الغذائية في الأسواق، وتجاوز الارتفاع الـ40% لبعض السلع، فعلى سبيل المثال ارتفع سعر الزيت النباتي من 8 آلاف ليرة إلى 14500 ليرة في بعض المناطق، وفي مناطق أخرى بات يباع بـ16 ألف ليرة سورية، يقول المرصد السوري لحقوق الإنسان إن الزيت النباتي بات مادةً مفقودةً من الأسواق هذه الأيام.
في مثال آخر أيضًا، ستؤثر الأزمة في أوكرانيا على ارتفاع أسعار الدجاج والدواجن في سوريا، إذ قالت لجنة مربي الدواجن: “أسعار أعلاف الدواجن تشهد ارتفاعًا حادًا، بسبب أن الإمدادات تأتي من روسيا وأوكرانيا، وهو ما يفرض، على الموردين في هذه الحالة، إما زيادة مسافة الشحن وإما الاستيراد من دول أخرى”.
ويرى خبراء أن “روسيا تبيع القمح لحكومة دمشق بأسعار مخفضة، وفي بعض الأحيان تتبرع بكميات منه للنظام، وتفاقم الأزمة الاقتصادية عندها بفعل الحرب والعقوبات”، وبالتالي “قد يحرم النظام السوري من الامتيازات التي كانت تمنحها للنظام في مجال القمح”. الجدير بالذكر أن سوريا لا تملك مخزونًا إستراتيجيًا من القمح وإنما تعتمد على الشحنات الآتية من روسيا، وفي ظل العقوبات الدولية يخشى أن تنقطع خطوط الإمداد.
وخلال حديثه لـ”نون بوست” يقول خالد تركاوي الباحث الاقتصادي السوري: “في ظل العقوبات الاقتصادية الكبيرة على روسيا فإنه من الصعب أن تظل موسكو تدعم النظام السوري اقتصاديًا في مرحلة لاحقة، الروس كانت لديهم مشاريع لدعم النظام واليوم أصبحت هذه المشاريع بعيدة”، كما يشير الباحث تركاوي إلى أنه “حتى لو كان الدعم المالي قليلًا في بعض الأحيان لكن الروس لن يخاطروا في هذا الإطار في حال احتاج النظام أي قروض أو سلع أو ما شابه”.
في الصور التالية أسعار لبعض السلع التي ارتفعت أسعارها في الأيام الأخيرة، والقائمة مأخوذة عن المرصد السوري لحقوق الإنسان، يشار إلى أن هذه الأسعار كانت حتى يوم 3 مارس/آذار 2022.
الواردات
يرى تركاوي أن “تشابكات النظام السوري الاقتصادية مع الدول الأخرى ضعيفة جدًا، بمعنى أن العلاقات التجارية سواء مع روسيا أم مع أوكرانيا أم مع أي جهة أخرى متأثرة بالحرب هي بالأصل ضعيفة”، ويدل على ذلك الأرقام الضعيفة في إحصاءات التبادل التجاري بين روسيا وسوريا، وقد يعتقد البعض أن الأرقام تتعدى المليارات لكنها لا تتخطى عشرات ملايين الدولارات.
وبشكل أساسي تعتمد الحكومة السورية على استيراد القمح من روسيا، وفي السياق قال وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في حكومة النظام محمد سامر الخليل: “سوريا في حاجة إلى استيراد أكثر من 1.5 مليون طن من القمح سنويًا، معظمها من روسيا”، وكان السفير الروسي لدى سوريا، ألكسندر يفيموف قد أعلن أن حجم التبادل التجاري بين روسيا وسوريا عام 2021 ، ازداد ثلاث مرات مقارنة بعام 2020، كما بينت معاونة وزير الاقتصاد لشؤون التنمية الاقتصادية، رانيا أحمد، أن حجم التبادل التجاري مع روسيا لأول 9 أشهر من عام 2021 بلغ نحو 185 مليون يورو، أما عام 2020 فبلغ 63 مليون يورو.
على صعيد العلاقات مع أوكرانيا، فإن العلاقات بين النظام وأوكرانيا تعتبر بحكم المقطوعة منذ اعتراف النظام السوري باستقلال شبه جزيرة القرم عام 2014، أما على الصعيد الاقتصادي فقد تراجع التبادل التجاري بشكل ملحوظ بين البلدين، ويعتمد النظام بوارادته من كييف بشكل أساسي على الأغذية والحيوانات الحية والزيوت والشحوم الحيوانية، إضافة إلى المواد التي تدخل في تركيبة الأعلاف الحيوانية. الجدير بالذكر أن سوريا كانت الشريك التجاري العربي الأول لأوكرانيا في فترة ما قبل انطلاق الثورة السورية، حيث ارتفعت قيمة التبادل التجاري إلى مليار دولار.
ختامًا: يقول الخبير الاقتصادي السوري يحيى سيد عمر لـ”نون بوست”: “تظهر آثار الحرب في أوكرانيا على مختلف اقتصادات العالم، ومنها اقتصاد النظام السوري، ويظهر هذا الأثر على عدة مستويات منها ارتفاع تكلفة استيراد المحروقات وتكلفة استيراد القمح وغيرها من المواد الأساسية، وهذا الأمر سيشكل ضغطًا إضافيًا على الليرة السورية المتدهورة أساسًا، ومن جهة أخرى فإن عزل البنوك الروسية عن نظام سويفت سيضر بالنظام الذي يعتمد عليه في إنجاز بعض المعاملات المالية، وهذا سيعني مزيدًا من الضغط المالي على حكومة النظام، أما فيما يتعلق بتوقف الإمدادات الروسية إلى النظام فهذا الجانب منخفض الأثر كون الدعم الاقتصادي الروسي للنظام يعد محدودًا مقابل ارتفاع الدعم السياسي والعسكري”.