كانت تعرف قديمًا بـ”جزيرة الذهب” تحت سيطرة الاستعمار الأوروبي الذي تناوب عليها يمينًا ويسارًا، حيث أسالت ثرواتها الطبيعية لعاب القوى الاستعمارية الثلاثة (البرتغال وهولندا وبريطانيا) فتحاربوا لأجل الظفر بها، لكنها في النهاية انتصرت على الجميع لتصبح أول دولة مستقلة في غرب إفريقيا.
“غانا”.. هذا البلد الذي كان يعاني منذ عقود ليست بالطويلة من فقر مدقع وانهيار شبه كامل في البنى التحتية والاجتماعية واقتصاد مترهل يسير على عكازات دعم خارجي، إذ به اليوم واحدة من أكثر التجارب الناجحة في القارة الإفريقية على المستوى السياسي والاقتصادي.
في 6 مارس/آذار من كل عام يحتفل الغانيون بيوم الاستقلال، ففي هذا اليوم تخلص هذا الشعب الإفريقي المناضل من ربقة الاستعمار البريطاني الذي جثم على صدره قرابة 60 عامًا (1896 – 1957م)، مقدمًا تجربة فريدة من نوعها في التحرر الوطني التي صاحبها تحرر سياسي ثم اقتصادي.
في هذه الجولة العابرة، نلقي الضوء على أبرز ملامح رحلة الاستقلال لهذا البلد (الواقع على طول خليج غينيا والمحيط الأطلسي ويحده بوركينافاسو من الشمال، وتوغو من الشرق، وساحل العاج من الغرب) الذي بات اليوم من العشرة الكبار في إفريقيا، وكيف نجح في عبور محنة الإذلال الاستعماري الذي نهب ثرواته وأفقر شعبه وحوله إلى عبيد في خدمة سادة القارة العجوز وذلك قبل أن يصبحوا رقمًا صعبًا في خارطة القارة السمراء التنموية.
60 عامًا تحت الاستعمار البريطاني
يعود تاريخ غانا إلى عام 1200م حين كانت أرضًا مأهولةً بالسكان والخيرات ضمن ممالك إفريقيا التاريخية في شمال غرب القارة، كانت تتميز وقتها بثرواتها الطبيعية وموقعها الجيوسياسي الإستراتيجي، الذي أهلها لأن تكون قبلة لسكان إفريقيا الشماليين.
وفي إحدى الرحلات الاستكشافية للبرتغاليين عام 1471م حطوا على شاطئ غانا، ومكثوا هناك بعض الوقت ليكتشفوا ثروات البلاد الذهبية، ما أسال لعابهم فاستوطنوا فيها وأطلقوا عليها “ساحل الذهب”، ليبدأ صيت هذا المكان الثري ينتشر في أوروبا التي كانت تبحث في ذلك الوقت عن مناجم ومكانز لها تغطي نفقات خططها الاستعمارية.
وفي عام 1642 جاء الهولنديون لمنافسة البرتغاليين على ثروات تلك الدولة المكتشفة حديثًا، وبالفعل استطاعوا الاستيلاء عليها، لينهوا أكثر من 170 عامًا من السيادة البرتغالية، وظلوا بها قرابة ربع قرن حتى جاء البريطانيون عام 1872 ليفرضوا كامل سيطرتهم على تلك المنطقة.
لم يرفع الغانيون الراية البيضاء استسلامًا للمستعمر الأوروبي وترحيبًا به، كما تصور كتب أوروبا، بل على النقيض من ذلك حاولوا قدر الإمكان الزود عن أوطانهم وترابهم
وفي عام 1896 حولت بريطانيا تلك البلاد التي كانت ضمن إمبراطورية الأشانتي الممتدة من الشاطئ الغاني إلى الداخل، إلى مستعمرة بريطانية كاملة، وجعلت من غانا محمية لها في مسيرتها الاستعمارية التوسعية داخل القارة، ثم أعادت الدولة الأوروبية ترسيم حدود هذا البلد الإفريقي بشكله المستمر حتى اليوم.
قرن من المقاومة
لم يرفع الغانيون الراية البيضاء استسلامًا للمستعمر الأوروبي وترحيبًا به، كما تصور كتب أوروبا، بل على النقيض من ذلك حاولوا قدر الإمكان الزود عن أوطانهم وترابهم بعدما تبين لهم أطماع الأوروبيين في ثروات بلادهم، لكن الفارق الكبير في الإمكانات والقدرات حال دون تحقيق أي نجاحات تذكر في سبيل طرد المستعمر.
خاض شعب غانا مقاومةً شرسةً ضد البرتغاليين ومن بعدهم الهولنديين ثم البريطانيين لمدة قاربت على مئة عام، سقط خلالها الكثير من القتلى فيما حول آخرين إلى أعمال دونية عقابًا لهم كالعبودية وغيرها، ومن بين رحم تلك المعاناة ولد زعيم المقاومة التاريخي كوامي نكروما، الذي ولد في أكرا عام 1909.
بينما كان البريطانيون ينهشون جسد غانا ويسلبونها ثرواتها كان نكروما يخوض حربًا من نوع آخر في أمريكا وأوروبا، حيث عمل أستاذًا بجامعة لنكولن في أمريكا عام 1935 ثم مدرسة الاقتصاد في لندن عام 1945، وكان يقود نشاط الطلاب الأفارقة هناك تنديدًا بالاستعمار البريطاني لبلاده.
وعقب عودته لبلاده أواخر 1947 بدأ نكروما أولى خطوات النضال الفعلي بتأسيسه مؤتمر شاطئ الذهب الموحد، باكورة العمل الشعبي ضد الاستعمار، ثم سرعان ما أسس حزب المؤتمر الشعبي عام 1949 وكان شعاره الأساسي “تحقيق الحكم الذاتي للبلاد”.
أثارت تحركاته حفيظة السلطات البريطانية التي اعتقلته عام 1950 وحكم عليه بالسجن 3 سنوات، لكن المفاجأة أن حزبه الجديد فاز في الانتخابات البلدية والعامة التي جرت عام 1952 ليطلق سراحه ويصبح رئيسًا للوزراء، ليبدأ مرحلة جديدة من المقاومة من كراسي السلطة.
وبعد عشرات السنين خاضها الغانيون دفاعًا عن سيادة بلادهم، وأمام الضغوط الدولية والخسائر التي تكبدها البريطانيون على أيدي المقاومة، نالت البلاد استقلالها في 6 مارس/آذار 1957، لتصبح أول دولة تنال استقلالها في غرب إفريقيا لتفتح الطريق بعد ذلك أمام الدول المحتلة للحصول على استقلالها.
التجربة الديمقراطية
انتخب نكروما أول رئيس لغانا بعد الاستقلال ثم أعيد انتخابه مرة أخرى عام 1965، غير أن الممارسات السلطوية التي مارسها حزبه “المؤتمر الشعبي” قلصت كثيرًا من شعبيته رغم تاريخه الطويل في المقاومة، فبات هدفًا للمعارضة وتعرض لمحاولات اغتيال عدة، هذا بجانب انقلاب بعض ضباط جيشه عليه عام 1966 ما اضطره لمغادرة بلاده متوجهًا إلى غينيا، ومنها إلى رومانيا التي توفي فيها في 27 أبريل/نيسان 1972.
مرت التجربة الديمقراطية الغانية بمرحلة مخاض عسر، فقد شهدت البلاد منذ الاستقلال عن بريطانيا خمسة انقلابات عسكرية، الأول كان ضد نكروما 1966 حين كان في جولة رسمية إلى فيتنام، ثم توالت الانقلابات الأربع الأخرى بين عامي 1972 و1981 على يد الجنرال إيمانويل كوتوكا.
ويعد عام 1992 نقطة التحول الجذرية في مسار غانا السياسي، حين أقر أول دستور في البلاد يسمح بالتعددية الحزبية، ومن هنا وضعت الدولة الإفريقية أولى أقدامها على الطريق الصحيح ديمقراطيًا، لتعرف بعد ذلك الانتقال السلمي للسلطة الذي كان له مفعول السحر في المزيد من التركيز على قضايا الإصلاح الاقتصادي والتعليمي والتفرغ أكثر لخطط البناء والتنمية.
الريادة الاقتصادية
السياسة والاقتصاد وجهان لعملة واحدة، هكذا يقول كبار الساسة وخبراؤها، وعليه فقد أسفرت التجربة الديمقراطية الغانية التي باتت واحدة من التجارب المضيئة في القارة الإفريقية المظلمة ديمقراطيًا، عن ريادة موازية في قطاع الاقتصاد، إذ أصحبت غانا في غضون سنوات قليلة بعد الاستقلال في الترتيب الثامن من بين أكبر اقتصادات إفريقيا، فبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي في 2020 نحو 72.4 مليار دولار، وفق بيانات “ستاتيستا” الصادرة عن بيانات البنك الدولي.
يمكن الوقوف على حجم تلك الطفرة الاقتصادية من خلال الإشارة إلى معدلات الفقر في البلاد وكيف تواصل هبوطها المستمر عامًا تلو الآخر
في المجمل يمكن القول إن اقتصاد غانا يعتمد في المقام الأول على الزراعة، فالدولة زراعية في الأساس وتحتل الريادة العالمية في إنتاج بعض المحاصيل وعلى رأسها الكاكاو الذي تصدر قائمة صادراتها لمدة نصف قرن تقريبًا، إذ يغطي نصف المساحة الزراعية في البلاد، ومعه الزيت والمطاط والأناناس.
غير أن ذلك لم يحل دون التفوق في القطاعات الأخرى، حيث شهدت طفرة كبيرة في صناعة السلع التكنولوجية الرقمية، وتصدير الهيدروكربونات والمعادن الصناعية، بجانب صناعة السيارات وتصدير السفن، كل ذلك انعكس على الوضع المعيشي للغانيين، حتى باتت واحدة من أعلى الناتج المحلي للفرد الواحد في القارة.
وعلى الجانب الآخر هناك الثروات المعدنية التي تمثل ركنًا أساسيًا في أركان الاقتصاد الوطني، فبجانب الذهب الذي طالما أسال لعاب العالم، مستعمرين قدماء ومستثمرين حاليين، هناك كذلك الألماس والنيكل والبوكسيت كما يصنع الألمنيوم، أما فيما يتعلق بالثروة الحيوانية فتعد البلاد واحدة من أكبر دول العالم امتلاكًا للأبقار والأغنام والماعز.
وكان للنفط دور محوري في دفع قاطرة التنمية للأمام، إذ قفز الإنتاج منذ 2017 بصورة غير مسبوقة، ليقترب يوميًا من حاجز الـ80 مليون برميل بعدما كان لا يتجاوز 8 آلاف برميل في 2010، فيما ارتفعت الصادرات النفطية خلال السنوات الخمسة الماضية بنسبة 124%، مع الوضع في الاعتبار استمرار عمليات التنقيب وسط توقعات باكتشافات كبيرة خلال المرحلة المقبلة بحسب شركات التنقيب العالمية ومنها “أكسون موبيل” الأمريكية.
ويمكن الوقوف على حجم تلك الطفرة الاقتصادية من خلال الإشارة إلى معدلات الفقر في البلاد وكيف تواصل هبوطها المستمر عامًا تلو الآخر، ففي عام 1991 مع بداية التجربة الديمقراطية الحقيقية كان يعيش 53% من سكان غانا في الفقر المدقع خلال عام 1991، لكن هذه النسبة تراجعت عام 2012 لتصل إلى 21%، وتواصل تراجعها خلال السنوات الماضية، فيما تشير الإحصاءات إلى أن معدلات الفقر في البلاد تنخفض سنويًّا بواقع 1.1% منذ عام 2006 وهو ما لم يحدث في أي دولة أخرى.
رحلة العبور من الفقر إلى النمو.. نموذج يحتذى
كان عبور غانا من مرحلة الفقر المدقع إلى الدولة الأسرع نموًا نموذجًا فريدًا أثار إعجاب المراكز والهيئات الدولية التي وضعت تلك التجربة قيد الدراسة والبحث على أمل الاستفادة منها في إنقاذ العديد من البلدان الغارقة في مستنقع أزماتها الاقتصادية الطاحنة.
الدروس المستفادة من تلك التجربة تشير إلى أن رحلة العبور لم تكن أبدًا باليسيرة، إذ قطع الغانيون أشواطًا من العمل الجاد والمرهق والالتزام بالخطط والإستراتيجيات من أجل النهوض والتنمية، ولعل في المقدمة منها الاستقرار السياسي، الذي يعد قاطرة التنمية الأولى التي تلحق بها بقية العربات الاقتصادية الأخرى، فبعد استنزاف الانقلابات العسكرية موارد البلاد جاء الاستقرار ليعيد الأمور إلى نصابها مرة أخرى، ويكرس مجهود الدولة إلى استغلال ثرواتها وتنمية قدراتها البشرية.
ومن محركات النمو كذلك القضاء على الفساد الذي نجح في إغراق البلاد في آتون الفقر لسنوات طويلة بعدما نخر في عظم الدولة عبر مختلف المجالات، وهو ما وضعه رؤساء غانا نصب أعينهم حين تولوا السلطة، هذا بجانب محاولة التحرر نسبيًا من التبعية الاقتصادية لصناديق النقد والبنك الدوليين، بجانب التخلص من ارتهان القرار السياسي بالمنح والمساعدات الخارجية والاعتماد على ثروات البلاد واستغلالها الاستغلال الأمثل.
وهكذا استطاعت غانا بعد 6 عقود من الاستقلال عن الاستعمار البريطاني أن تتبوأ مقعدها بين كبار إفريقيا اقتصاديًا، فيما نجحت في تقديم تجربة فريدة من نوعها في التحول الديمقراطي أصبحت – بجانب بعض التجارب الأخرى – ملهمة للكثير من الدول ذات التاريخ العريق والحضارة الممتدة لآلاف السنين.