فجر 25 أكتوبر/تشرين الأول استيقظتُ في تمام الرابعة فجرًا بتوقيت السودان، وبدأتُ ـ كالعادة ـ بعمل مسحٍ سريعٍ لمواقع التواصل الاجتماعي، ففوجئت بأخبارٍ على صيغة “عواجل” تفيد باعتقالات في صفوف قيادات حكومة ما قبل الانقلاب، إلى جانب أخبارٍ أخرى عن انتشار أمني وعسكري كبير في الساعات الأولى من صباح ذاك اليوم.
أدركتُ حينها كغيري من المراقبين أن الانقلاب وقع بالفعل، إذ كانت كل المؤشرات تدل على قُرب حدوثه، إثر هجومٍ مستمرٍ بدأ يشنّه الجنرال عبد الفتاح البرهان ونائبه محمد حمدان دقلو “حمديتي” على الحكومة المدنية منذ المحاولة الانقلابية التي جرت في سبتمبر/أيلول 2021.
بعد بيان الانقلاب الذي أذاعه البرهان يوم 25 أكتوبر/تشرين الأول، توقعت أن تتغير الأوضاع الاقتصادية السيئة التي كانت تشهدها البلاد إلى الأفضل سريعًا بدعمٍ من حلفاء البرهان، وأن تتوقف التفلتات الأمنية وحوادث النهب المسلح على طريقة “9 طويلة” وغيرها، إلا أن ما حدث كان العكس تمامًا، إذ قضى الانقلاب على الإنجازات النسبية التي حققتها الحكومة المدنية من تثبيتٍ لسعر الصرف والتقدم المحرز في برنامج إعفاء ديون السودان الخارجية، إلى جانب استقطاب مساعدات خارجية تقدر بنحو 3 مليارات دولار.
الانهيار المتواصل في قيمة العملة الوطنية “الجنيه” بعد الانقلاب تأثر به كل المواطنين السودانيين على حدٍ سواء، نظرًا لارتفاع السلع الأساسية وغيرها بشكلٍ مضطردٍ، فقد بلغ سعر الدولار في السوق السوداء ـ التي نشطت من جديد بعد الانقلاب ـ نحو قرابة 600 جنيه للدولار الواحد، في حين بقي سعره في المصارف بنحو 466 جنيهًا.
البرهان في موقف حرج
هذا التدهور في سعر العملة الوطنية وما تبعه من غلاء فاحشٍ في الأسعار تسبب في إحراجٍ بالغٍ للبرهان وحلفائه، فقد فوجئوا على ما يبدو بتجميد الولايات المتحدة وحلفائها ومؤسسات التمويل الدولية للمساعدات التي كانت مقررة للسودان، وفي الوقت نفسه توقفت عجلة الإنتاج، إذ انخفضت الصادرات السودانية بنسبة 85%، واشتكى التجار والمزارعون من الضرائب الباهظة التي فرضتها عليهم حكومة الانقلاب كي توفر المال اللازم لتسيير أعمالها ولتغطية تكاليف قمع التظاهرات المناهضة للانقلاب، التي لا تكاد تتوقف منذ أكثر من 4 أشهر.
ضاقت الحال على الانقلابيين بعد أن يئسوا من الدعم الغربي ومن دعم حلفائهم الخليجيين الذين حثتهم إدارة بايدن على عدم تقديم أي مساعدات لإنقاذ الانقلاب، إلى أن تفتقت عقلية البرهان وحمديتي إلى التوجه نحو روسيا، متناسين أن كبيرهم الرئيس المخلوع عمر البشير قد سلك هذا المسلك قبل سقوطه، إذ توجّه إلى موسكو وطلب حماية الرئيس بوتين من الولايات المتحدة، في تصرف أذهل المقربين منه قبل المعارضين.
يبدو أن تلك الفكرة الحمقاء غير المدروسة نُفّذت على عجالة، بدليل التوقيت الغريب الذي تمت فيه زيارة الجنرال محمد حمدان دقلو إلى موسكو، إذ وصلها عشية انطلاق الغزو الروسي لأوكرانيا، فحتى لو سلّمنا بصحة حديث الخارجية السودانية التي قالت إن زيارة دقلو تم الترتيب لها قبل اندلاع الحرب، فإن إرهاصات الهجوم كانت واضحة للغاية قبل أشهر من بدايته، وكان من الأولى إلغاء هذه الزيارة أو على الأقل تأجيلها لوقتٍ آخر.
بدا حميدتي محبطًا يائسًا واجم الوجه، وإن كان يحاول أن يظهر بمظهر المتماسك، فقد اكتفى بقوله إن الزيارة “حققت أهدافها” من دون أن يوضح تلك الأهداف
ويبدو كذلك أن آخر (الكروت) التي راهن عليها قادة الانقلاب في السودان لم تؤتِ أُكُلها، إذ تدل كل المؤشرات على أن الرجل الثاني في انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول محمد حمدان دقلو “حمديتي”، عاد خالي الوفاض من زيارةٍ مطولةٍ مثيرةٍ للجدل إلى العاصمة الروسية موسكو، وهو ما كان واضحًا في مؤتمره الصحفي الذي عقده فور وصوله مطار الخرطوم.
العودة بخفي حنين
بدا حميدتي محبطًا يائسًا واجم الوجه، وإن كان يحاول أن يظهر بمظهر المتماسك، فقد اكتفى بقوله إن الزيارة “حققت أهدافها” من دون أن يوضح تلك الأهداف، وبالطبع لم يستطع أن يتحدث عن مساعداتٍ أو مِنحٍ روسية تنقذ الانهيار الاقتصادي الذي يوشك أن يطيح بالانقلاب أو “الإجراءات التصحيحية” وفق ما صرّح به الجنرال البرهان يوم الانقلاب.
المراقب للمشهد السوداني يشعر بالاستغراب من التحركات التي يتبنّاها قادة الانقلاب “الجنرال عبد الفتاح البرهان ونائبه دقلو”، إذ من الواضح أنهما لم يتعلما مطلقًا من دروس الماضي، فقد كانت مجزرة فض الاعتصام عام 2019 كافية جدًا لإقناع أي صاحب بصيرة بأنه لا يمكن التنبؤ بردة فعل الشعب السوداني مهما كان حجم القمع والانتهاكات، ففي مجزرة القيادة العامة فقد الثوار نحو 120 شابًا من رفقاهم، اغتالتهم يد البطش بدمٍ باردٍ، وانتهكت أعراض رفيقاتهم في نهار رمضان قبل يومين من عيد الفطر المبارك، لكنّ كل ذلك لم يفت في عضد الثوار، بل كان دافعًا لهم للخروج بكثافة في تظاهرات 30 يونيو/حزيران عام 2019 التي كانت عبارة عن طوفان بشري اجتاح العاصمة الخرطوم وكل مدن السودان.
كذلك استبق الثوار السودانيون انقلاب البرهان، بتظاهرات 21 أكتوبر/تشرين الأول، التي كانت كافية تمامًا لأن يقوم الانقلابيون بمراجعة تنفيذ الانقلاب، لكنها المكابرة والعنجهية التي جُبِل عليها العسكر، إذ صوّر لهم كبرياؤهم أن الناس ستخرج إلى الشوارع لتأييد الانقلاب بسبب سخطهم على الحكومة المدنية، لكن ما حدث كان العكس تمامًا، خرج مئات الآلاف من المواطنين معظمهم من فئة الشباب في ذاك اليوم بصورة تلقائية رغم قطع السلطة الانقلابية الاتصالات والإنترنت عن الشعب.
كذلك استمرت عنجهية الجنرالات حتى بعد أن تأكدوا من أن الحراك المناهض للانقلاب لن يتوقف رغم القمع العنيف الذي قابلت به قواتهم المتظاهرين السلميين، ما أدى إلى مقتل 84 شابًا وإصابة الآلاف بجروح بعضها خطيرة، إلى جانب حملة الاعتقالات الجائرة والاعتداء بالضرب المبرح على المتظاهرين ونهب ممتلكاتهم، كل ذلك لم يؤدِ إلى وقف التظاهرات المناهضة للانقلاب.
خطر إستراتيجي
أخطر ما جاء في المؤتمر الصحفي الذي عقده دقلو لدى عودته من موسكو أنه استسهل منح روسيا قاعدة عسكرية في بورتسودان رغم خطورة القضية، وتبعاتها على الأمن القومي للبلاد، إذ لا يُعقل أن تقرر سلطة انقلابية غير معترف بها في قضية مصيرية إستراتيجية كبرى مثل هذه من دون تفويض شعبي ولا برلمان.
التودد إلى روسيا على حساب الأمن القومي السوداني ابتدره الرئيس المخلوع عمر البشير في آخر عام له في الحكم قبل اندلاع الثورة، إذ حاول مقايضة بقائه في السلطة بالتفريط في الأمن القومي للبلاد، وقدّم عرضًا سخيًّا لمنح روسيا رخصة لإقامة قاعدة عسكرية في بورتسودان، مقابل “الحماية من الولايات المتحدة”.
ما اقترحه الرئيس المخلوع البشير لبوتين نهاية العام 2017م يُعد اختراقًا وتهديدًا للأمن القومي السوداني، لم يحدث له من قبل في تاريخ السودان، كما يشكل التصرف ذاته الذي ألمح إليه محمد حمدان دقلو “حميدتي” تهديدًا مباشرًا ليس للسودان فحسب، بل لأمن السعودية التي لا يفصلها عن حدود السودان الشرقية إلا البحر الأحمر.
وقد لا يعلم حميدتي أن هنري كيسنجر أحد أبرز وزراء الخارجية الأمريكيين قد ذكر في السابق أنه إذا كانت هناك حرب عالمية ثالثة ستنطلق من البحر الأحمر وخليج عدن لما فيهما من تعقيدات واستقطاب عالمي، فخطورة منح قواعد أجنبية على التراب الوطني في البحر الأحمر تتقاطع مع الإستراتيجية الأمنية لدول الخليج ومصر والولايات المتحدة الأمريكية، فالقاعدة الروسية ستكون بمثابة استقطاب عداء دول عظمى وإقليمية مؤثرة لدولة صغيرة محدودة القدرات مثل السودان.
فاغنر
لا يغيب عن البال الوجود الضخم لمجموعة فاغنر، شركة المرتزقة الروسية التي يملكها مقربون من بوتين في السودان منذ عدة سنوات، فقد شارك منسوبوها في قمع التظاهرات التي أطاحت بالبشير عام 2019، ومؤخرًا ذكرت صحيفة التلغراف البريطانية أن الذهب السوداني كان عاملًا مهمًا في بناء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “خزينة حرب” تحميه من آثار العقوبات الدولية وتحضيرًا لغزو أوكرانيا.
كما أوضحت تسريبات أخرى أن مجموعة فاغنر قادت حربًا إلكترونية لصالح الانقلابيين ضد صفحات “لجان المقاومة” في مواقع التواصل الاجتماعي، واللجان هي المحرك الأول للتظاهرات المناهضة للانقلاب.
ليس لقادة الانقلاب مانع من بيع أمن البلاد القومي والتفريط في مواردها من أجل بقائهم في السلطة
وجاء في تقرير الصحيفة نقلًا عن مدير تنفيذي لأكبر شركة إنتاج الذهب في السودان إنه يُسمح لروسيا بالعمل في قطاع الذهب بشكل غير قانوني بسبب صلاتها بأمير الحرب السوداني محمد حمدان دقلو الذي تحول إلى زعيم شبه عسكري، وقال المسؤول: “روسيا لديها الكثير من العمليات في الذهب السوداني وتم تهريب الكم الأكبر منه إلى موسكو عبر طائرات صغيرة من المطارات العسكرية المنتشرة في البلاد”.
إذًا، ليس لقادة الانقلاب مانع من بيع أمن البلاد القومي والتفريط في مواردها من أجل بقائهم في السلطة، كما كان يفعل معلمهم الكبير “البشير”، والغريب أنهم يفعلون كل ذلك بينما يتهمون الأحزاب السياسية بـ”العمالة للخارج”.
الحل ليس في موسكو
السذاجة السياسية وقِصر النظر هي التي جعلت البرهان ونائبه يظنان أنه طالما أغلقت دول الغرب ومؤسساتها المالية المنح والقروض عن نظامهما الانقلابي، فإن البديل هو الوقوع في الحضن الروسي لإنقاذهم من الانهيار الوشيك، في حين أن الاقتصاد الروسي وحتى قبل غزو أوكرانيا – وما تبعه من عقوبات غربية قاسية – أضعف بكثير من اقتصاد بعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، أما تقديرات الحرب الجارية الآن فقد كبدت روسيا خسائر بلغت 7 مليارات دولار في أيامها الأربع الأولى فقط، ما يعني أن البرهان وحميدتي يريدان رهن السودان لروسيا التي بدأت تشتكي من وطأة هذه العقوبات، حيث اعترف الرئيس بوتين بشدة العقوبات التي وصفها بأنها تعادل “إعلان الحرب”.
رغم ذلك ينبغي على لجان المقاومة في السودان والأحزاب السياسية أن تتصدى بقوة لتحركات قادة الانقلاب فيما يخص تفريطهم في الأمن القومي للبلاد، إذ ألمح حمديتي إلى إمكانية منح روسيا قاعدة عسكرية على ساحل البحر الأحمر فور عودته من موسكو، قائلًا إنه لا يفهم لماذا هناك من يثير ضجة لاحتمال منح روسيا قاعدة عسكرية على شاطئ البحر الأحمر في شرق السودان، وهكذا ومن حيث لا يريد، كشف أنه بحث أمر تلك القاعدة مع الروس، غير مكترث إلى أن مثل هذه القاعدة ستزج بالسودان في صراعات القوى الكبرى والإقليمية، كما أوضحنا أعلاه، إذ قال بكل سذاجة: “ما فيها شيء.. كل البلدان التي حولنا فيها قواعد.. على كل حال هذا أمر يبت فيه وزير الدفاع”، وبهذا فإن حميدتي يقول إن هذا الأمر الخطير الذي يتعلق بسيادة السودان وأمنه القومي وعلاقاته الدولية متروك لشخص واحد.
وينبغي على لجان المقاومة والأحزاب السياسية والإعلاميين أن يوضحوا للرأي العام السوداني خطورة توجه قادة الانقلاب إلى منح الروس قاعدة عسكرية في بورتسودان، من دون تفويض شعبي، وكذلك تأثير مواقف النظام العسكري من الغزو الروسي لأوكرانيا على مستقبل البلاد وعلاقاتها الخارجية، كما أنه يجب على القوى الثورية أن تتبنى خطابًا مكثفًا يدين هذه التحركات المشبوهة لقادة الانقلاب، ويوضح بجلاء رفض القوى المدنية لموقف النظام العسكري وتماهيه مع الغزو الروسي، ما يهدد أكثر بعودة البلاد إلى العزلة الدولية التي تقترب كل يوم، وهذا سيصعب مهمة القوى المدنية التي ستتسلم الحكم بعد السقوط الوشيك للانقلاب.