تكشف تطورات الأوضاع الميدانية في المشهد الأوكراني منذ شن الروس هجماتهم في 24 فبراير/شباط الماضي حجم التشابه في الإستراتيجية العسكرية التي تتبعها موسكو في كل من أوكرانيا وسوريا والشيشان، فمن الواضح أن العقيدة الروسية واحدة في كل الساحات التي تتشابك فيها، مستندة في ذلك إلى إرث دموي مثقل بالفظائع والانتهاكات التي وصلت في كثير منها إلى حد الجرائم ضد الإنسانية التي تستوجب المحاكمات والتدخلات الدولية لإنقاذ ضحاياها.
الأيام الأولى من الحرب الأوكرانية لم تُظهر بشكل واضح ملامح التشابه مع السيناريو السوري الشيشاني، كان ذلك بسبب الحسابات الخاطئة والرهانات غير الدقيقة التي راهن عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بداية الأمر، وهو ما تم تناوله بشكل مفصل في تقرير سابق لـ”نون بوست“، لكنه سرعان ما تدارك ذلك بعد اليوم الثالث تقريبًا وفي أعقاب تكبده خسائر فادحة في العتاد والأرواح، ليتغير مسار العملية برمتها، متطابقة بشكل أو بآخر مع السردية السورية.
سياسة الأرض المحروقة
ساعد الدعم الغربي للجيش الأوكراني وتسليحه بالعتاد والمقاتلين، في عرقلة تمدد القوات الروسية في الأراضي الأوكرانية، وهو ما تجسده التطورات الميدانية الأخيرة حيث فشل الروس في السيطرة على أي مدينة كبيرة (غير خيروسون) في ظل المقاومة الشرسة من الأوكرانيين، وهو ما أجهض الخطة الروسية في فرض الهيمنة وإسقاط كييف في الأيام الثلاث الأولى للحرب.
تلك الوضعية وضعت بوتين في حرج على المستوى الداخلي والخارجي، الأمر الذي دفعه لإعادة النظر في إستراتيجيته العسكرية، ليعود مرة أخرى إلى سياسة “الأرض المحروقة” وعليه كانت الأوامر باستهداف المنشآت كافة بلا ضوابط أو معايير، يتساوى في ذلك العسكري والمدني، فكان التركيز على البنية التحتية والمستشفيات ومخازن الوقود والطاقة، لإحداث حالة من الشلل التام تمهد الطريق نحو اجتياح عسكري سهل.
صحيفة “ذا صن” البريطانية في تقرير لها أشارت إلى أن بوتين يقرأ من نفس الكتاب السوري، حيث استخدام ذات الأساليب في إشارة إلى “الأرض المحروقة” وهو التكتيك الذي استخدمه في مدينتي حلب في سوريا وغروزني في الشيشان، ففي 2015 وحين دخلت موسكو على خط الأزمة السورية دعمًا لنظام بشار الأسد، عمدت إلى استهداف البنية التحتية بما فيها المستشفيات والمدارس والأسواق العامة ومحطات توليد الطاقة وإمدادات المياه، من أجل الضغط على المعارضة، وهو ما تم حرفيًا في أوكرانيا.
ورقة اللاجئين للضغط على الغرب
ارتكبت روسيا عشرات المجازر خلال حربيها ضد الشيشان، الأولى كانت بين عامي 1994 و1996، والثانية بين عامي 1999 و2000، وانتهت بمقتل وتشريد أكثر من مليوني شيشاني إلى الدول المجاورة، فيما تبنى الروس حينها سياسة التهجير عبر القصف الممنهج على القرى والمدن، أكثرها قبحًا وشراسةً تلك التي تعرضت لها العاصمة غروزني.
وفي حلب، مارس الروس هوايتهم المفضلة، فمنذ دخول القوات الروسية الأراضي السورية في 2015، استهدف بوتين وقواته مدينة حلب كونها معقل المقاومة، وأسفرت هجماته التي استخدم فيها الكيماوي في 2016 عن نزوح 6.8 مليون لاجئ سوري إلى البلدان المجاورة وبعض دول أوروبا، فيما تم تشريد 6.7 مليون مدني إضافي داخل سوريا.
اللعب بورقة اللاجئين للضغط على أوروبا، تحول إلى إستراتيجية عسكرية روسية في الحروب الأخيرة التي شنتها، سواء ضد جيرانها أم البلدان البعيدة نسبيًا عن خط تماسها الحدودي، وتعتمد موسكو في سياستها تلك على ما يمثله هذا الملف من صداع مزمن في رأس أوروبا ربما يجبرها على تقديم تنازلات نظير تجميد تداعياته، وهو ما شجع روسيا في سوريا وها هو يشجعها اليوم في أوكرانيا.
وتحت عنوان “بوتين قد يستخدم اللاجئين كسلاح في أوكرانيا كما فعل في سوريا” أشار جيمس فيليب في تحليله المنشور في موقع “دايلي سيغنلس” إلى أن الرئيس الروسي سيلجأ إلى هذا السلاح للضغط على أوروبا والولايات المتحدة، وذلك عبر دفع الأوكرانيين إلى مغادرة بلادهم هربًا من الانتهاكات المستمرة وخوفًا على حياتهم التي وضعتها القوات الروسية هدفًا رئيسيًا لها.
وبحسب الإحصاءات الرسمية الواردة عن المنظمات الأممية فإن عدد اللاجئين الأوكرانيين الفارين منذ بداية الحرب قارب على مليوني مواطن، فيما تشير التوقعات إلى أن هذا العدد ربما يتجاوز العشرة ملايين حال استمر القتال لا سيما في العاصمة كييف والجنوب بصفتهما أكثر المناطق المأهولة بالسكان.
نهب ثروات البلاد
قد يرى البعض أن الاقتصاد الأوكراني ليس بالقوة التي تزعزع بوتين أو الغرب بصفة عامة، لكن الأمر أكبر من مجرد أرقام، فرغم أن حجم هذا الاقتصاد لا يتجاوز 155.6 مليار دولار وفق بيانات البنك الدولي 2020، فإن المميزات الجيوسياسية لأوكرانيا كانت أحد المحركات الرئيسية لشن الحرب.
أوكرانيا تحتضن خطوط النقل الأساسية لتصدير الغاز الروسي الذي يشكل الضلع الأكبر للاقتصاد الوطني إلى أسواق أوروبا، وعليه عملت موسكو خلال السنوات الأخيرة للضغط على اقتصاد كييف من خلال تحويل مسار تصدير الغاز الطبيعي إلى أوروبا، عبر إنشاء خطوط أنابيب لا تعبر الأراضي الأوكرانية، أبرزها “نورد ستريم 2″ و”تركيش ستريم” وخط “يامال أوروبا”.
يحاول الروس قدر الإمكان إحكام السيطرة على خريطة الاقتصاد الأوكراني والتحكم في معطياته وذلك لهدفين: الأول الاستفادة من إمكاناته بما يخدم الاقتصاد الروسي، الثاني الضغط على كييف لإخضاع قرارها السياسي للكرملين وليس لبروكسل كما كان في السابق.
الإستراتيجية ذاتها التزمت بها موسكو في حربها في سوريا، حيث نهب ثروات البلاد والسيطرة على خطوط الإمداد النفطي، هذا بخلاف سرقة آثار سوريا ونقلها إلى روسيا أو بيعها في الخارج، فضلًا عن استغلال الأراضي السورية لبناء قواعد عسكرية لخدمة الأجندة التوسعية الروسية كما هو الحال في قاعدة “حميميم” الجوية في اللاذقية.
الدمار والتهجير
حين تشتد الضغوط على موسكو، عسكرية كانت أو اقتصادية، فضلًا عن نظيرتها السياسية، تلجأ فورًا إلى اللعب بكل ما لديها من أوراق، لعل أبرزها المزيد من التنكيل والانتهاكات ورفع سقف الدمار، ما ينجم عنه من وضعية سوداء يعقبها موجات نزوح وتهجير كبيرة، تثير قلق المجتمع الدولي وتدفعه إلى إعادة حساباته.
الكيماوي في سوريا ومن قبله في غروزني، واستخدام القنبلة الفارغة في أوكرانيا بحسب مسؤولين أوكرانيين، والتلويح باستخدام السلاح النووي، كلها مسارات فرعية تصب في المسار الرئيسي الرامي إلى تقوية الموقف الروسي حين الجلوس على مائدة المفاوضات.
وهذا ما ترنو إليه موسكو خلال جلسة المباحثات القادمة مع أوكرانيا في بيلاروسيا، إذ تسابق الزمن لإسقاط كييف وتهجير أكبر قدر من المواطنين قبل انطلاق الجولة الثانية من تلك المفاوضات التي يعول عليها البعض في تخفيف حدة التوتر وتهدئة أجواء الحرب قليلًا.
في ضوء المعطيات السابقة ورغم التشابه حد التطابق بين إستراتيجية الروس في الشيشان وسوريا وأوكرانيا، فإن الحسابات مختلفة تمامًا، فبينما كانت القوات الروسية تقتحم غروزني وحلب بأريحية كاملة في مقابل مقاومة غير مسلحة وغياب الدعم الدولي، فإن الوضع في أوكرانيا يختلف جملةً وتفصيلًا، وهو ما كبد الروس خسائر لم يتكبدوها في حروبهم السابقة.
وقد قادت تلك الرهانات البوتينية الخاطئة في تقييم المشهد الأوكراني إلى عرقلة السيطرة على كييف، والفشل في حسم معركتها لليوم الثاني عشر، في ظل مقاومة غير متوقعة، ودعم دولي غير مسبوق، ورهان على الحلفاء يخفت طرديًا كلما زادت الضغوط الغربية، وهو ما دفع الرئيس الروسي إلى إشهار كارت “النووي” كآخر أوراق “البوكر” التي يستخدمها في تلك المواجهة بعدما ثبت فشله في لعبة “الشطرنج” على حد وصف بطل الشطرنج العالمي الروسي غاري كاسباروف.