في العام الدراسي الحالي بدأت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية بتطبيق برنامج “إصلاحي” يعتمد على ما تسميه “دراسة ذات معنى/ مغزى” وتحت عنوان “إسرائيل ترتقي صفًّا”.
يهدف البرنامج بالأساس لتطوير مسيرة التعليم وملاءمتها لاحتياجات الطالب في القرن الـ 21 (وهذا إيجابي)، بالإضافة لذلك، يسعى البرنامج الإصلاحي إلى تعزيز المفاهيم القومية (الإسرائيلية طبعًا) لدى الطلاب، وليس ذلك فحسب، إنما إلى إبراز أهمية المواطنة الفعالة في إسرائيل من خلال “الخدمة المدنية الإسرائيلية” (يشمل ذلك طلاب فلسطينيين من الداخل فعليًا لا توجد لديهم مواطنة كاملة، إن كنا نتحدث بمفهوم المواطنة).
كما في كل برنامج إصلاح تربوي، تتدفق الميزانيات على المدراس، ويتحمل مدراء هذه المدارس كيفية التصرف بها، إلا أنه يبقى السؤال، هل تصل هذه الميزانيات لمدارس جاهزة إداريًا ومن حيث الطاقم التدريسي لأن تتحمل أهداف “البرنامج الإصلاحي” الإيجابية؟ ماذا عن الجانب الآخر من البرنامج “الإصلاحي” الذي يحمل في طياته عمليات أسرلة واسعة للطلاب الفلسطينيين في الداخل؟ ماذا عن غسيل الدماغ الممنهج؟ ماذا عن طمس هويتهم المستمر؟ وماذا عن دور المعلمين العرب في كل هذه الجوقة؟
أما عن أسرلة الطلاب، فالمكتوب مبين من عنوانه، البرنامج كما اسمه “إسرائيل ترتقي صفًّا”، فبشعار بائس وترجمة بائسة منقولة حرفيًا عن العبرية، يتجلى لنا أن إسرائيل ما زالت مرحلة سياسة “بوتقة الصهر” (التي من المفروض أنه قد ولّى عهدها) في تعاملها مع التربية والتعليم في المجتمع الفلسطيني في الداخل والذي يخضع بشكل تام لنظام التربية والتعليم الإسرائيلي، أضف لذلك فإن جهاز التربية والتعليم الإسرائيلي مازال يطبق نفس السياسات التي واظب على تطبيقها منذ النكبة – السعي إلى أسرلة الطالب الفلسطيني، وخلقه على أن يكون “عربي إسرائيلي” -، حتى وإن قام هذا الجهاز بتجميل هذه الأهداف تحت مسميات وخطط إصلاحية مختلفة، يبقى الهدف الأول واضح، ومن السهل تطبيقه من خلال جهاز التربية والتعليم ومن خلال المضامين التدريسية بشكل غير مباشر.
أما عن غسيل الدماغ الممنهج وطمس الهويات، ففي كل حقبة تاريخية يقوم جهاز التربية والتعليم الإسرائيلي بتفعيل برامج مختلفة تحت مسميات وردية، مثلاً: في فترة اتفاقية وادي عربة مع الأردن، وكذلك اتفاقية أوسلو ومن ثم اغتيال إسحاق رابين، تم تفعيل برامج تحت عنوان “لا للعنف .. نعم للتسامح” أو برامج “التعايش مع الآخر”، وها هنا اليوم يتم التحدث عن “الآخر” و”تقبل الآخر” من خلال التربية على “التعدد الثقافي”، والأخير أمر لا يمكن حدوثه في ظل دولة مؤسسة أصلاً على طمس مفهوم التعدد الثقافي لكل ما هو “آخر” (للإطلاع على المزيد حول هذه النقطة يمكن قراءة مقال أكاديمي لماجد الحاج Multiculturalism in deeply divided والذي فيه يتحدث عن أنه في دولة إسرائيل ليس فقط أنه لا يوجد تقبل للتعدد الثقافي إنما أيضًا هناك اضطهاد لثقافة الآخر).
ما يُبقي لدي بعض من الأمل أنه رغم كل هذه السياسيات فالوعي الجماعي لفلسطينيي الداخل أبقى على كونهم جزء لا يتجزأ من الشعب الفلسطيني والعالم العربي.
أما بالنسبة لدور المعلمين العرب الفلسطينيين في الداخل وعلاقتهم بكل هذه السياسيات، فذلك يحتاج نظرة تاريخية في التطورات التي جرت على دور المعلم قبل وبعد النكبة، والسبب في ذلك بالطبع ليس البحث عن أمجاد الماضي، إنما في أهمية إثبات أنه لا يمكن بتاتًا فصل “السياسة” عن “التربية والتعليم”، فدور ومقام المعلم في المجتمع الفلسطيني ككل تأثر بشكل مباشر من الوضع السياسي للمنطقة،
في أول القرن العشرين، حين كانت فلسطين مازالت تحت الحُكم العثماني، كانت معظم المدارس المنتشرة في فلسطين متمركزة في المدن الكبيرة، مُعظم هذه المدارس أيضًا كانت مدارس أجنبية تبشيرية، دور المعلم في هذه المدارس كان دورًا تثقيفيًا وتدريسيًا في آن واحد، كانت تهدف أيضًا هذه المدارس إلى نقل مفاهيم دينية للطلاب، وكذلك إلى بناء طلاب قادرين على أن يقوموا بالعمل بالمؤسسات المختلفة في المدن من الناحية الاجتماعية والاقتصادية، أما الأرياف، فرغم أن المعلم كان عبارة عن مدرسة “الكُتّاب”، إلا أنه أيضًا كانت له رؤية دينية واجتماعية وحتى سياسية في بعض الأحيان، في الحالتين كان للمعلم دور أساسي في بناء المجتمع الفلسطيني، سواء في المدينة أو الريف، دور المعلم هذا كان ينعكس أيضًا على مكانة المعلم باعتباره “رسولاً” للعلم والقيم في المدن والقرى، مع صعود حركات تنوير القومية العربية، في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ظهر أيضًا دور المعلم القومي، كمحافظ على اللغة العربية وعلى مكانتها الثقافية والعلمية في صفوف التلاميذ.
في فترة الانتداب البريطاني، رغم أنه جرى تطور واضح في في التربية والتعليم في فلسطين، ورغم أنه أصبح للمعلم دور أكثر مهنية من ذي قبل، إلا أنه كان للمعلم دورًا سياسيًا واضحًا أكثر من ذي قبل، كون سياسة الانتداب البريطاني عملت على تسييس التربية والتعليم، فكان للمعلم دور وتأثير اجتماعي وسياسي في آن واحد (خليل السكاكيني نموذجًا).
فترة ما بعد النكبة، شكلت فترة صادمة لـ “مجتمع المعلمين” في فلسطين بشكل عام، إذ أصبح هناك واقع جديد عليهم التعامل معه على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، أما في الداخل الفلسطيني بشكل خاص وفي غياب أطر وأدوات مناسبة؛ بدأ دور المعلم في الإنحدار، فمن الدور السياسي الاجتماعي التربوي والثقافي الفعال للمعلم، أصبحت وظيفة المعلم تتلخص في “التدريس فقط”.
في المجتمع الفلسطيني في الداخل، بعد النكبة، أصبحت وظيفة المعلم تكترس على تنفيذ أوامر “الحاكم الإسرائيلي”، إضافة لهذا الإذلال الممنهج، خضع المعلم لرقابة تامة من قبل “الإسرائيلي”، وعند الحديث عن الرقابة على جهاز التربية والتعليم في المجتمع الفلسطيني في الداخل، يجب التشديد على أن هذه الرقابة كانت موجهة من قبل المخابرات الإسرائيلية، وعلى أساس ذلك التعيينات والتوظيفات المختلفة للمعلمين كانت تمر عبر الأخيرة، هذا الضغط السياسي، أثّر اجتماعيا على دور المعلم الفعّال في مجتمعه، فمن رائد ثقافي وسياسي، ومن ريادي في مجتمعه، تحول المعلم إلى غير فعال، غير مبادر، وغير مُنتج، مهمته تنفيذ الأوامر التي تُمليها عليه وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية، بهدف الحفاظ على لُقمة عيشه، أي أن المعلم أصبح في حالة انفصام، فمن جهة لديه مسئولية اجتماعية تجاه مجتمعه، ومن جهة أخرى فإن السلطات الإسرائيلية تُكبله؛ نتيجة لذلك أيضًا، قلت بشكل ملحوظ روح المبادرة لدى مجتمع المعلمين، وقلت مسئوليتهم الاجتماعية تجاه بناء مجتمعهم، إذ مُنع بشكل تام الحديث في السياسة أو المواضيع القومية، أضف لذلك أن المعلم لم يكن شريكًا في صنع القرار التربوي والسياسي كما كان قبل النكبة.
الصورة: من فيلم الزمن الباقي، للمخرج إيليا أبو سليمان 2009
التغييرات في المجتمع الفلسطيني بالداخل ما بعد النكبة، وتحولهم لأقلية في وطنهم، جعلت لوظيفة “المعلم” مكانة اقتصادية، ووسيلة عمل مضمونة في المجتمع الفلسطيني بالداخل، فلذلك تحول عالم “التربية والتعليم” إلى “مهنة” وأعتبرت أكثر المهن المرغوب بها في وسطهم؛ وهذا بطبيعة الأمر عزز فكرة أن دور المعلم عليه أن يقتصر على التدريس، جميع المؤسسات التي أسست لاحقًا لملاءمة وسائل التدريس لـ “المجتمع العربي في إسرائيل” تجاهلت تمامًا الاحتياجات السياسية والثقافية للمعلم، ولم تتطرق على الإطلاق لدوره الاجتماعي والسياسي، كونها بالحقيقة كانت خاضعة أيضًا للرقابة الإسرائيلية بشكل تام.
في سنوات لاحقة جرت إصلاحات مختلفة في جهاز التربية والتعليم، ولكنها في الحقيقة لم تغير من واقع المعلم، ولم تُعطه دورًا سياسيًا رغم أنه جُل جهاز التربية والتعليم الإسرائيلي هو جهاز مُسيّس بالدرجة الأولى.
كل هذا أدى إلى ابتعاد المعلم عن السياسة، وعن مناقشة المواضيع الثقافية والاجتماعية بعُمق؛ ولهذا أثر واضح على دور المعلم ومكانته الاجتماعية اليوم؛ فلذلك، الادعاء بأن جهاز التربية والتعليم في إسرائيل هو ذو أهداف وردية، هو ادعاء تراكم عليه الغبار، والادعاء بأن المعلم “العربي” كسول بالفطرة، ليس ادعاءً عادلاً بحقه.
إسرائيل ترتقي صفًّا، ترتقي مع كل خطة جديدة لوزير جديد، تتجدد أهداف خططه لكنها دائمًا تشمل خططًا جديدة لأسرلة الطالب الفلسطيني الذي أصلاً لا تعترف بفلسطينيته.
المصادر:
سياسات إعداد المعلمين العرب في إسرائيل، إغبارية
انعكاسات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على دور المعلم العربي في إسرائيل، خوري-وتد
تغييرات بطبيعة وظيفة المعلم في المجتمع الفلسطيني العربي، مزاوي
سلسلة يوميات خليل السكاكيني
* ما وراء إلغاء امتحانات البسيخومتري؟! فصل المقال/ غادة أسعد