ترجمة وتحرير: نون بوست
دفعت الحرب في أوكرانيا المستشار الألماني أولاف شولتز الأسبوع الماضي إلى الانحراف عن المسار الذي اتبعته بلاده في فترة ما بعد الحرب، ليُحوّل بذلك الانتباه إلى أسلافه الذين قادوا البلاد إلى طريق استراتيجي وثّق علاقتها مع روسيا لكنه أوصلها لاحقًا إلى طريق مسدود.
أدى الصراع في الشرق إلى تغيّر هائل في سياسة ألمانيا حيث اتخذ شولتز قرارًا مضادًا للسياسة المتشدّدة التي كانت تتبعها البلاد بشأن صادرات الأسلحة وأعلن عن زيادات ضخمة في الإنفاق العسكري وتعهّد بتخلي البلاد عن الغاز الروسي.
منذ ذلك الحين، تحوّلت كل الأنظار نحو غيرهارد شرودر، المستشار السابق الذي صافح يد فلاديمير بوتين في الأسابيع الأخيرة من ولايته في إطار المصادقة على خط أنابيب نورد ستريم عبر بحر البلطيق. وبعد أسابيع قليلة، تمكّن شرودر بسهولة من ترأس مجلس إدارة نورد ستريم. وعلى الأرجح أن زيادة اعتماد ألمانيا على الطاقة الروسية، وهو ما يتفق عليه السياسيون في برلين الآن، قد دفع بوتين إلى الاعتقاد بأن ألمانيا ستكون عاجزة كليًا عن دعم العقوبات الاقتصادية المنسّقة ضد بلاده.
بصفته عضو مجموعة ضغط مدفوع الأجر ضمن شركة “غازبروم” العملاقة للطاقة، فإن دافع شرودر واضح: يوم الجمعة، دعا شولتز زميله في الحزب ورئيسه السابق إلى قطع العلاقات مع الشركات الروسية المملوكة للدولة. ولكن سبب مواصلة خليفته، أنجيلا ميركل، في استراتيجية توسيع العلاقات الاقتصادية مع روسيا على نطاق واسع غير معلوم ومن غير الواضح ما إذا كانت قد فعلت ذلك من باب السلبية فقط أو لمصلحتها السياسية.
عندما أنهت ميركل فترة ولايتها التي استمرت 16 عامًا في كانون الأول/ ديسمبر، خصّ النعي السياسي معاملاتها مع بوتين بالثناء: فدعمها للعقوبات الاقتصادية على إثر احتلال شبه جزيرة القرم، فضلاً عن جهود إنقاذ حياة المعارض الذي تعرض لمحاولة تسميم أليكسي نافالني والذي تلقى العلاج في أحد مستشفيات برلين، يعكس أي شيء عدا السذاجة في تعاملها مع الكرملين.
منذ الأسبوع الماضي، علت الأصوات التي تنتقد تجاهل ميركل لتحذيرات خبراء السياسة الخارجية والأمن من التفكير في روسيا كشريك موثوق في قطاع التجارة. قال رودريش كيسويتر، السياسي من الاتحاد الديمقراطي المسيحي والضابط السابق في الجيش الألماني: “لقد فات الآوان الآن على تقييم سوء تقدير الحكومة الألمانية في تعاملاتها مع روسيا على مدى الـ 16 عامًا الماضية”.
أفاد كيسويتر في تصريح له لصحيفة “الأوبزرفر”: “منعت فرنسا وألمانيا في سنة 2008 خطة عمل لانضمام جورجيا، محذرة من أن روسيا ستنظر إليها على أنها تهديد وجودي، لكن بعد أربعة أشهر غزت روسيا جورجيا على أي حال – ما أثار دهشة الدول الأعضاء في حلف الناتو. وفي 2014-2015، عندما أرادت الولايات المتحدة تسليح أوكرانيا بسبب ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، عارضت ميركل و[الرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا هولاند] مثل هذه الاستراتيجية، وبدلاً من ذلك استثمرا في دعم الجهود الدبلوماسية. ولكن في ظل مثل هذه النجاحات الدبلوماسية الظاهرة، واصلت روسيا تصعيد تهديدها العسكري”.
هناك تساؤلات جديدة حول دعم ميركل الثابت لمشروع نورد ستريم، الذي كشف عن أول خط أنابيب له رسميًا سنة 2011. قال كيسويتر: “من خلال مشروع نورد ستريم، من الواضح الآن أن ألمانيا قد خُدعت ببساطة من قبل الجانب الروسي، فقد كان هذا المشروع منذ البداية سياسيا وليس تجاريا. ولم تتطرق ألمانيا أبدا إلى البعد الأوروبي والأمني للمشروع”.
في فترة ولاية ميركل الأولى، كان من الممكن تفسير بعض السذاجة تجاه مشروع خط الأنابيب من خلال اتفاق تقاسم السلطة مع الحزب الديمقراطي الاجتماعي – الذي لا يزال محكوما بتصوّرات شرودر – ورؤساء وزراء الدولة من اليسار الوسطي الذين يتعاطفون بشكل علني مع روسيا في الولايات الشمالية الشرقية لألمانيا، وتحديدًا في مكلنبورغ-فوربومرن.
حسب كلوديا مولر، مندوبة حزب الخضر من نفس المنطقة: “داخل ولايتها الأصلية، وفي دائرتها الانتخابية، لطالما مثّل نورد ستريم مشروعًا شائعًا للغاية. بالنسبة لروسيا، كانت مكلنبورغ-فوربومرن تدير بفعالية دبلوماسية الظل الخاصة بها”. حتى بعد إعادة انتخابها في سنة 2009، أيّدت ميركل قرار استمرار مشروع خط الأنابيب وتوسيعه وأصرت لسنوات على أنه “مشروع اقتصادي” بحت، حتى بعد اعترافها لاحقًا بأنه لا يمكن تجاهل بعض “العوامل السياسية”.
وفقًا لجانا بوغليرين، رئيسة مكتب برلين في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، فإن “البراغماتية الاقتصادية في التعامل مع روسيا لم تكن مجرد سمة من سمات الاشتراكيين الديمقراطيين. لقد كانت ميركل تعتقد أنه يمكن من خلال التجارة ربط روسيا بنظام متعدد الأطراف، وبالتالي نظام قائم على القواعد. وحتى بعد 2014-2015، عندما كانت نواقيس الخطر تدق، قامت ميركل بفصل المشكلة عما يحدث وببساطة لم تحوّلها إلى قضية سياسية”.
تشير الأبحاث التي أجرتها “بوليسي نيتوورك أناليتكس”، وهي شبكة استخبارات بيانات غير ربحية تربط القرارات السياسية بالاستثمارات الاقتصادية الاستراتيجية، إلى أن البعد السياسي لمشروع نورد ستريم ربما كان أكثر وضوحًا لها مما أفصحت به. نشأت ميركل في شمال شرق ألمانيا، حيث حصلت على تفويض مباشر من دائرة انتخابية تغطي جزيرة روغن المطلة على بحر البلطيق. وفي إطار النظام السياسي الفيدرالي، ليس من المتوقع أن يبالغ البرلمانيون في التعبير عن مخاوفهم الإقليمية، ولا حتى المستشارون.
كان هناك ضغط سياسي كبير لإنقاذ وادان ياردز، ومن المشكوك فيه أن الصفقة كانت لتتم بهذه السرعة لولا هذا الضغط
في صيف 2009، تدهورت أوضاع ولايتها الأصلية بسبب الأجندة الوطنية، حيث تقدمت شركة “وادان ياردز” لبناء السفن في شفيرين وروستوك بطلب الإفلاس. ومع اقتراب موعد الانتخابات الوطنية بعد ثلاثة أشهر، واجهت ميركل خسارة مُذلّة بلغت 2700 وظيفة في مسقط رأسها.
قبل ستة أسابيع من بدأ الانتخابات، أعلن المكتب الصحفي لميركل عن خبر مفاجئ وهو أن “عملية إنقاذ وادان ياردز أصبحت وشيكة”. في اجتماع في سوتشي، توسطت ميركل والرئيس الروسي آنذاك دميتري ميدفيديف في صفقة تمكن فيتالي يوسفوف من شراء أحواض بناء السفن، مما يوفر نصف الوظائف في الشركة. حتى ذلك الحين، كان يوسفوف البالغ من العمر 29 عاما يشغل منصب رئيس مكتب موسكو لشركة خطوط أنابيب روسية “نورد ستريم آي جي”. وشغل والده إيغور منصب وزير الطاقة خلال فترة ولاية بوتين الأولى، وكان في ذلك الوقت ينسق جهود تعاون روسيا في مجال الطاقة كمبعوث خاص.
قال كلاوس بيتر شميدت ديغويل، مستشار الاتصالات الذي كان عضوا في المجلس الاستشاري للشركة في ذلك الوقت: “لقد كان هناك ضغط سياسي كبير لإنقاذ وادان ياردز، ومن المشكوك فيه أن الصفقة كانت لتتم بهذه السرعة لولا هذا الضغط”.
حتى في ذلك الوقت، كانت هناك شائعات بأن المالك السابق لأحواض بناء السفن، المستثمر الروسي أندريه بورلاكوف، كان مجرد “رجل القش” في مؤامرة إحدى المافيات الروسية لغسيل الأموال، وهو ادعاء قدمه أيضًا المدعي العام الإسباني الذي يحقق في أنشطة المجرمين الروس في إسبانيا. (في سنة 2012 أوقف المدعي العام في شفيرين تحقيقا جنائيا حول غسل الأموال بسبب عدم تعاون الجانب الروسي).
قال شميدت ديغويل لصحيفة الأوبزرفر: “إذا كان بيرلاكوف رجل القش، فقد توقف عن لعب هذا الدور في وقت ما، وإلا كان ليظل على قيد الحياة”. في أيلول/ سبتمبر 2011، أطلق قاتل مأجور النار على المستثمر الروسي خلال تواجده في أحد مطاعم موسكو.
وفقًا للبيان الألماني حول اجتماع سوتشي، لم تناقش ميركل وميدفيديف فقط صفقة إنقاذ “وادان ياردز”، بل ناقشا أيضًا الاستثمار الروسي المحتمل في شركة صناعة السيارات الألمانية المتعثرة “أوبل” وشركة تصنيع الرقائق الدقيقة “إنفنيون”. لم تتحقق أي من هذه الخطط على الإطلاق، مما أثار استياء موسكو، لكن ذكرت وسائل الإعلام الروسية أن الزعيمين سيناقشان أيضًا “التعاون في مجال الطاقة”. ووفقًا لـ “نورد ستريم آي جي”، فقد بدأ التخطيط لخط الأنابيب الثاني بعد ذلك بعامين، على الرغم من أنه لم يتم الإبلاغ علنًا عن مصدره المحدد.
عندما سألتها صحيفة “الأوبزرفر” عبر البريد الإلكتروني عما إذا كان التعاون في مجال الطاقة الذي تمت مناقشته في سوتشي هو خط أنابيب نورد ستريم 2، وما إذا كانت عمليات التعاون الاقتصادي التي تمت مناقشتها متوقفة على بعضها البعض، رفض مكتب ميركل إعطاء إجابة مشيرًا بدلا من ذلك إلى البيان العام الوحيد الذي أدلت به منذ بداية الحرب في أوكرانيا. وقالت ميركل بعد أربعة أيام من بدء الغزو الروسي: “لا يوجد مبرر لهذا الانتهاك الصارخ للقانون الدولي. وتمثل حرب العدوان التي شنتها روسيا نقطة تحول عميقة في تاريخ أوروبا بعد نهاية الحرب الباردة”.