“القوات المسلحة وقوات الدعم السريع قوة واحدة وعلى قلب رجل واحد”.. حاول رئيس مجلس السيادة في السودان عبد الفتاح البرهان، من خلال هذا التصريح الصادر في يونيو/حزيران 2021، أن يُنفي ما يثار بشأن وجود خلافات داخل المكون العسكري بين قطبيه الكبيرين، وصراع نفوذ مع قائد قوات الدعم محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”.
التصريح الذي تكرر تباعًا بعد ذلك أكثر من مرة، يبدو أنه لم يحقق المراد منه، إذ فشل في إخماد نيران الخلافات التي بدأت تظهر رويدًا رويدًا من بين ثنايا المواقف المتباينة والتحركات الفردية التي فرضت نفسها على الساحة السياسية خلال الآونة الأخيرة.
الأيام القليلة الماضية شهدت تحركات مثيرة للجدل، أسالت لعاب المراقبين للوضع لمعرفة حقيقة ما يدور بالفعل داخل المؤسسة العسكرية بعيدًا عن البيانات الرسمية التي باتت مثار شكوك وريبة لدى الشارع السوداني، من أبرزها تلك التوجيهات غير المسبوقة الصادرة لقيادة منطقة وادي سيدنا العسكرية شمال أم درمان، بإخلائها من أي طائرات حربية مقاتلة، مع إعادة تمركزها في شمال كردفان بقاعدة شيكان الجوية بالأبيض.
تزامن ذلك مع سيولة دبلوماسية لحميدتي، في وقت حساس للغاية، شملت لقاءات مع مسؤولين دوليين وزيارات مكوكية لبعض البلاد منها إثيوبيا ومصر، لكن الزيارة الأبرز التي أثارت ضجة كبيرة تلك التي قام بها إلى روسيا قبل أيام، وأعقبها الحديث عن تدشين القاعدة الروسية البحرية في بورتسودان شرقًا، وهو الحلم القديم الذي طالما راود الروس لعقود طويلة دون تحقيقه.
يبدو أن الصراع المكتوم بين الجنرالين ومؤسستيهما قد آن الأوان ليخرج للعلن، إذ يهرول كل طرف لترسيخ أركانه على حساب الآخر قبل الماراثون الانتخابي العام القادم، مستغلًا الانشغال العالمي بالحرب الروسية الأوكرانية لإعادة تموضعاته وبناء خريطة تحالفات جديدة تهيئ له الطريق نحو السلطة بشكل منفرد.
في هذه القراءة الخاطفة نحاول إماطة اللثام عن حقيقة هذا الخلاف والتململ غير المعلن بين الجيش وقوات الدعم ومظاهره وعلى أي مرتكزات استند الجنرالان في معركة صراع النفوذ التي من الواضح أنها لن تتوقف عند حلبة الآمان الوظيفي داخل المؤسسة العسكرية فقط، ثم الحديث عن موقع الحراك الثوري من تلك المعركة وسيناريوهات التعامل معها في انتظار من يطلق الرصاصة الأولى.
خلفيات متباينة
ينتمي عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان المولود في إحدى قرى ولاية نهر النيل (شمالًا) عام 1960 لأسرة دينية تميل للطريقة الختمية (إحدى طرق الصوفية) وتعد الذراع الدينية لـ”الحزب الاتحادي الديمقراطي” الذي تزعمه محمد عثمان الميرغني، ما كان له أبلغ الأثر في تكوينه الشخصي والمهني لاحقًا وكان أحد أسباب قربه من الرئيس المعزول عمر البشير.
انخرط البرهان في المؤسسة العسكرية من القاع للقمة، بدءًا من العمل كجندي بسلاح حرس الحدود ثم قائد له، ومشاركته في حرب دارفور وجنوب السودان، ثم عمله نائبًا لرئيس أركان عمليات القوات البرية ومنها إلى رئاسة أركان القوات في الجيش، ثم الترقي لدرجة فريق أول بعد عزل البشير في أبريل/نيسان 2019، حتى وصل إلى منصب رئيس مجلس السيادة الحاكم الآن في البلاد.
أما حميدتي المولود عام 1975 فينحدر من قبيلة “الرزيقات” ذات الأصول العربية، بإقليم دارفور (غربًا)، لم يكمل تعليمه وتفرغ مبكرًا للعمل في العقد الثاني من عمره، كانت بدايته في تجارة الإبل، متنقلًا بين ليبيا وتشاد ومالي، كما عمل لسنوات في تأمين وحماية القوافل التجارية من قطاع الطرق، وهو ما ساعده بعد ذلك في تدشين ميليشيات خاصة به تدين له بالولاء.
تحت شعار “المصالح المشتركة” اجتمع البرهان وحميدتي بمنطق برغماتي أقرب للميكافيللية على مائدة واحدة رغم خلفيتهما المتناقضة
في تسعينيات القرن الماضي، نجح حميدتي وميليشياته في وضع سيطرتهم على مناجم الذهب في السودان بعد الاستيلاء عليها من إحدى القبائل الأخرى (كانت تهيمن عليها) التي كان يتزعمها عمه موسى هلال، زعيم عشيرة المحاميد، الذي كان يمثل صداعًا في رأس البشير، ما كان دافعًا للرئيس لتقريبه إليه ومنحه العديد من المزايا والمنح أبرزها غض الطرف عن سيطرته على مناجم الذهب، ومنح قواته الميليشاوية الاعتراف الرسمي لاحقًا.
ومن أقصى اليمين جاء البرهان، ابن المؤسسة العسكرية ذو الخلفية الإسلامية، مقربًا من البشير، وعلى الجانب الآخر أقصى اليسار جاء حميدتي، ابن البادية الميليشاوية، ليكون ساعد الرئيس الأيمن، الذي كان يلقبه بـ”حمايتي” أي “الذي يحميني”، وقد نال تلك المكانة بعد نجاحه في إفشال هجوم المتمردين في دارفور على أم درمان والتخلص من زعيم الجنجاويد.
وبعد ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018 التقا الجنرالان على مائدة السلطة معًا، الأول ممثلًا عن المؤسسة العسكرية الرسمية والآخر نيابة عن قوات الدعم ذات الثقل الكبير، ليشتركا معًا في الإطاحة بالرئيس وينفردا معًا بالحكم، لتبدأ الخلافات الناجمة عن تباين الأهداف والأجندات تبرز للأضواء.
تقارب برغماتي بحت
فجأة ودون سابق إنذار أو إعدادت مسبقة وجد الجنرالان أنفسهما في خضم معركة لا ناقة لهم فيها ولا جمل، الأول (البرهان) الذي كان بعيدًا نسبيًا عن ساحة الأضواء وهو ما أهله لأن يكون رجل المرحلة المناسب، والثاني (حميدتي)الذي استبق المشهد بإعلان دعمه للثورة الشعبية.
وفي إطار تسارع وتيرة الأحداث المتلاحقة تصدرا المشهد السياسي، ليس بصفتهما قائدين عسكريين لكن بصفتهما السياسية، على رأس السلطة الانتقالية الجديدة، واستطاع الرجلان القادمان من دروب أيديولوجية متباينة، أن يتحدا معًا لأول مرة في تاريخ علاقتهما حديثة العهد، من أجل عبور المرحلة.
وتحت شعار “المصالح المشتركة” اجتمع البرهان وحميدتي بمنطق برغماتي أقرب للميكافيللية على مائدة واحدة، مطيحان برجال البشير من الساحة، واحدًا تلو الآخر، في المقدمة منهم وزير الدفاع في عهد الإنقاذ، عوض بن عوف، تلاه عشرات المساعدين للرئيس المعزول، في خطوة غازل بها الجنرالان الشارع الثوري الثائر ضد المؤسسة العسكرية.
كان هوس السلطة التي جاءت على طبق من ذهب للجنرالين حاجزًا خرسانيًا أخفى خلفه التوتر المكتوم بين الطرفين، نظرًا لخلفياتهما المتناقضة، لا سيما أن كرسي الحكم بات يداعب كل منهما على حدة، فيما يعتقد كل واحد أنه الأحق، لكن رغم المحاولات والتصريحات الوردية لإخفاء هذا الصراع، خرج للأضواء رويدًا رويدًا ليكشف حالة شقاق ربما تهدد المؤسسة العسكرية ومن ثم مستقبل الدولة السودانية.
صدام مكتوم
ظلت محاولات ردم الرماد على الخلافات بين العسكر بشقيه (الجيش وقوات الدعم) قائمة حتى 24 أغسطس/آب 2020 حين وقف البرهان بالمنطقة العسكرية شمال الخرطوم مخاطبًا بعض الجنود قائلًا: “هناك حملات تستهدف تفتيت القوات (النظامية) السودانية، هناك محاولات حثيثة لإيقاع فتنة مع الجيش”، إيذانًا بخروج الصراعات بينهما للعلن.
قبل هذا التصريح بأربعة أشهر تقريبًا وتحديدًا في 14 أبريل/نيسان من نفس العام كان البرهان قد أصدر قرارًا بإنهاء انتداب 68 ضابطًا ينتمون للجيش الرسمي من صفوف قوات الدعم السريع، وإعادتهم للمؤسسة العسكرية مرة أخرى، وهو القرار الذي اعتبره البعض وقتها بداية نهاية شهر العسل بين القوتين.
وكانت باكورة الخلافات التي هزت منسوب الثقة بين الطرفين، حين اعتقل حميدتي عددًا من ضباط القوات المسلحة والمخابرات وجهاز الأمن العام، المنتدبين لصفوف قواته، من بينهم جنرالات بدرجة لواءات مقربين من البرهان مثل اللواء الصادق السيد، وذلك في يونيو/حزيران 2019، بدعوى أنهم “استدرجوا قوات الدعم السريع لفض اعتصام القيادة العامة”.
تبع ذلك حزم متفرقة من تباين وجهات النظر إزاء العديد من الملفات، منها التوترات في ولايات الشرق، والموقف الرسمي من حكومة عبد الله حمدوك، وفتح حميدتي قنوات اتصال دبلوماسية مع بعض الدول المجاورة، بخلاف تباين الرؤى بشأن التعاطي مع الجماعات المسلحة والمتمردين في الغرب والجنوب، واختتمت بالإشارة تلميحًا إلى دمج قوات الدعم السريع داخل الجيش وهو ما استفز قائد تلك الميليشيات التي يعتبرها حاضنته العسكرية التي لا يمكن التخلي عنها مهما كلفه الأمر.
حميدتي من خلال الذهب ونشاط المرتزقة المعتمد رسميًا، أصبح يتحكم بأكبر “ميزانية سياسية” للسودان، أموال يمكن إنفاقها على الأمن الخاص أو أي نشاط، دون أي مساءلة
خلاف أم تبادل أدوار؟
هذا الصدام بين الطرفين استقبله الشارع السوداني على روايتين متناقضتين، الأولى تذهب إلى أن ما يحدث لا يعدو كونه تبادل أدوار متفق عليه بين الجنرالين، يهدف إلى تبريد الأجواء الثورية وتصدير صورة مزيفة للثوار بأن المؤسسة العسكرية تعاني من انشقاقات وخلافات صدامية ربما تغير المشهد، وعليه يخمد الحراك نسبيًا وتنطفئ جذوة الحراك المشتعلة منذ نهاية 2018 وحتى اليوم، بما يعبر تلك المرحلة الانتقالية وصولًا إلى انتخابات العام القادم بحيث يستولي العسكر رسميًا على السلطة وللأبد.
أما الفريق الثاني فيرى عكس ذلك، إذ يميل إلى وجود انشقاقات فعلية داخل الجدار العسكري، ومن أنصار هذا التيار السفير السوداني عصام الدين محمد الشيخ، نائب رئيس لجنة الطوارئ والكوارث بالمجلس الأعلى للاقتصاد العربي والإفريقي، الذي يُرجع هذا الخلاف إلى خلفية كل منهما وأطماعه في الاستئثار بالسلطة.
الدبلوماسي السوداني في تصريحات خاصة لـ”نون بوست” أكد بداية أن حميدتي والبرهان كلاهما انقلابي مرفوض من المجتمع الدولي، وعليه حاول كل طرف منهما البحث عن حاضنة سياسية له حال وقوع أي تطورات ثورية تطيح بهما من السلطة، وهو ما يفسر العزف المنفرد لكل واحد منهما بحثًا عن حاضنة خاصة به، فتحرك البرهان غربًا فيما لجأ حميدتي شرقًا إلى روسيا والخليج.
وذهب الشيخ إلى أن الجنرالين يبحثان عن الخروج الآمن حال نجاح الثورة في تحقيق أهدافها (إذ يتهما بالتورط في مذبحة القيادة العامة وفقًا لما نقلته مجلة “فورين بوليسي” عن مسؤولين أمريكيين ومصادر في الخرطوم) وفي حال بقائهما في السلطة لا بد من وجود قوى دولية داعمة لهما في منصبيهما الجديد الذي بلا شك لن يُرضي أحد المعسكرين، الشرقي والغربي، مؤكدًا أن كليهما لديه أطماع الانفراد بالحكم بمعزل عن الآخر.
مفارقات القوة
على الورق رسميًا ربما يتفوق الجيش السوداني على قوات الدعم السريع، إذ يضم 189 ألف جندي، ويمتلك 191 طائرة حربية و410 دبابات و403 مركبات قتالية مدرعة و20 منصة صواريخ، ويحتل المرتبة 69 بين أقوى جيوش العالم والمرتبة الثامنة على مستوى إفريقيا، مقارنة بميليشيات حميدتي التي لا تتجاوز 30 ألف جندي.
لكن ميدانيًا ربما يكون الوضع متغير نسبيًا، فكما يقول الدبلوماسي السوداني فإن قوات الدعم تدين بالولاء الكامل لحميدتي الذي ينفق عليها من ماله الخاص، متكفلًا بكل احتياجاتها، ولديهم شبكة عنكبوتية من المصالح المشتركة والأنشطة غير الرسمية التي تدر دخولًا متباينة على المنتمين لتلك القوات، على عكس البرهان وبقية جنرالات الجيش السوداني الرسمي، إذ تسيطر العلاقات المهنية على الأجواء بعيدًا عن أي ولاءات شخصية.. وهنا الأمر ربما تميل كفة حميدتي نسبيًا.
منذ 2017 وضع دقلو يده على معظم مناجم الذهب في بلاده، حين استولت قواته عليه بعد معارك ضارية مع قوات هلال التي كانت تسيطر عليها قديمًا، ليصبح تاجر الإبل بين يوم وليلة أحد أباطرة تجارة الذهب، فيما نشرت العديد من التقارير الإعلامية والجمركية عن تورط الشركة المملوكة لعائلته والمسماة بـ”الجنيد” في تهريب المعدن الأصفر – الذي تمثل مبيعاته 40% من صادرات السودان -، إلى الإمارات.
المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمية في كلية فليتشر للقانون والدبلوماسية بجامعة تافتس الأمريكية، أليكس دي وال، يقول في مقال له إن حميدتي “من خلال الذهب ونشاط المرتزقة المعتمد رسميًا، أصبح يتحكم بأكبر “ميزانية سياسية” للسودان، أموال يمكن إنفاقها على الأمن الخاص، أو أي نشاط، دون أي مساءلة”.
ومن ثم فبينما يجد البرهان ووزارة الدفاع أزمات بين الحين والآخر في دفع رواتب الجنود والإنفاق على التسليح، يحيا جنود الدعم السريع حالة من الرخاء والانتشاء المعيشي بعوائد الذهب مقابل إرسال المرتزقة للخارج، تلك المفارقة لها تداعياتها القوية في تحديد حجم ومستوى ثقل كل جنرال داخل مؤسسته.
يعلم البرهان حقيقة نوايا نائبه، وعليه كانت التحركات الاستباقية بإعادة تموضع بعض التمركزات العسكرية في مناطق بعينها خشية أي انقلابات من شأنها أن تطيح به خارج السلطة، لتبقى الساحة أسيرة لعبة “القط والفأر” بين الجنرالين في انتظار من يطلق الرصاصة الأولى
خريطة الحلفاء.. مغازلة الأضداد
منذ الإطاحة بالبشير بدأ الجنرالان في تدشين خريطة تحالفات خاصة، يسعى من خلالها كل منهما إلى ترسيخ أركان حكمه خلال المرحلة المقبلة، وهنا يلاحظ أن حميدتي نجح في تكوين صداقات مع شخصيات مؤثرة مثل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، بجانب رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، وبعض زعماء وساسة الدول الإقليمية، كل هذا ساعده على تلميع صورته كسياسي قادر على حكم البلاد.
وفي المقابل يتمتع البرهان بشبكة علاقات جيدة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وبعض صناع القرار في الولايات المتحدة وأوروبا، بجانب العلاقات القوية مع عدد من زعماء دول الاتحاد الإفريقي، لكنها في المجمل ليست بقوة شبكة علاقات حميدتي التي تتسع رأسيًا وأفقيًا يوما تلو الآخر.
وظّف حميدتي إمكاناته العسكرية في خدمة أجندته السياسية، فأرسل جنوده إلى اليمن لدعم قوات التحالف بقيادة السعودية والإمارات، كما وطد علاقاته بسلطة اللواء متقاعد خليفة حفتر في ليبيا عبر إرسال بعض المرتزقة، فضلًا عن دوره القوي كـ”سمسار” مرتزقة لأبناء زايد في أكثر من ساحة نفوذ.
العامان الماضيان تحديدًا حاول قائد الدعم السريع أن يغير تلك الصورة النمطية السلبية المأخوذة عنه كتاجر مرتزقة، وذلك عبر سلسلة من النشاطات الدبلوماسية التجميلية، فاستقبل القائم بأعمال السفارة الأمريكية في الخرطوم، وممثل الاتحاد الإفريقي، مقدمًا نفسه في ثياب الإصلاحي الداعم للحراك والانتقال الديمقراطي في البلاد على عكس العقيدة السلطوية لبقية جنرالات الجيش وعلى رأسهم البرهان، رئيس مجلس السيادة.
ومؤخرًا بدأ الجنرال يطرق باب موسكو بشكل لافت للنظر، في وقت شديد الحساسية حيث الحرب الدائرة في أوكرانيا، فالدعم الذي يقدمه لا يتوقف عند حاجز الموافقة على بناء قاعدة عسكرية بحرية في بورتسودان فقط، رغم تحفظ الخرطوم سابقًا على هذه الخطوة التي تثير غضب حلفائها، بل وصل الأمر إلى إرسال عدد من جنود قوات الدعم للقتال إلى جانب القوات الروسية في أوكرانيا، السفر جاء بزعم مناورات تدريبية لكن الحقيقة دعم الروس في تلك الحرب، وذلك نظير مكاسب اقتصادية وسياسية يسعى الجنرال لتحقيقها عبر هذا التحالف بعدما تخلت أمريكا عنه بسبب انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، كما أشار نائب رئيس لجنة الطوارئ والكوارث بالمجلس الأعلي للاقتصاد العربي والإفريقي السوداني.
من يطيح بمن أولًا؟
لا بد من التأكيد أولًا على أن القائد القادم من الكلية الحربية لا يقبل بأي حال من الأحوال أن يرأسه قائد قادم من الصحراء، فتلك عقيدة عسكرية من الصعب تغييرها مهما حدث، وفي المقابل من الصعب أن يتنازل الجنرال صاحب الثروة والنفوذ عن كل ذلك لخدمة جنرال يعاني وقواته من أزمات اقتصادية طاحنة، ولعل هذا لب الخلاف المستعر بين البرهان وحميدتي، وهو الخلاف الذي كشفته الحرب الروسية الأوكرانية التي كانت من الممكن أن تكون فرصة سانحة للمؤسسة العسكرية لوأد الحراك الثوري والمعارضة في ظل انشغال العالم بالحرب، غير أن من الواضح أن قوة الخلافات وحجم الشقاق فاق بكثير الفرص الذهبية الممنوحة لترسيخ أركان الانقلاب.
ليس من المستبعد أن يطيح حميدتي بالبرهان في ضوء المؤشرات الأخيرة، فتاريخ الرجل كفيل له بإعادة استدعاء بعض سيناريوهاته، فهو الذي أطاح بالبشير الذي جاء به من أسواق الإبل لمنصات النفوذ داخل القصر الجمهوري، وهو أيضًا الذي أزاح وزير الدفاع الأسبق عوض بن عوف، الذي كان يدين له بالولاء التام.
وفي الجهة الأخرى يعلم البرهان حقيقة نوايا نائبه، وعليه كانت التحركات الاستباقية بإعادة تموضع بعض التمركزات العسكرية في مناطق بعينها خشية أي انقلابات من شأنها أن تطيح به خارج السلطة، لتبقى الساحة أسيرة لعبة “القط والفأر” بين الجنرالين في انتظار من يطلق الرصاصة الأولى، حتى لو هدأت الأجواء مرحليًا لحسابات السياسة والأمن، لكن تظل النيران تحت الرماد مشتعلة في انتظار الوقت المناسب.
وفي ضوء ما سبق، تبقى كل السيناريوهات مفتوحة، فيما يترقب الثوار ما يمكن أن يؤول إليه هذا الصرع الذي بلا شك أيًا كانت نتائجه سيصب في صالحهم، وتبقى معظم خطوط اللعبة في أيدي خريطة الحلفاء هنا وهناك، وهي التي ستنجلي بصورة أكبر بعد أن تضع الحرب الروسية الأوكرانية أوزارها، وحتى ذلك الحين يتوقع أن يستمر التوتر داخل المؤسسة العسكرية حتى إشعار آخر.