قبل أسابيع قليلة كانت استطلاعات الرأي تشير إلى تقارب بين الرئيس الفرنسي الحاليّ إيمانويل ماكرون ومرشحي اليمين المتطرف في نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية الفرنسية المقرر إجراؤها الشهر المقبل، لكن يبدو أن التطورات الإقليمية والوضع في أوكرانيا حملوا تغييرات كبرى من شأنها أن تغير اختيارات الفرنسيين.
هذه التغييرات نرصدها في نتائج استطلاعات الرأي الأخيرة، التي تزامنت مع دخول الحرب أسبوعها الثاني وتزايد المساعي الدبلوماسية لوقفها، هذا الأمر طرح سؤال عن كيفية استغلال ماكرون للحرب الروسية ضد أوكرانيا لتعزيز حظوظه الانتخابية؟
اليمين المتطرف على الخط
أعلن الرئيس ماكرون الخميس الماضي ترشحه رسميًا لولاية رئاسية ثانية في فرنسا، ومن المنتظر أن يواجه ماكرون 11 مرشحًا في الانتخابات الرئاسية التي تجري يوم 10 أبريل/نيسان المقبل، وكانت الانتخابات الماضية قد عرفت ترشح 11 مرشحًا فقط.
يواجه ماكرون منافسة شرسة خاصة من مرشحي اليمين المتطرف على رأسهم زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان التي حقق فوزًا كاسحًا عليها في الدورة الثانية للاقتراع الرئاسي سنة 2017، وتسعى للثأر لهزيمتها السابقة.
من اليمين المتطرف ترشح أيضًا إيريك زمور الذي بنا قاعدته السياسية على تهديد “البديل العظيم”، وهي نظرية مؤامرة مفادها أن الفرنسيين البيض يغتصبهم الأجانب، خاصة من شمال إفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى.
بالنظر إلى استطلاعات الرأي فإن حظوظ الرئيس الفرنسي الحاليّ في الفوز بولاية رئاسية ثانية تبدو كبيرة
لكن اختيار حزب “الجمهوريين” الذي يمثل اليمين التقليدي في فرنسا المفاجئ لفاليري بيكريس كمرشحة له في الانتخابات المقبلة، جعل رئيسة منطقة إيل دو فرانس المنافس الأكبر لماكرون حال وصولها إلى الدورة الثانية من الانتخابات.
أما اليسار فقد فشل حتى الآن في توحيد صفوفه وراء مرشح واحد بسبب الصراعات، وضمن مرشحيه يبرز اسم جان لوك ميلانشون، زعيم حزب “فرنسا الأبية” اليساري الراديكالي، كما يترشح عن اليسار يانيك جادو مرشح “حزب الخضر” وآن إيدالغو مرشحة “الحزب الاشتراكي” وفابيان روسيل مرشح “الحزب الشيوعي” وناتالي أرتو وفيليب بوتو عن اليسار المتطرف.
كما يدخل السباق الانتخابي أيضًا نيكولا دوبون-إينيان عن حزب “انهضي يا فرنسا”، الذي سبق أن أكد اعتزامه بناء سجن كبير في جزر كيرغولين جنوبي المحيط الهندي، ليكون مخصصًا لمن وصفهم بـ”الإرهابيين الإسلاميين”، حال فاز بالانتخابات الفرنسية.
ومن المنتظر أن تنطلق الحملة الرسمية للانتخابات الرئاسية في 28 مارس/آذار الحاليّ، إذ تتساوى الأوقات المخصصة للمرشحين على وسائل الإعلام، كما سيحصل المرشحون على دعم مالي لحملاتهم الانتخابية بقيمة 200 ألف يورو.
نمو بحظوظ الفوز
أول زيارة لماكرون وهو مرشح رئاسي كانت إلى بواسي (إيفلين) في الضاحية الباريسية، خلالها أبلغ الصحفيين الحاضرين أنه لن يشارك في أي مناظرة قبل الجولة الأولى.
بالنظر إلى استطلاعات الرأي فإن حظوظ الرئيس الفرنسي الحاليّ في الفوز بولاية رئاسية ثانية تبدو كبيرة، إذ توقعت استطلاعات الرأي أن يتصدّر ماكرون بفارق كبير نتائج الدورة الأولى، ويفوز بالدورة الثانية المقررة في 24 أبريل/نيسان.
أظهر استطلاع رأي لمعهد إيبسوس ومكتب سوبرا-ستيريا، ونشرت نتائجه السبت، أن ماكرون كسب 4 نقاط مئوية خلال أسبوع مسجلًا نسبة تأييد قدرها 30.5%، ومن حيث دوافع التصويت، فإن الأغلبية (55%) من ناخبي ماكرون تختاره لثقتهم به، مقابل 32% فقط لقربه من أفكارهم.
بدوره كشف استطلاع آخر للرأي أجراه معهد “بي في إيه” BVA، ونشرت نتائجه الجمعة، تقدمًا لماكرون من 5 نقاط خلال 15 يومًا ليصل إلى 29% بالدورة الأولى من الانتخابات، بفارق كبير عن خصومه، ويلاحظ المعهد أن قاعدة ماكرون الانتخابية آخذة في الاتساع.
الحرب ترفع ماكرون عالياً في استطلاعات الرأي وتدحرج زمور ولوبين إلى الأسفل.. pic.twitter.com/NmWuY8mKeF
— K A D I D O ? (@kadido213) March 1, 2022
وأظهرت الاستطلاعات أن مارين لوبان هي المنافس المفضل للوصول إلى الدور الثاني، متقدمة على فاليري بيكريس (-0.5) وإريك زمور (-1.5)، ومن المنتظر أن يتنافسوا على المقعد الثاني لمرافقة ماكرون في الجولة الثانية من الانتخابات.
استثمار الحرب الروسية ضد أوكرانيا
يتساءل العديد من المتابعين عن سبب هذا الصعود المفاجئ في أسهم ماكرون خاصة أن استطلاعات الرأي بينت قبل أسابيع قليلة تراجع ثقة الفرنسيين في ماكرون، إذ يتبنى أكثر من نصف الفرنسيين آراءً سلبيةً تجاه السجل الأمني للرئيس ماكرون، معتبرين أن الوضع الأمني ساء في البلاد خلال الخمس سنوات التي حكم فيها فرنسا.
ويردد على الألسنة في فرنسا أن ماكرون بات وبالًا على بلاده، فالمشاكل التي تسبب فيها لبلادهم داخليًا وخارجيًا لا تعدّ ولا تحصى، فقد أقر البرلمان الفرنسي في عهد ماكرون قوانين تحد من الحريات المدنية وتعطي للشرطة الصلاحيات الكاملة للقمع وفرض إرادة نظام ماكرون، وهو ما يتناقض مع مبادئ “العلمانية” التي يدّعي الرئيس الفرنسي الدفاع عنها.
كما يرى العديد من الفرنسيين أن رئيس بلادهم فشل في التعامل مع وباء كورونا ومع انهيار الاقتصاد لأن القرارات الحكومية فيما يتعلق بتشديد إجراءات مواجهة فيروس كورونا “ضبابية”، وأيضًا قرارات دعم الشركات والموظفين غير فعالة.
كما لم يغفر الفرنسيون ضعف الدبلوماسية الفرنسية في عهد ماكرون، إذ فقدت باريس أي تأثير دولي رغم أن ماكرون حاول تصوير عكس ذلك في أثناء اللقاءات الدولية، ما جعل فرنسا تخسر العديد من الحروب التي راهنت عليها.
يأمل ماكرون أن يستفيد من تعاطف الفرنسيين مع الأوكرانيين في حربهم ضد روسيا، لكسب مزيد من الأصوات
مع ذلك فإن أسهم ماكرون في تصاعد، ويعود ذلك في نسبة منه إلى ضعف خصومه، إذ يرى الفرنسيون أنه “لا أحد من المرشحين يمكنه أن يقدم أداءً أفضل في السلطة من ماكرون فيما يتعلق بالاقتصاد والأمن ومكافحة كورونا”.
لكن ليس هذا كل ما في الأمر، فتقدم ماكرون في استطلاعات الرأي ظهر مع بداية الحرب الروسية ضد أوكرانيا، ما يعني استغلاله للحرب لرفع نسبة حظوظه في الفوز برئاسة البلاد لولاية ثانية، وهو ما أكدته تقارير عديدة.
ويسعى الرئيس الفرنسي للاستفادة قدر الإمكان من الحرب الحاليّة، إذ يروج لنفسه بأنه الوسيط الموثوق وأيضًا حامي الدول الأوروبية والناتو من “السطو الروسي” إلى جانب كونه الرئيس الذي يحسن التعامل مع الأزمات.
ويبدو ماكرون الأكثر انغماسًا في البحث عن سبيل لوقف الحرب الروسية ضد أوكرانيا، كما يبدو الأكثر تمسكًا بلعب دور الوسيط بصفته رئيسًا لفرنسا وأيضًا زعيمًا للاتحاد الأوروبي خلال هذه الفترة، وظهر ذلك من خلال إجرائه مشاورات مكثفة مع الرئيسين الأمريكي والأوكراني وتوسعت لتشمل المستشار الألماني ورؤساء دول البلطيق الثلاثة ورئيس الوزراء البريطاني ورئيس المجلس الأوروبي وأمين عام الحلف الأطلسي وقادة آخرين من شرق ووسط أوروبا، فضلًا عن محادثاته المتكررة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
#BREAKING Russian, Ukranian officials to meet in Paris Wednesday: Macron aide pic.twitter.com/cyoH0Boyqm
— AFP News Agency (@AFP) January 24, 2022
رغم أن حراكه الدبلوماسي لم يفض إلى نتائج تذكر خارجيًا في الحرب المتواصلة ولا بوادر لتوقفها في القريب العاجل، فإن هذه الوساطة بدأت تؤتي أكلها على المستوى الداخلي، إذ تعززت صورة ماكرون لدى الفرنسيين وازدادت ثقتهم به، خاصة في ظل مواقف بقية المترشحين من الحرب.
في المقابل تراجعت حظوظ مرشح اليمين المتطرف الشعبوي إريك زمور بسبب دفاعه عن روسيا، إذ يرى زمور أن شرط وقف الحرب الالتزام بعدم انضمام أوكرانيا أبدًا إلى الحلف الأطلسي، كما يرى أن ما يطلبه بوتين “أمر مشروع”.
أما جان لوك ميلونشون، فإنه يرى ضرورة أن تلتزم فرنسا بموقف محايد، كما يرى أنه “يتعين ألا يدخل الروس إلى أوكرانيا، كما أن على الولايات المتحدة ألا تضم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي”، فيما تدعو فالير بيكريس إلى إنشاء مجلس أمني أوروبي لا مكان فيه للولايات المتحدة الأمريكية.
في سياق متصل شهدت مدن فرنسية عديدة خلال الفترة الأخيرة مسيرات حاشدة بمشاركة آلاف الأشخاص دعمًا لأوكرانيا ضد الهجوم الروسي ورفضًا لـ”الحرب في أوروبا”، ومن المقرر أن يجتمع الفرنسيون نهاية كل أسبوع في باريس أو في أي مكان آخر، حتى يغادر بوتين ويسحب دباباته، وفق المشرفين على التنظيم.
يسعى ماكرون إلى استثمار تعاطف الفرنسيين مع الأوكرانيين في حربهم ضد روسيا، لكسب مزيد من الأصوات حتى يتمكن من الفوز في الانتخابات الرئاسية القادمة رغم الخيبات الكثيرة التي عرفتها فرنسا في ولايته الأولى.