ترجمة حفصة جودة
يعيش هيثم كردي – 61 عامًا، لاجئ سوري – منذ نحو 6 أشهر في مركز ترحيل بالدنمارك، ويقول أقاربه إنه أصيب بالاكتئاب ونادرًا ما يأكل، كما يعاني من تشنجات لا إرادية وبدأ بالتحدث مع نفسه.
فرّ السيد كردي من الحرب السورية عام 2015 عقب ابنه الشاب محمد الذي وصل هنا قبل عام، حصل السيد كردي مبدأيًا على حق اللجوء المؤقت، لكن السلطات ألغت تصريح إقامته العام الماضي بعد أن قررت أن الوضع أصبح آمنًا له ولغيره من القادمين من دمشق للعودة إلى بلادهم.
قال السيد كردي من غرفته الصغيرة المتهالكة بمركز “Kaershovedgaard” بمدينة إيكاست شمال الدنمارك حيث يُحتجز اللاجئون الذين رُفضت إقامتهم: “الإقامة هنا تشبه الموت ببطء، لكن فكرة العودة إلى سوريا مرعبة لدرجة تجعل التفكير في الأمر مستحيلًا”.
وبينما وجد مئات آلاف السوريين ملاذًا لهم في أوروبا عام 2015، استقبلت الدنمارك أكثر من 30 ألف منهم، لكن منذ ذلك الحين لم تفعل أي دولة أوروبية ما فعلته الدنمارك ليشعر اللاجئون السوريون أنه غير مرحب بهم.
مع تضخم أزمة اللاجئين الجديدة في أوروبا، كان للترحيب الحار بالأوكرانيين الفارين من الهجوم الروسي تأثير تعاطفي تشوبه المرارة في الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث أحس الكثيرون أن الدول الأوروبية اتخذت موقفًا حنونًا تجاه الوافدين الجدد، أكثر مما فعلوا مع العرب والمسلمين والأفارقة اللاجئين الذين حاولوا الوصول إلى بر الأمان على الشواطئ الأوروبية في السنوات الأخيرة.
في 2019 بدأت الحكومة في إرسال خطابات لأكثر من 1200 لاجئ من دمشق، قائلة إنه بعد منحهم تصاريح الإقامة أعادت تقييم وضع اللجوء المؤقت، ومنذ ذلك الحين رفضت الحكومة إقامة أكثر من 100 سوري مثل السيد كردي بعد أن استنفدوا استئنافهم، ما جعل وجودهم في البلاد غير قانوني.
أُرسل كثير منهم إلى مراكز ترحيل حول البلاد حيث تصبح تحركاتهم مقيدة بشدة، لكن الدنمارك لا تستطيع ترحيلهم لعدم وجود علاقات دبلوماسية مع سوريا، لذا انتهى الأمر بعشرات اللاجئين السوريين عالقين في غياهب النسيان، ويواجهون احتجازًا لأجل غير مسمى مع تهديد معلق بالترحيل.
برفض تصاريح إقامة بعض السوريين، أصبحت الدنمارك أول دولة أوروبية تقنن عدم السماح باللجوء رغم خطر العودة إلى الوطن.
قال خبراء الأمن وحقوق الإنسان إن تقييم الدنمارك للوضع الأمني في دمشق يحرّف بشكل كبير مخاطر العودة بينما لا يزال الديكتاتور بشار الأسد في السلطة، واجه العائدون الابتزاز والتعذيب والانتهاك الجنسي والإخفاء القسري وفقًا لجماعات حقوق الإنسان.
دعت وكالة الأمم المتحدة للاجئين حكومات العالم إلى عدم ترحيل اللاجئين لأي جزء من سوريا، أثارت الإجراءات الدنماركية قلق العديد من المشرعين الأوروبيين وبعض الدول الأوروبية مثل بريطانيا التي قالت بما لا يدع مجالًا للشك إن عودة السوريين لبلادهم غير آمنة.
يقول نيلز إيريك هانسن – محامٍ في كوبنهاجن يمثل السيد كردي والعديد من السوريين -: “أصبح عملائي رهينةً لدى السلطات الدنماركية لإرسال رسالة إلى العالم بأن الدنمارك أسوأ مكان يمكن أن يذهب إليه طالبو اللجوء من سوريا”.
قال راسموس ستوكلند – المتحدث باسم الحكومة – إنه لا ينبغي إعادة السوريين إذا كانوا يواجهون خطرًا، وأضاف “أنتم مرحب بكم ما دمتم تحتاجون إلى الحماية، لكن بمجرد عدم حاجتكم إليها يجب عودتكم إلى بلادكم”.
لدى جميع السوريين الذين رُفضت تصاريح إقامتهم الحق في استئناف القرار، وخلال عدة مرات في الأسبوع تجتمع لجنة من 3 قضاة في كوبنهاجن للحكم في تلك الاستئنافات، عادة ما يُرسل هؤلاء الذين يستنفدون كل الطرق القانونية إلى مراكز الترحيل مثل التي يقيم بها السيد كردي.
يُحاط المركز – سجن سابقًا – بسياج ويخضع لحراسة ويُسمح للسيد كردي بالنوم خارج المركز مرتين في الشهر فقط، تهدف الدنمارك إلى إثناء اللاجئين عن القدوم والبقاء وفقًا لما يقوله توماس هانسن أستاذ قانون اللاجئين الدنماركي بجامعة كوبنهاجن.
يقول هانسن: “أصبح المنع غير المباشر ردًا ممنهجًا للدول الأوروبية فيما يتعلق بالأزمة السياسية الحاليّة للجوء في أوروبا، تصدرت الدنمارك هذا الأمر وكانت مصدرًا لإلهام الآخرين”.
شددت الدول الأوروبية الأخرى من سياساتها تجاه اللاجئين السوريين، فقد رفعت ألمانيا الحظر المفروض على الترحيل لسوريا لهؤلاء المدانين بجرائم خطيرة، وتوقفت السويد عن منح تصاريح إقامة لبعض السوريين، لكن لم يفعل أحد ما فعلته الدنمارك.
يمكن لمعظم السوريين الحاصلين على تصاريح الإقامة في الدنمارك البقاء حتى الآن، فهذه الإجراءات تخص القادمين من دمشق فقط، لكن السلطات الدنماركية تعيد تقييم الموقف الأمني الآن في أجزاء أخرى من سوريا، ما يعني أن آلاف اللاجئين عرضة للخطر.
قالت وزارة الهجرة الدنماركية إن نحو 400 سوري عادوا لبلادهم طوعًا وقد حصلوا على 30 ألف دولار للرحيل، ومع ذلك فمن بين أكثر من 245 سوريًا رُفضت تصاريح إقامتهم وقدموا استئنافات، كان الفائزون أكثر من الخاسرين.
من بين هؤلاء الذين قُبل استئنافهم سامي دياب – 50 عامًا – الذي يعمل في مصنع جنوب الدنمارك، كان دياب قد فر من سوريا عام 2014 وانضمت إليه زوجته وأطفاله الخمس بعد عام واشتروا منزلًا عام 2019، لكن السيد دياب فقد تصريح إقامته بعد ذلك بفترة قصيرة.
في ظهر أحد الأيام اللاحقة في كوبنهاجن، خرج السيد دياب من مجلس استئناف اللاجئين الدنماركي وهو يرفع قبضته في الهواء انتصارًا، بعد أن جفف دموعه اتصل دياب بصاحب العمل وقال: “كل الأمور بخير، نحن باقون هنا في الدنمارك”.
شكلت الإجراءات الحكومية ضد السوريين توترات بين الدنماركيين المؤيدين للإجراءات المعادية للهجرة والرافضين لها، فنحو 80% من الناخبين الدنماركيين الآن يرفضون تلك الإجراءات وفقًا لمسح حديث.
قال ماتياس تسفاي وزير الهجرة في البلاد في البرلمان الأوروبي مبكرًا هذا العام إن الدنمارك تحتاج إلى حماية نفسها من المشاكل التي يسببها اندماج الكثير من المهاجرين، وقد أصرّ على أن العائدين إلى دمشق غير معرضين للخطر، وأضاف في بيانه أنه لم يكن مسؤولًا عن التقييم الأمني للمناطق السورية أو اتخاذ قرارات بشأن طلبات اللجوء.
بالنسبة للذين فقدوا تصاريح إقامتهم، فالعودة إلى سوريا مسألة غير واردة، تقول أسماء الناطور – 51 عامًا – التي أُرسلت إلى مركز لجوء شمالًا في مدينة هولستبرو مع زوجها عمر: “لن نعود إلى سوريا ما دام بشار هناك، سنعود إليها فورًا بمجرد رحيله”.
على عكس مراكز الترحيل، فالمركز في هولستبرو مخصص لطالبي اللجوء القادمين حديثًا، أو لمن هم بوضع الناطور ممن رُفضت تصاريح إقامتهم وقدموا استئنافًا وما زالوا بانتظار القرار النهائي، يعد الوضع أفضل في مراكز اللجوء، فأسماء وزوجها يملكان سيارة ويمكنهما الدراسة ويحصلان على راتب شهري قدره 320 دولارًا.
تسببت سياسات الدنمارك تجاه اللاجئين وطالبي اللجوء في تفريق الكثير من العائلات، تزوج محمد – ابن السيد كردي، 28 عامًا – من سيدة دنماركية ولديه طفلتان، وقد حصل على وضع لاجئ في الدنمارك لأنه معرض لخطر التجنيد في الجيش السوري، هذا يعني أنه يستطيع مواصلة حياته في ضواحي كوبنهاجن مع أسرته.
يضم مركز “Kaershovedgaard” – حيث يُحتجز السيد كردي – نحو 250 شخصًا بعضهم ينتظرون الترحيل إلى دول أخرى غير سوريا، يُسمح للسيد كردي بمغادرة المركز مرتين في الشهر للقاء عائلته أو محاميه.
في زيارة حديثة للمركز كانت بعض المناطق المشتركة ممتلئة بالقمامة، بينما غزت الفئران مركزًا آخر، وفقًا لصور حصلت عليها نيويورك تايمز.
وبينما لم يعد للسيد كردي مستقبل هنا، فقد حاول الرحيل العام الماضي إلى ألمانيا، لكنه رُفض وأٌعيد ترحيله إلى الدنمارك، يقول ابنه محمد إن والده يندم على قرار الانتقال إلى الدنمارك ويضيف “لم يعد لوالدي مستقبل هنا، وهو ينتظر بلا أمل”.
المصدر: نيويورك تايمز