يواجه الطلاب العرب العالقون حاليًّا في أوكرانيا جراء الحرب الدائرة مصيرًا مجهولًا، خصوصًا بعد تقاعس بعض سفارات الدول العربية عن أداء واجبها في تقديم الدعم اللازم لهم حتى يستطيعوا الهرب من القصف والعودة إلى بلادهم سالمين من جهة، وطمأنتهم على مصير سنوات من الدراسة قد تضيع هباءً.
أثارت هذه الأحداث تساؤلات أخرى عن أسباب وجود آلاف الطلاب العرب في أوكرانيا، واختيارهم لها عوضًا عن جامعات البلدان الأخرى بمختلف أنواعها وتخصصاتها، من حكومية وأهلية وخاصة ودولية.
انخفاض تكاليف الدراسة
يقصد أوكرانيا دفعات من الطلاب العرب سنويًا لمتابعة دراستهم الجامعية، كونها تمتاز بنظام تعليمي معترف به في بلدانهم مع تكاليف مقبولة جدًا، فتكلفة دراسة علوم الكمبيوتر على سبيل المثال في إحدى أفضل الجامعات الأوكرانية يمكن أن تكون 2500 دولار في العام الواحد، بينما يمكن أن تصل تكلفة دراسة نفس الفرع في إحدى جامعات لبنان – الجامعة الأمريكية في بيروت – إلى أكثر من عشرة آلاف دولار سنويًا.
بالإضافة إلى ذلك تمتاز أوكرانيا عن بقية الدول الأوروبية بسهولة الحصول على تأشيرة دخول لها، وانخفاض تكاليف المعيشة نسبيًا، إذ تحتل المركز الثامن في التصنيف العالمي بأسعارها المناسبة للجميع، وتقدر تكلفة استئجار شقة مكونة من غرفتين نوم نحو 230 دولارًا في الشهر الواحد، كما يمكن أن يتشارك السكن شخصان ليدفع كل منهما 115 دولارًا شهريًا، ما يجعلها خيارًا مثاليًا للعديد من الطلاب العرب الذين ينوون الدراسة في الخارج بإمكانات محدودة وشروط معقولة.
يشكل الطلاب المغاربة والمصريون المكونين الأساسيين للطلاب العرب في أوكرانيا، إذ تحتل الجالية الطلابية المغربية المرتبة الثانية في عدد الطلاب الأجانب الموجودين في أوكرانيا بعد الهنود، فهناك 12 ألف مغربي بينهم ثمانية آلاف طالب في أوكرانيا، التي غادرها ثلاثة آلاف منهم قبل الهجوم الروسي في رحلات جوية خاصة، وفق وزارة الخارجية المغربية.
يضاف إلى القائمة الجزائر التي تحتل المرتبة الرابعة، بحسب موقع وزارة التعليم العالي الأوكرانية، بالإضافة إلى وجود جاليات أخرى من بقية الدول العربية مثل الأردن ولبنان وسوريا وغيرها.
سهولة التسجيل والدراسة نسبيًا
تكلفة التعليم الزهيدة ليست عامل الإغراء الوحيد للدراسة في أوكرانيا بالنسبة لبعض الطلاب، فالجامعات الأوكرانية تقدم تسهيلات عديدة في عملية القبول الجامعي، كعدم حاجة المتقدمين لاختبارات اللغة المتعارف عليها مثل التوفل والآيلتس، واقتصار سنوات الدراسة في بعض الفروع العلمية مثل الطب على خمس سنوات فقط، بالإضافة إلى ذلك، فإن “المنهاج الأوكراني الأوروبي متطور وسلس ومختصر أكثر بكثير من الموجود في سوريا” وفقًا لياسمين الأتاسي.
ياسمين الأتاسي، سيدة سورية مقيمة حاليًّا في هولندا، وهي واحدة من خريجات كلية الصيدلة في جامعة خاركوف الحكومية بأوكرانيا، ذكرت في حديث لها مع “نون بوست” الأسباب التي دفعتها لاختيار أوكرانيا لمتابعة دراستها الجامعية:
“بشكل عام يقبل الطلاب العرب على الدراسة هناك بسبب سهولة المقرر الدراسي مقارنة بالمنهاج السوري، ورخص أقساط الدراسة مقارنة بالجامعات الخاصة السورية أو العربية في دول الجوار، بالإضافة إلى حرية العيش في أوروبا للطالب العربي المحروم من حقوقه في ممارسة حياته كشاب/شابة في بلده العربي الأم، وهناك أيضًا عامل سهولة النجاح نسبيًا والانتقال من سنة إلى أخرى مقارنة بسوريا، وذلك لأسباب يطول شرحها منها وجود الرشاوى لشراء المواد المقررة”.
وتضيف الأتاسي أن الفساد الإداري الموجود في بعض المنشآت التعليمية في روسيا وأوكرانيا وغيرها من دول أوروبا الشرقية، ودور النظام السوري في زرع فكرة إمكانية شراء الشهادات في عقول بعض الطلاب، نجحا في استقطاب فئة معينة من الطلاب، وتابعت: “الفساد والرشاوى موجودان بنفس القدر الموجود في سوريا، لكن الفرق يكمن في سهولة التعامل مع المرتشي على عكس سوريا”.
وترى أن السبب الأول في انتشار الرشاوى في أوكرانيا وروسيا وما حولهما من بلدان صغيرة تابعة للنفوذ الروسي هو البعثات الطلابية المحسوبة على الحكومة السورية، والتي تشمل في الغالب فئة موالية لحزب البعث وتابعة لذيول الديكتاتورية السورية، إذ سهل النظام السوري في البدايات عملية الدراسة في تلك البلدان كنوع من التبادل التجاري والمعلوماتي والاستخباراتي بين تلك الدول”.
انخفاض المجاميع في الثانوية العامة
تضع الجامعات العربية حد قبول مرتفع جدًا لبعض الكليات العلمية مثل الطب والهندسة، ما يصعّب عملية الالتحاق بها، فيلجأ بعض الطلاب العرب إلى أوكرانيا لتحقيق حلمهم بدراسة الطب أو الصيدلة أو طب الأسنان أو الهندسة، كونها تطلب معدل قبول منخفض جدًا قياسًا بالمعدلات المطلوبة في الدول العربية، قد يصل أحيانًا في بعض الجامعات الصغيرة إلى حد 50 أو 60%.
ترفض النقابات المهنية في بعض الدول العربية أحيانًا تسجيل هؤلاء الطلاب كأطباء أو مهندسين في النقابة إذا كانوا قد قبلوا بالجامعات الأوكرانية أو الروسية أو غيرها من دول أوروبا الشرقية بمعدل متدنٍ، إلا بحالة إذا كان الفرق للقبول بالجامعات الخارجية عن 5% بالنسبة للقبول بالجامعات الحكومية.
وتعلّق ياسمين على موضوع الاعتراف بالشهادات الجامعية الأوكرانية في مختلف الدول انطلاقًا من تجربتها الشخصية: “درست في جامعة خاركوف الحكومية للصيدلة، المعروفة على مستوى أوروبا، ما يسهل استخدام شهادتي في أوروبا مع الحاجة لتعديل بسيط بسبب اختلاف اللغة في كل بلد”.
وتكمل: “في هولندا على سبيل المثال مطلوب اجتياز امتحانات للتعديل لكل من يحمل شهادات طبية بسبب حساسية التعامل مع المرضى، بينما في ألمانيا يعد التعديل إجراء شبه روتيني بسبب الحاجة للشهادات الطبية، وقس على ذلك اختلاف كل بلد بالتعامل مع خريجي الشهادات من الخارج، حيث لا يوجد قانون واحد سائد فيما يخص أوكرانيا، أما القانون السوري، يحتم تعديل شهادة كل طالب حاصل على شهادة علمية من خارج سوريا، وقد اجتزت الامتحان في محاولتي الثانية وكانت الصعوبة في فارق اللغة (من الروسية للعربية)”.
فرص الإقامة الدائمة والعمل
بالإضافة إلى جميع ما سبق، تعطي أوكرانيا فرصة البقاء والعمل في أوكرانيا بعد التخرج من الجامعة، ما يجعلها خيارًا جيدًا لمن ينوي الاغتراب والعمل في الخارج، أو بحالة الكثير من الطلاب العرب، الهروب من أوضاع بلدانهم السيئة على المستويين الاقتصادي والسياسي.
فقد قدّمت الحكومة الأوكرانية تسهيلات كثيرة فيما يتعلق بالإجراءات المطلوبة للعمل في أوكرانيا، خصوصًا بعد توافد عدد كبير من الشباب للدراسة، لكن لا يحق للأجانب العمل بالدولة إذا كانوا موجودين بها بتأشيرة دراسة إلا ضمن شروط محددة.
أما فيما يخص متوسط الدخل في أوكرانيا، فقد بلغ متوسط الراتب الشهري في فبراير/شباط 2021، نحو 445 دولارًا أمريكيًا، وهو أعلى بنسبة 15% مقارنة بفبراير/شباط 2020، وفقًا لدائرة الإحصاء الحكومية، وسجل أعلى متوسط للرواتب في قطّاع الاتصالات والمعلومات، حيث يعد العمل في مجال البرمجة بأوكرانيا في السنوات الأخيرة فرصةً ذهبيةً.
لكن الآن يجد أكثر من عشرة آلاف طالب عربي أنفسهم عالقين في أوكرانيا على وقع الغزو الروسي، فيما تطرح إعادتهم إلى أوطانهم معضلة لحكوماتهم التي يفتقر بعضها إلى تمثيل دبلوماسي في كييف، خصوصًا السوريين والعراقيين، حيث تحصرهم النزاعات القائمة والأوضاع الحرجة في بلادهم ضمن خيارات ضيقة جدًا أو حتى معدومة، فبعض الطلاب ينتظرهم الاعتقال أو حتى الموت حال العودة إلى وطنهم، في الوقت الذي يعيشون به القصف الروسي على أوكرانيا، مع عدم وجود أي خيار آخر إلا الانتظار حتى جلاء الأمور على أمل عودة الحياة إلى مجراها الطبيعي.