رغم التعثر الذي أصاب التحركات العسكرية الروسية داخل أوكرانيا خلال الأيام الماضية، فإن تمكن القوات الروسية من السيطرة على الجبهتين الشمالية الشرقية والشمالية الغربية، يؤشر إلى تصحيح كبير في خطة الحرب، إذ يبدو أن القوات الروسية أجرت تعديلًا كبيرًا على خطتها، وأعادت العمل بذات الخطة التي سيطرت بموجبها على مدينة دونباس في البداية، وذلك عبر استخدام المدفعية والدروع والقصف الجوي، ومن ثم المناورة والتقدم البري، لتقليل الخسائر وسرعة السيطرة.
ويمكن القول إن ما ساعدها على تحقيق هذا التقدم السريع هو إدخال طائرات سوخوي 35 التكتيكية التي دمرت أغلب الدفاعات العسكرية الأوكرانية في الجبهتين الشمالية والغربية من العاصمة، فضلًا عن المدفعية الثقيلة، ومن ثم فإن هذه التحولات مكنت القوات الروسية من الوصول إلى محيط العاصمة كييف من جهة الشمال والغرب، بحيث باتت تبعد مسافة 25 كيلومترًا عن مركز العاصمة، وتحديدًا في الضفة الغربية من نهر دينيير في إربين وبوتشا اللتين تشهدان معارك عنيفة، رغم أن القتال ما زال مستمرًا في الجبهتين الشرقية والجنوبية.
عزل العاصمة خيار إستراتيجي روسي
القيادة الروسية باتت تدرك أن عزل العاصمة عن المدن والبلدات الأخرى، فضلًا عن العالم الخارجي، سيمكنها من إنهاء الحرب بأقرب وقت ممكن، بعيدًا عن مفاجآت الكر والفر التي تجري في مدن خاركييف وماريبول وسومي وأوديسا على الجبهة الشرقية والجنوبية، إذ يتمثل الهدف الأساسي للقوات الروسية من خلال وصولها إلى إربين غرب العاصمة كييف، في إنهاء أي فرصة لاستمرار الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، كما أنها تريد سحب ورقة الطائرات السوفيتية “ميغ 29” التي تلوح بعض الدول الأوروبية بإرسالها إلى كييف، رغم تردد بولندا بإرسالها حتى اللحظة.
وعلى الرغم من عدم سقوط مطار كييف إلى الآن، فإن القوات الروسية سيطرت على أغلب المطارات المحيطة، ومن ثم قد لا تعود هناك فائدة عملياتية تذكر من إرسال طائرات لأوكرانيا، كونها لن تجد مطارات للإقلاع، فضلًا عن غياب منظومات الرادار ومساحة الاشتباك الجوي، بعد تمكن روسيا من تحقيق سيادة جوية شبه كاملة.
ومن جهة أخرى يبدو أن السلوك الأوكراني وبناءً على المواقف الغربية والأمريكية منذ يومين مضت، يتجه نحو جر القوات الروسية إلى حرب عصابات وحرب استنزاف طويلة، خصوصًا مع بدء جولات التفاوض بين الطرفين.
إذ يدرك الجانب الأوكراني أن أي مسار تفاوضي سيبنى بالأساس على مسرح الحرب، لذلك يحاول عدم السماح للجانب الروسي بالسيطرة على مساحات شاسعة أو حتى إمكانية تهديد مركز العاصمة، كما تحاول القوات الروسية منذ أيام، كما يبدو أن الجانب الروسي لا يفكر حتى اللحظة باحتلال العاصمة، كون الأمر يحتاج إلى لوجستيات كبيرة وعنصر بشري هائل.
فمجموع القوات الروسية المتمركزة حول كييف من جميع الجهات لا يتجاوز 40 ألف مقاتل، في الوقت الذي يوجد داخل كييف ما يقرب من 3 ملايين نسمة، فضلًا عن مساحة تقدر بنحو 800 كيلومتر مربع، هذا إلى جانب حشود عسكرية أوكرانية وأجنبية بدأت بالتدفق إلى داخل العاصمة، ما يجعل فكرة الاقتحام أشبه بعملية انتحارية من الجيش الروسي.
الممرات الإنسانية كإستراتيجية حربية
رغم الإعلان الروسي بإيقاف إطلاق النار وفتح ممرات إنسانية لمن يرغب بالخروج، فمن الملاحظ أن الممرات الإنسانية المقترحة تأتي باتجاه الحدود الروسية والبيلاروسية فقط، مع عدم شمول الدول التي شهدت موجات لجوء كبيرة منذ بدء الحرب، وتحديدًا بولندا ورومانيا ومولدوفا، بهذه الممرات، ما يجعل هذه الإستراتيجية الروسية أشبه بعملية تهجير قسري أكثر من كونها حالةً إنسانيةً.
وفضلًا عن ذلك فإن ما يشير إلى ريبة المقترح الروسي بشأن الممرات الآمنة، هو شمول المدن التي تشهد مقاومة شعبية رافضة لروسيا، وتحديدًا ماريبول وتشيرنغيف وسومي وخاركييف وكييف بهذا المقترح، ما يوحي برغبة روسية في إفراغ هذه المدن من سكانها، لتسهيل السيطرة عليها من جهة، وعزلها عن جغرافيا الحرب من جهة أخرى.
إذ تتمثل مشكلة أوكرانيا الآن في نجاح موسكو بعزلها عن حدودها الغربية، كما فعلت مع الجبهة الجنوبية التي أصبحت شبه معزولة عن البحر الأسود، عندها سيتوقف الدعم العسكري والإنساني، خصوصًا في مجال الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات، التي أثبتت فاعليتها ضد القوات الروسية خلال الأيام الماضية.
فإلى جانب العاصمة كييف، تحاول روسيا الآن السيطرة على مدينة دينيبرو وسط البلاد، فهذه السيطرة ستجعلها قادرةً على التحكم بكل مجريات الحرب، كونها ستفتح الطريق لنقل الحرب إلى الجبهة الغربية، وتحديدًا مدينة ليفيف التي تعتبر الممر الإستراتيجي لمجمل المساعدات التي تتلقاها أوكرانيا من حلف الناتو، ورغم أنها ما زالت بعيدة عن خطر السقوط، فإن وقوعها تحت خط النار الروسي يجعلها دون مأمن.
إن المعضلة الغربية بدأت تتضح بصورة كبيرة مع تعدد نقاط الاشتباك مع روسيا، خصوصًا في مسألة الاستمرار بإرسال الأسلحة والمعدات إلى كييف، أو في مواجهة تأثيرات العقوبات المفروضة على روسيا، ولعل أولى بوادر هذه المعضلة أن العديد من الدول الأوروبية التي تعتمد على الغاز والنفط الروسي بدأت بالمطالبة بتخفيف حدة العقوبات على روسيا، أو تأخير فرضها، حتى يتم إيجاد بديل للطاقة الروسية، كونها تواجه أزمة طاقة بدأت تتصاعد، وما يرشح إمكانية تصاعد هذه الأزمة، هو إعلان الولايات المتحدة بدء الحظر على واردات النفط من روسيا.