هل كانت زيارة الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتسوغ إلى تركيا وإعادة تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، طعنةً غادرةً في ظهر الفلسطينيين، مثلما وصف الرئيس رجب طيب أردوغان من قبل اتفاقات السلام التي وقعتها حكومات الإمارات والبحرين والمغرب والسودان مع “إسرائيل”؟، أم تمثل ترجمةً حرفيةً لطبيعة وتاريخ العلاقات بين البلدين التي بدأت مبكرًا منذ عام 1949، وشهدت على مر 7 عقود حالات عديدة من المد والجزر والتقلبات الدراماتيكية، بين القطعية والتوتر والتقارب والتحالف؟
وهل تمثل الزيارة التي فتحت صفحةً جديدةً في العلاقات التركية الإسرائيلية، وما واكبها من تقارب بين البلدين، وتراجع لحدة التلاسن المتبادل، وخطوات لزيادة التعاون الاقتصادي والأمني، نهجًا جديدًا ومغايرًا في سياسات حكومة أردوغان في التعاطي مع القضية الفلسطينية؟
ثمة تساؤلات كثيرة يطرحها ملف إعادة تطبيع العلاقات التركية الإسرائيلية بعد قرابة 15 عامًا من التوتر، عن دوافع التقارب التي باتت معروفة على الأقل من أنقرة، لكن يبقى الأهم هو نتائج هذا التقارب وثماره سواء المعلنة أم المخفية ومدى تأثيرها على القضية الفلسطينية.
أردوغان والقضية الفلسطينية
يعود أردوغان مجددًا إلى دائرة النظام العالمي ويتعامل مع القضية الفلسطينية وفق الخطاب الرسمي المعلن من القوى والمنظمات الدولية والإقليمية، ويتخلى عن الخطاب العاطفي الحماسي المناصر للمقاومة الفلسطينية والمناهض للاحتلال الإسرائيلي وممارساته الوحشية.
ولطالما فضح الرئيس التركي بخطاباته الرنانة وكلماته المدوية جرائم الاحتلال الإسرائيلي ضد الفلسطنيين سواء في غزة أم الضفة الغربية والقدس الشريف، وظل أردوغان طيلة عقد ونصف يوجه انتقادات حادة لقادة “إسرائيل” دون خجل أو مواربة.
ولا ينسى أحد تلك المواجهة الشهيرة عام 2009 مع الرئيس الإسرائيلي الراحل شيمعون بيريز في منتدى دافوس، حين وصفه أردوغان بقاتل الأطفال، وذلك في أعقاب قتل القوات الإسرائيلية لمئات الفلسطيين عام 2008، وكثيرًا ما وصف أردوغان “إسرائيل” بالدولة الإرهابية والإجرامية ونعتها بأشد الأوصاف التي تتطابق مع عدوانها المتواصل على الفلسطينيين.
خطابات أردوغان الحماسية ضد “إسرائيل”، واكبها توتر شديد في العلاقات السياسية والدبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب تم خلالها سحب السفراء وخفض مستوى العلاقات أكثر من مرة، فيما يذهب خصوم الرئيس التركي في المنطقة العربية، إلى أن الرجل يستخدم فقط لغة خطابية وحماسية يثير بها العواطف ويكسب تأييد الإسلاميين والمحافظين وجماهيرهم سواء في تركيا أم العالم العربي والإسلامي، مدللين على ذلك بأن التوتر بين أنقرة وتل أبيب، لم يؤثر على مستوى التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري بين البلدين الذي ظل يتصاعد في أشد فترات تدهور العلاقات بين البلدين.
في المقابل لا أحد يستطيع إنكار أن حكومة أردوغان لم يقتصر دعمها ومساندتها للقضية الفلسطينية على الخطب الرنانة والتصريحات الحماسية، بل عمدت إلى مساندة القضية الفلسطينية في المحافل الدولية وواجهت “إسرائيل” في عدوانها المتكرر على قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وكانت سببًا فاعلًا في الإدانة الأممية لوحشية تل أبيب في كثير من المناسبات.
كما أنها رفضت قولًا وفعلًا الحصار الجائر على غزة وحاولت كسر هذا الحصار وسعت إلى تقديم كل أنواع الدعم والمساندة لأبناء القطاع المحاصر، كما ساندت ودعمت فصائل المقاومة الفلسطينية وفي مقدمتها حركة حماس المرتبطة في نظر كثير من المحللين أيديولوجيًا بالنظام الحاكم في أنقرة، وهي العلاقة التي كانت محل انتقاد وهجوم شديد من تل أبيب وواشنطن، بل والقيادة الفلسطينية الرسمية في رام الله، وأيضًا الأنظمة العربية في القاهرة وأبو ظبي والرياض.
نهج مغاير
برأي كثير من المحللين، فإن أنقرة بخطواتها المتسارعة نحو التطبيع مع تل أبيب، تعود إلى الحظيرة الرسمية لأنظمة المنطقة وتتعامل مع القضية الفلسطينية على ذات النهج الذي تتعامل به الأنظمة العربية العتيدة منذ عقود، وذلك من خلال علاقات وطيدة مع القيادة الفلسطينية الرسمية في رام الله المتمثلة في الرئيس محمود عباس، والإعلان عن التمسك بحل الدولتين وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية على حدود 4 يونيو/حزيران عام 1967.
ولعل وقوف الرئيس التركي مع نظيره الإسرائيلي في المؤتمر الصحفي عقب جلسة المباحثات الثنائية بين الجانبين، يشبه كثيرًا تلك المؤتمرات التي عقدها عدد من القادة العرب عند استقبالهم لنظرائهم الإسرائيليين، فأردوغان تحدث عن تأكيده لهرتسوغ على أهمية حل الدولتين وإحلال السلام والمكانة التاريخية للقدس وحماية المسجد الأقصى والسماح للمنظمات الإنسانية التركية مثل تيكا والهلال الأحمر باستمرار أنشطتها وتقديم مساعدات للفلسطينيين.
وحديث أردوغان عن حل الدولتين، ومن قبله وزير خارجيته الذي أكد أن التطبيع مع “إسرائيل” لا يعني التخلي عن القضية الفلسطينية، يمثل حديثًا تقليديًا لا يربو أن يكون مساندةً شكليةً للقضية الفلسطينية، كتلك التي ينتهجها القادة العرب عند تأكيدهم على تمسكهم بالمبادرة العربية الفلسطينية.
يدعم الطرح القائل بتغيير نهج القيادة التركية في التعامل مع القضية الفلسطينية، ليس التراجع في حدة الانتقادات التي يوجهها أردوغان إلى “إسرائيل” فحسب، بل في سعيها نحو تقوية علاقاتها مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس، في مقابل الفتور الذي يسود علاقاتها مع حماس.
وقد أكدت مصادر تركية وعبرية، عن استجابة أنقرة لمطالب تل أبيب، باستبعاد بعض قيادات وعناصر حماس من الأراضي التركية، وتأكيد الأخيرة حرصها على عدم تقديم أي دعم عسكري لحماس أو إدارتها لأي عمليات عسكرية ضد تل أبيب من تركيا، وأن وجود حماس على أراضيها يقتصر على الجناح السياسي فحسب.
والأهم أن التطبيع مع تل أبيب، لم يكن وليد أي تغير في النهج الإسرائيلي إزاء حقوق الشعب الفلسطيني، بل إن هذا التطبيع يأتي في وقت تعاني فيه القضية الفلسطينية أشد المعاناة مع استمرار العدوان الإسرائيلي على القدس والأقصى وغزة وتواصل الاستيطان، بل جاء استجابةً لمصالح أنقرة وحكومتها.
وفي نظر كثير من المحللين، لم يكن ذكر القضية الفلسطينية الذي تصدر عناوين وكالة الأناضول الرسمية في تغطيتها لزيارة هرتسوغ، إلا ذرًا للرماد في العيون، فأنقرة تدرك جيدًا أن الرئيس الإسرائيلي بلا صلاحيات، والصلاحيات الفعلية في يد رئيس الوزراء نفتالي بينيت الرافض بشكل مطلق لحل الدولتين.
تراجع تكتيكي
في نظر أنصار الرئيس التركي ومحبيه، فإن حكومته تتجرع السم من أجل مصلحة البلاد والأمة، وأنها مضطرة أن تتراجع خطوة وربما خطوات للوراء وتنحني للرياح القوية التي تعصف بالمنطقة، التي من شأن مواجهتها أن تقتلع أردوغان ونظامه وتعود بتركيا إلى عصر ما قبل “العدالة والتنمية”.
فأردوغان لم يقف متصلبًا ولا متخشبًا أمام التغيرات الضخمة التي تحدث في المنطقة وأدرك جيدًا أفول عقد ثورات الربيع العربي وسقوط مشروع الإسلام السياسي، على الأقل مرحليًا، وعودة الأنظمة السلطوية العتيدة ونهجها الكلاسيكي في التعامل مع القضية الفلسطينية، ومن ثم كان عليه أن يسارع إلى تغيير سياساته والتواؤم مع الواقع الجديد.
ولم يكن انضمام الرئيس التركي لركاب التطبيع مع “إسرائيل”، الذي لطالما انتقد بشدة راكبيه، مفاجئًا في ظل حرص حكومته على تصفير مشاكلها مع جيرانها كافة، ومحاولة إنعاش الاقتصاد المنهك، قبل الانتخابات المصيرية العام المقبل.
لكن يبقى السؤال: هل التطبيع بالنسبة لأردوغان مجرد نهج تكتيكي مؤقت ريثما ينتعش اقتصاده ويتمكن من عبور الانتخابات، أم إستراتيجية دائمة تسعى بها تركيا “الدولة” لتحقيق مصالحها بعيدًا عن القضية الفلسطينية؟
في المقابل فإن الإسرائيليين يحذرون ويشككون في نوايا الرئيس التركي، ويؤكدون استمرار علاقته الوطيدة بحماس، واستعداده الدائم لانتقاد قادة دولة الاحتلال وتوجيه أشد الإهانات لهم، ولعل ذلك يفسر زيارة الرئيس الإسرائيلي منزوع الصلاحيات لأنقرة التي تعتبرها الحكومة الإسرائيلية مجرد زيارة استكشافية لأهداف أردوغان وسياساته المستقبلية تجاه تل أبيب والقضية الفلسطينية.
ثمار التطبيع
المحصلة، أنه لا يمكن القطع بالقول إن الحكومة التركية بقيادة أردوغان تخلت عن القضية الفلسطينية، لكن مساعيها نحو تطبيع علاقاتها مع “إسرائيل” التي تأتي في إطار التغيير الدراماتيكي في سياساتها الخارجية ورغبتها في تصفية خلافاتها والتقارب مع خصومها في المنطقة، ستؤثر بشكل جوهري على موقفها وتعاطيها مع القضية.
ومن المتوقع أن تمضي أنقرة نحو مساعيها في زيادة التبادل التجاري مع تل أبيب إلى 10 مليارات دولار كما أعلن أردوغان، وأن تسعى لإقامة مشروعات الطاقة المشتركة وعلى رأسها مرور خط الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا عبر الأراضي التركية، ولا يمكن لتركيا أن تحقق تلك العوائد الاقتصادية إلا عبر تقديم العديد من الضمانات المطلوبة من الدولة العبرية.
فتل أبيب تدرك جيدًا أن نظام الرئيس أردوغان يواجه معضلة اقتصادية صعبة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية والتشريعية، وبلا شك فإنها تحاول فرض شروطها على الحكومة التركية من أجل المساهمة في إقامة مشروعات عاجلة تساعد على نهوض الاقتصاد التركي المنهك حاليًّا.
وتبدو الحكومة التركية على أهبة الاستعداد للاستجابة للمطالب والشروط الإسرائيلية، التي ربما على رأسها، تخلي أنقرة عن دعم المقاومة الفلسطينية وعدم استضافة قيادات وعناصر حماس وتوقف الانتقادات الحادة من أردوغان لـ”إسرائيل” وقياداتها، والقبول بسياسة أرض الواقع التي تفرضها “إسرائيل” على الفلسطينيين، مع الاكتفاء ببيانات الشجب والإدانة والتمسك بحل القضية الفلسطينية وفق القرارت الأممية.