ترجمة وتحرير: نون بوست
صُدم العالم في البداية لرؤية الصواريخ والقذائف المدفعية تستهدف المباني السكنية في أوكرانيا وطائرات الهليكوبتر المحترقة وتدفق اللاجئين عبر الحدود واستنجاد رئيس البلاد المحاصر في مظهر رثّ بالقادة السياسيين القلقين في الخارج، بينما ينتشر في شوارع البلاد رجال ضخام البنية يرتدون أزياء عسكرية والدبابات المحترقة ومركبات المشاة القتالية. في الأثناء، كانت الشرطة الروسية تفحص هواتف المواطنين في شوارع موسكو بحثًا عن المحادثات المعارِضة للغزو. كان الشعور بالضيق والغضب والثبات رد فعل طبيعي إزاء كل ما يحدث، ولكن حان الوقت للتفكير بشكل استراتيجي والتساؤل عما يتعيّن على الغرب بشكل عام – والولايات المتحدة بشكل خاص – فعله في خضم هذه الأزمة وما بعدها.
قال الجنرال الفرنسي فرديناند فوش ذات مرة إن المهمة الأولى تكمن في الإجابة على سؤال “ما الذي يحدث؟” والإجابة فيما يتعلق بأوكرانيا، كما هو الحال مع معظم القضايا الاستراتيجية الأخرى، أقل وضوحًا مما قد يتصوره المرء. على المستوى الأساسي، يعمل المستبد الروسي على إخضاع دولة حرة ومستقلة – لم يقبل باستقلالها أبدًا – باستخدام أبشع الوسائل الممكنة. لكن هناك قضايا أوسع مطروحة أيضًا.
كانت الحروب الأخرى في حقبة ما بعد الحرب الباردة إما نتاج حرب أهلية أو حركة انفصالية أو ردود فعل انتقامية على عدوان، ولكن هذا لا ينطبق على الهجوم الروسي على أوكرانيا. فهذا العدوان غير مبرر وأهدافه غير محددة ووسائله غير مقيّدة. إنه اعتداء على حُرمة بلد له سيادة وعلى جميع المعايير الدولية المتعارف عليها.
إن النظام العالمي على المحك، وكذلك النظام الأوروبي الأضيق نطاقًا. لم يُخفِ بوتين معارضته الشديدة لحلف الناتو واستقلال الجمهوريات السوفيتية السابقة، ومن المتوقع أن يحاول بعد مهاجمة أوكرانيا فعل الشيء نفسه مع دول البلطيق (وإن كان أقل حدة). لقد أعاد بوتين الحرب في أحلك صورها إلى قارة عاشت وازدهرت إلى حد كبير في سلام لما يقارب ثلاثة أجيال. إن حربه تشكّل تهديدًا لنزاهة الديمقراطيات الليبرالية في العالم وثقتها التي تضررت جراء الخلافات الداخلية والانتكاسات الخارجية.
باختصار، إن الرهانات كبيرة وتنطوي على مخاطر هائلة. والخبر السار أن الديمقراطيات الليبرالية في أوروبا وخارجها تبدي استعدادها للتضامن مع أوكرانيا. ولا يقل دور كل من أستراليا واليابان في الرد على الغزو الروسي أهمية عن دور بريطانيا أو فرنسا.
إن أوكرانيا اليوم لا تشبه تشيكوسلوفاكيا في سنة 1938، ليس فقط لأنها تقاتل بضراوة وإنما أيضًا لأنها تحظى بدعم الديمقراطيات الأخرى ماديًا ومعنويًا. كما أن الوضع هذه المرة مختلف بالنظر إلى أن المعتدي ليس دولة اقتصادها هو الأكثر تقدمًا في أوروبا وإنما أقلها تقدمًا؛ فلا يضم الجيش الروسي قوات دفاعية قوية ومهيبة وإنما هو قوات تعاني قصورًا في القيادة ونقصًا في التأهيل وإن كانت مسلّحةً بشكل جيد وأكثر ميلا لقتل المدنيين بدلا من مهاجمة الأهداف العسكرية.
الاستراتيجية الغربية قائمةً على ثلاث ركائز: دعم عسكري قوي، وفرض عقوبات تشُلّ الاقتصاد الروسي، وبناء تحالف أوروبي قوي عسكريًا
وإخفاق روسيا في تسيير القوات الجوية وتعطلّ المدرعات وتصاعد الدخان من حطام الدبابات وناقلات الجنود المدرعة خير دليل على ضعف الجيش الروسي. وكذلك الحال بالنسبة لقيادة رئيس الأركان العامة ووزير الدفاع الذي خطط لهذه العملية، وهو ما يشكل إخفاقًا تامًا في وجه كل ميزة من مزايا التمركز والتوقيت والتفوق العسكري.
في ظل هذه الظروف، يجب أن يكون للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة الذي يضم دولا ديمقراطية ليبرالية وأوروبية ثلاثة أهداف: يتمثل الهدف الأكثر وضوحًا للاستراتيجية الغربية في تحرير أوكرانيا واستعادة حكومتها ومؤسساتها الحرة وإعادة بناء اقتصادها وضمان استقلالها من خلال تأمين موقعها وتسليحها بشكل جيد ضد أي هجوم مماثل في المستقبل. وسيشمل ذلك قبول انضمام هذا البلد إلى الاتحاد الأوروبي، وفي نهاية المطاف انضمامها إلى حلف الناتو الذي أنقذ العديد من جيرانها من مصير مماثل.
سيتطلب تحقيق هذا الهدف هزيمة القوات الروسية، لكن الأهداف ذات الصلة بروسيا يجب أن تكون أبعد من ذلك. من الناحية المثالية، سينتهي هذا الصراع بالإطاحة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يتحمل مسؤولية فردية ليس فقط من الناحية الأخلاقية وإنما أيضًا على الصعيد السياسي. لم تكن هذه حربا اختيارية فحسب بل حربه المختارة التي شنها بكل شراسة وخبث. ومن شأن سخط النخبة الذي قد يكون في شكل انقلاب من نوع ما أو اضطرابات جماعية أن يؤدي إلى الإطاحة به.
مع ذلك، لا يمكن توقع أي من النتيجتين ولا يبدو أن أيًا منهما وشيكة في الوقت الحالي. فعلى الرغم من أن المعارضين الروس للحرب أظهروا شجاعةً ملحوظة في التنديد بها إلا أن النظام يستغل بمهارة الكراهية المتأصلة في المجتمع تجاه الأجانب والشوفينية من خلال سيطرته الكاملة على وسائل الإعلام الروسية. إن روسيا من نواح كثيرة دولة فاشية فاعلة خاضعة لأيديولوجيا قومية وزعيم قوي. لهذا السبب، إذا لم تندلع ثورة روسية جديدة، يجب أن يتمحور الهدف الغربي حول إضعاف روسيا وشلها عسكريًا وسلبها القدرة على شن هجوم مماثل مستقبلًا، وتركها معزولة ومنقسمة داخليًا إلى حين سقوط حكم بوتين المستبد. لكن استهداف بوتين وحده لا يكفي.
أخيرًا، يملك الغرب فرصة تحويل انهياره وضعفه الديمقراطي إلى قوة وثقة بالنفس. ويعتبر رد أوروبا الحازم على الغزو الروسي خطوةً كبيرةً في هذا الاتجاه، كما هو الحال مع القيادة الأمريكية التي حشدت الكثيرين لمعارضة روسيا ومساندة أوكرانيا. في المقابل، اكتفت الصين بالمراقبة وكذلك إيران والأنظمة الأقل استبدادًا في انتظار تقييم ما إذا كانت هذه الفرص متاحة لها أم أنها محفوفة بالمخاطر. لذلك، ينبغي على القوى الغربية حثّ هذه الأنظمة على تبني وجهة نظرها من خلال النجاحات المرئية التي حققوها. وهناك الجمهور الداخلي أيضًا لا سيما في الولايات المتحدة. فبعد عقد من التأمل العميق للنقد الذاتي للانقسامات الداخلية في الولايات المتحدة، هذه هي اللحظة المناسبة لاستعادة الثقة في المُثل العليا والمعتقدات التي كانت سببا في كون الولايات المتحدة قوية وحرة في آنٍ واحد.
إستراتيجية الركائز الثلاث
لا بد أن تكون الاستراتيجية الغربية قائمةً على ثلاث ركائز: دعم عسكري قوي ولا مشروط للقوات الأوكرانية النظامية وغير النظامية، وفرض عقوبات من شأنها أن تشُلّ الاقتصاد الروسي، وبناء تحالف أوروبي قوي عسكريًا يمكنه تأمين الحدود مع روسيا طالما أن هذا البلد لا يزال يمثل تهديدًا.
إن الوسائل المتاحة واضحة وإن كانت طريقة استغلالها مبهمة. والأمر الأكثر وضوحًا هو تسليح أوكرانيا – الذي بدأ بالفعل – باعتباره واجبًا أخلاقيًا. فعندما يكون الناس على استعداد للقتال من أجل حريتهم ضد عدو من الواضح أن أساليبه وأهدافه شريرة، فإن الغرب مدين بدعمه الفعال لأولئك الذين يحملون السلاح. ولكن هذا الدعم أيضًا يمثّل ضرورة استراتيجية هدفها عرقلة الجيش الروسي وإضعاف موقف بوتين.
من المحتمل أن يحقق دعم الجيش الأوكراني والتمرد المتواصل في حال سقوط المدن الأوكرانية نجاحًا استثنائيًا. مساحة أوكرانيا أكبر من فرنسا وأصغر قليلا من ولاية تكساس الأمريكية، مع مناطق عمران وغابات، وجبال في الغرب ومئات الآلاف من الرجال والنساء المسلحين وإمدادات محتملة لآلاف المحاربين القدامى الأجانب وإرادة قتال يغذّيها حب الوطن والغضب، وكل هذا يجعلها بلدًا تقريبًا لا يُقهر في حال تسلح بشكل كاف، ومفتاح نجاح ذلك هو التفكير وفقًا للمقياس الصحيح.
يعرض ميخائيل فيكرز، الذي كان العقل المدبر لبرنامج وكالة المخابرات المركزية الذي دعم الحملة ضد السوفييت في أفغانستان، الدروس المستفادة من تلك الحملة في مذكراته القادمة بعنوان “بكل الوسائل المتاحة”. يجادل فيكرز بأنه يمكن لشعب مسلح بشكل جيّد ويملك العزم أن يهزم قوة عنيفة عظمى – علمًا بأن روسيا لم تعد قوية مثلما كانت في السابق – لكن أهم شيء هو التحرك على نطاق واسع وعاجل لدعم مثل هذا التمرد.
يبلغ طول حدود بولندا مع أوكرانيا وحدها 330 ميلا وسيكون من المستحيل على روسيا إغلاقه.
تغيّرت الأوضاع في أفغانستان خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًا عندما زاد تمويل خطة العمل السرية لأفغانستان من 60 مليون دولار في السنة المالية 1985 إلى 250 مليون دولار في العام التالي، وذلك بفضل الدعم السعودي. ومن اللافت للنظر أن وكالة المخابرات المركزية لم تطلب هذه الزيادة وربما عارضتها أيضًا، لكن الغلبة كانت لأنصار الكونغرس بقيادة تشارلي ويلسون. في غضون أقل من عام، انتقل البرنامج من توفير 10 أطنان مترية من الأسلحة إلى توفير ما يتجاوز ستة أضعاف ذلك، وفي غضون عام آخر، تضاعف مجموع الأموال والموارد.
لم يقتصر الأمر على الحجم الهائل للدعم ذلك أن اتساع نطاقه قد أحدث فرقا كبيرا أيضا، بما في ذلك أنظمة الدفاع الجوي المحمولة مثل صواريخ ستينغر والمدافع الرشاشة الثقيلة وبنادق القنص وتكنولوجيا الاتصالات الآمنة، ومعها تغير الهدف من الإضرار بالجيش الأحمر إلى إلحاق الهزيمة به.
الظروف في أوكرانيا مواتية أكثر مما كانت عليه في أفغانستان، ففي بولندا والعديد من دول خط المواجهة الأخرى يحظى الغرب بحلفاء أكثر موثوقية مما كانت عليه باكستان خلال الحرب الأفغانية. يبلغ طول حدود بولندا مع أوكرانيا وحدها 330 ميلا وسيكون من المستحيل على روسيا إغلاقه. وفي أوكرانيا نفسها، لدى الغرب سكان مطلعون للغاية على التقنيات المتطورة ويمكنهم التعامل مع أي أسلحة متطورة مطلوبة.
في مواجهة الجيش الروسي الحالي، يجد هؤلاء السكان أنفسهم أمام قوة سبق أن تلطخت أيديها بالدماء بالفعل وأثبتت أنها غير كفؤة من الناحية اللوجستية وتفتقد للحافز. ونظرًا لأن الروس يرسلون المركبات المدنية لإمداد قواتهم التي تقطعت بها السبل، بما في ذلك “القافلة” التي يبلغ طولها 40 ميل شمال كييف التي توصف بأنها معسكر لأسرى الحرب الذين لا يتلقون أي حصص إعاشة من قبل الخاطفين، يجد الغزاة أنفسهم أمام صعوبات لوجستية قد يبدو من المستحيل التغلب عليها. إن الموارد اللازمة لتجهيز الأوكرانيين موجودة، وبالتالي تعتمد المهمة على القيام بذلك على أكبر نطاق ممكن وبسرعة، وهذا هو الدرس المستخلص مما حدث في أفغانستان: أهمية مستوى الدعم ومدى استعجاليته.
يُعرف كارل فون كلاوزفيتز بقوله إن الاستخدام الأقصى للقوة لا يتعارض بأي حال من الأحوال مع الاستخدام المتزامن للعقل، وهذا ينطبق على أوكرانيا حيث تلعب التقنيات المدنية المعدلة (منها الطائرات المسيّرة الانتحارية) وميليشيات قراصنة الكمبيوتر المدنيين دورا في الدفاع عن البلاد. ومفتاح نجاح هذه المهمة هو إطلاق العنان الكامل للعمليات السرية الإبداعية والمواهب العسكرية التي تمتلكها الولايات المتحدة وبعض الدول مثل المملكة المتحدة وبولندا بوفرة.
للركيزة الثانية للاستراتيجية الغربية، وهي العقوبات، تأثير بكل المقاييس على الاقتصاد الروسي، والذي لا يتجاوز حجمه حجم الاقتصاد الإيطالي تقريبًا. وكما هو الحال مع المساعدة المادية لأوكرانيا، فإن مفتاح نجاح هذه الاستراتيجية هو السرعة والنطاق لأن الهدف هو زعزعة النظام السياسي وشل الاقتصاد وليس فقط الضغط عليهما. عبّر وزير المالية الفرنسي عن ذلك في كلامه قبل أن يتراجع، وقد كان محقًا في المرة الأولى. إن المطلوب للتصدي لروسيا ليس الأدوات العسكرية وإنما الاقتصادية، دون التخلي عن تطبيق العديد من ديناميات الحرب – التي تتضمن الاستجابة وردود فعل الخصم والعواقب غير المتوقعة والتأثيرات من الدرجة الثانية والثالثة والأضرار الجانبية.
لن تجد روسيا صديقًا متعاطفًا في الصين، لأن هذه السمة غير معروفة في الحكومة الصينية أو الأعمال التجارية.
حسب ما أشار إليه عدد من المراقبين، مثل إدوارد فيشمان، من الممكن تطبيق هذه العقوبات حتى على إنتاج الطاقة الروسي مما يدفع العملاء إلى خفض مشترياتهم بشكل تدريجي للحد من المكاسب التي تحصل عليها روسيا من الزيادات قصيرة الأجل في أسعار النفط والغاز الطبيعي. علاوة على ذلك، سيكون للعقوبات نتائج أوسع بكثير، على غرار مغادرة الشركات التي تتخلى عن أعمالها في روسيا مثل مايكرسوفت.
سواء كان ذلك بسبب الخوف من مخالفة القانون أو العقوبات المستقبلية أو الضغط من الموظفين والمساهمين، ستغادر الشركات الغربية روسيا لا محالة ويجب تشجيعها على القيام بذلك. لن تتمكن الشركات الصينية، التي تعتمد بدورها على الخبرة ورأس المال الفكري الغربي، من توفير بديل لكل ما قدمه الغرب لروسيا؛ ولن ترغب في مواجهة نظام العقوبات الذي سيجبرها على الاختيار بين الاقتصاد الروسي المتواضع والأسواق المزدهرة في الولايات المتحدة وأوروبا. لن تجد روسيا صديقًا متعاطفًا في الصين، لأن هذه السمة غير معروفة في الحكومة الصينية أو الأعمال التجارية. في الواقع، يجب تذكير الشعب الروسي باستمرار باستعداد قادته لتحويل البلاد إلى دولة تابعة لبكين رغم حقيقة أنهم سيصبحون منبوذين في الأراضي التي يتوقون لزيارتها ويأملون استهلاك منتجاتها وتقنياتها، لكنهم لن يستطيعوا ذلك.
إعادة التسلح لها عنصر أيديولوجي أيضًا يتمثل في اختراق فقاعة المعلومات التي بناها نظام بوتين في روسيا وتقديم الحقيقة كترياق مضاد للدعاية القومية التي يروج لها
تتمثل الركيزة الأخيرة للاستراتيجية الغربية في بناء منطقة جليدية شرقية منيعة لدعم حلف شمال الأطلسي، وعلى وجه الخصوص، تعزيز الحلفاء في خط المواجهة وأولئك الذين يقودون الدفاع عن القارة ضد روسيا. بولندا هي الدولة الرئيسية لتحقيق ذلك نظرًا لتصميمها غير المحدود على مواجهة روسيا وجيشها المؤهل والمعتاد على العمل إلى جانب الولايات المتحدة. كما يتضّح مدى استعدادها للإنفاق على الدفاع عن نفسها من خلال قرارها الأخير بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى 3 بالمئة من ناتجها المحلي الإجمالي، بدلا من 2 بالمئة التي فرضها الناتو، وشراء 250 دبابة أمريكية من طراز إم1.
يتمثل الدور الأمريكي جزئيًا في الحفاظ على وجود مرئي على الخطوط الأمامية، إذ حان الوقت الآن لنشر القوات الأمريكية المدرعة بشكل دائم في دول البلطيق وبولندا كرادع، ولكنه أيضًا جزء من الثمن الذي ستدفعه روسيا مقابل عدوانها. هناك مهمة أخرى لا تقل أهمية وهي المساعدة في تسليح الدول التي تسعى للدفاع عن نفسها بسرعة: وذلك في إطار قانون الإعارة والاستئجار 2.0، حسب ما أطلق عليه البعض، في إشارة إلى برنامج المساعدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية. هذا يعني مرة أخرى لجوء الولايات المتحدة إلى ترسانة الديمقراطية التي تتعهد من خلالها بمدّ الدول الأوروبية الصغيرة بالأموال التي تحتاجها للحصول على المعدات العسكرية اللازمة للدفاع عن نفسها ضد العدوان الروسي، فهي تمتلك مخزونًا كبيرًا من المعدات العسكرية ويمكنها التحرّك لتقوية حلفائها الأوروبيين.
إن إعادة التسلح لها عنصر أيديولوجي أيضًا يتمثل في اختراق فقاعة المعلومات التي بناها نظام بوتين في روسيا وتقديم الحقيقة كترياق مضاد للدعاية القومية التي يروج لها، وقد كانت هذه المهمة جزءًا من الحرب الباردة عن طريق إنشاء مؤسسات قادرة على تحقيقها، بما في ذلك صوت أمريكا وراديو أوروبا الحرة. والآن، رغم اختلاف الأدوات والمنظمات في عالم منصات التواصل الاجتماعي الجديد، إلا أن المهمة لم تتغير. ففي حين تم تجنيد المذيع البارع إدوارد آر مورو من قبل الرئيس جون كينيدي لإنشاء وكالة المعلومات الأمريكية لهذا الجانب من النضال، تتوفر الآن أدوات مشابهة للخدمة الحكومية في عصر تويتر وفيسبوك وتيك توك وإنستغرام، هذا بالإضافة إلى العديد من الأفراد والمنظمات التي ستخوض تلك المعركة جنبًا إلى جنب مع المؤسسات الرسمية.
في النهاية، تتطلب الاستراتيجية نظرية النصر – التي تشرح سبب اعتقادنا بأن الأمور ستسير على النحو الذي نتمناه. فالمواجهة مع روسيا لن تنتهي بالغزو أو الاحتلال الغربي لها، أي أنها لن تنتهي بإعادة إعمار البلاد كما حدث مع ألمانيا وإيطاليا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية. وبدلًا من ذلك، يجب أن يؤدّي الطريق الذي يسعى إليه الغرب إما إلى انهيار نظام بوتين أو إلى إضعاف طويل المدى لقدرة الدولة الروسية ورغبتها في شن حرب عدوانية، بحيث تكون النتائج بالطريقة التي وصفها إرنست همنغواي الإفلاس تدريجيًا ثم بشكل مفاجئ. وعلى الرغم أنّ المسار واضح، إلا أنه لا يمكن التنبؤ بمدى هشاشة الجيش والاقتصاد الروسي، وقد يستغرق الانهيار أسابيع أو شهورًا أو سنوات، لذا فإن المثابرة ستكون ضرورية في مواجهة النكسات والضربات المضادة التي لا مفر منها.
إذا لم تنهر الحكومة الروسية ببساطة ـ وربما حتى إذا حدث ذلك ـ سيكون هناك حاجة إلى المفاوضات، وإذا كانت موسكو تشعر الآن بالضغط من العقوبات والخسائر والصدمة النفسية من إخفاقاتها الأولية كما هو متصور، فقد تكون التصفيات جارية. في مرحلة ما، قد يرغب الغرب إلى جانب أوكرانيا في تقديم “مخرج” لروسيا خاصة بعد خروج بوتين من السلطة؛ لكن لا جدوى من القيام بذلك. إن الدول تماما مثل الأفراد لا تقبل المساعدة إلا حين تكون في حاجة لها، ومن جهتها لم تُظهِر روسيا حتى الآن أي مؤشر على أنها تبحث عن مخرج من ورطتها. إنه تكتيك سوفيتي قديم، أظهرت الولايات المتحدة على وجه الخصوص ضعفًا قاتلًا تجاهه، لحثّ المعارضين على البدء في التفاوض ضد أنفسهم. وهم الآن في انتظار دعوة الروس لتقديم المقترحات الأولى.
يتمتع بوتين بميزة واحدة فقط بصفته ضابطًا سابقًا في المخابرات السوفياتية وهي إتقانه لفنون المراوغة مع أعدائه، سواء كانوا منشقين أو قوى أجنبية.
بالنسبة للولايات المتحدة، لا يتطلب العقد المقبل مجرد تحركات أوليّة اتخذتها إدارة بايدن، بل إعادة تعديل أكثر عمقًا للاستراتيجية، وفيما يتعلّق بالوثيقة الاستراتيجية الدفاعية الجديدة المعمول عليها منذ أشهر، فيجب وضعها جانبًا وإعادة صياغتها من أجل عالم مختلف تمامًا. لن يكون هناك تحوّل واضح للتركيز على الصين، وبدلاً من ذلك سيتعين على الولايات المتحدة ـ كما كانت في معظم القرن العشرين ـ أن تكون قوّة خارقة عن طريق تعزيز قوّتها وإدارة التحالفات في كل من أوروبا ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ، الأمر الذي سيتطلّب بدوره ميزانيات دفاعية أكبر مع إجراء تغييرات في النهج المُتّبع.
سيتعيّن على الإدارات الأميركية الإقرار بأولويّة الأمن القومي أكثر من أي وقت مضى. وفي حين أن هذا لا يُنقِص من أهمية الإصلاح في الداخل، فإن الأمن القومي يجب أن يكون في طليعة التفكير الأمريكي، وسيتعين على الأمريكيين أن يسمعوا من قادتهم سبب حدوث ذلك. وبما أن بايدن غير فصيح بما يكفي للقيام بذلك بشكل كافٍ بمفرده، فإنه سيحتاج إلى تجنيد بدائل من كلا الحزبين لمساعدته، والاستفادة من احتشاد القيادة السياسية للحزب الجمهوري في الكونغرس من أجل القضية الأوكرانية.
هناك العديد من المخاطر المحتملة التي تشوب الصراع مع خصم عديم الضمير وربما مختل إلى حد ما، لكن جميع الاحتمالات تصب في صالح الغرب، في ظل شجاعة الشعب الأوكراني واستعداده للقتال حتى النهاية وتوّحد الغرب وعزمهم على مساعدته. ومع أنّ الاقتصادات الغربية هي الأكثر ثراءً ومرونةً وتقدمًا بلا مُنازع، إلا أنّ الجيوش الغربية تدهورت بعد نهاية الحرب الباردة إلى درجة مروعة، لكن نزع سلاحها لا يمكن مقارنته بحالة الانقسام التي كانت سائدة في ثلاثينيات القرن الماضي. والآن، لا يواجه الغرب تحديًا أيديولوجيًا يمكن مقارنته بالنازية أو الشيوعية، وإنما يواجه شكلاً شريرًا من القومية المتجذرة في بلد شهد وفاة مليون شخص السنة الماضية ـ أكثر من عدد المواليد ـ ومُثقل باقتصاد فاسد ومحدود، ويقوده ديكتاتور هرِم ومعزول.
يتمتع بوتين بميزة واحدة فقط بصفته ضابطًا سابقًا في المخابرات السوفياتية وهي إتقانه لفنون المراوغة مع أعدائه، سواء كانوا منشقين أو قوى أجنبية. يعد الخوف هدف وسلاح موسكو الرئيسي، وقد أظهر القادة الروس براعةً في استخدامه. لكن نجد في مواجهة الخوف الشجاعة وهي الترياق الأقوى الذي يُطبّقه الأوكرانيون اليوم – وغيرهم في الماضي. وكما قال وينستون تشرشل فإن “الشجاعة هي الفضيلة التي تجعل كل الفضائل الأخرى ممكنة؛ إذ بغيابها لا يمكن للغرب أن ينجح، وبوجودها لا يمكن أن يفشل”.
المصدر: ذي أتلانتيك