تصاحب الحملة العسكرية في أوكرانيا رقابة إعلامية في الداخل الروسي، اتخذت منحى متشددًا بعد أيام قليلة من بداية الحرب، فقد أوقفت سلطات موسكو بث الإذاعة العريقة “إخَ ماسكفي” (صدى موسكو)، نفس القرار شمل قناة “دَجْديا” أي المطر، بسبب بثهما لأخبار عن تصرفات الجنود الروس، وصفت بأنها “معلومات معروف أنها خاطئة، وتدعو إلى التطرف والعنف ضد مواطني الاتحاد الروسي”.
في لقاء دام ربع ساعة، قرر مجلس إدارة “صدى موسكو” تصفية هذه الإذاعة المستقلة وموقعها على الإنترنت، يوم 3 مارس/آذار الحاليّ، بحضور 3 أشخاص لا أكثر هم: رئيس إذاعة “غاز بروم ميديا” يوري كوستين ورئيس مجلس إدارة “صدى موسكو” يوليا غولوبيفا وليونيد سافكوف وهو عضو في مجلس الإدارة.
كلمة “حرب” محظورة
لم يبدأ الهجوم الحاسم على وسائل الإعلام الروسية في مارس/آذار 2022، لكن قبل ذلك بوقت طويل، كما يؤكد الصحافيون في هذه المحطة الإذاعية الأقدم في روسيا الحديثة، أنها لطالما كانت هدفًا لهجمات المحافظين والبروباغاندا التليفزيونية، شأنها شان العديد من وسائل الإعلام الأجنبية في روسيا التي يتم اتهامها عادة بـ”العمالة الأجنبية”، وأحيانًا تُصنف كمنظمات غير مرغوب بها، ورغم ذلك لم يتوقع الكثيرون في روسيا إيقاف بث “صدى موسكو” بعد أكثر من ثلاثة عقود من البث.
وبما أن كلمة “حرب” حظرتها السلطات الروسية، استبدلها صحفيو “صدى موسكو” بـ”العملية العسكرية” وعبارات أخرى على الهواء، ويؤكد الصحفيون أنه “من المستحيل منع الضيوف من التعبير عن مواقفهم والتحدث بحرية على البث المباشر”.
صحيفة “نوفايا غازيتا” المهددة أيضًا بالإغلاق بسبب انتقادها للكرملين، اعتبرت في بيان لها أن إيقاف بث إذاعة “إخَ ماسكفي” وقناة “دَجْديا” بمثابة تكميم أفواه عشرات الملايين من المواطنين الروس، مؤكدة أن هذا الفعل يجسد عدوانًا مكشوفًا وغير مبرر للرقابة التي تصاحب العملية العسكرية في أوكرانيا، وأضاف البيان “مزاعم مكتب المدعي العام غير مقرونة بأي أدلة، ولا أساس لها من الصحة، ومهينة للصحفيين والمواطنين الروس”.
العديد من وسائل الإعلام، بما فيها “نوفيا غازيتا” أي الصحيفة الجديدة وقناة “دَجْديا” وموقع “ميديا زونا”، طُلب منها حذف المواد التي وصفت ما يحدث في أوكرانيا بالحرب، بناءً على توجيه من “روسكومنادزور” وهي الدائرة الاتحادية لرقابة الاتصالات وتقنية المعلومات والإعلام، التي تصر على أن ما يحدث على أراضي أوكرانيا “عملية عسكرية خاصة”.
تقول روسكومنادزور إن المعلومات التي نُشرت عن قصف الجيش الروسي للمدن الأوكرانية ومقتل المدنيين نتيجة لأعمال الجيش الروسي، وكذلك المواد التي تسمي العملية الجارية فيها هجومًا أو غزوًا أو إعلان حرب، “هي معلومات غير موثقة، وتناقض واقع الحال” حسب هيئة الرقابة الروسية.
عقوبات قاسية.. السجن 15 عامًا
وإلى حيز التنفيذ دخل تعديل الفقرة الثالثة من القانون الجنائي، المتعلقة بتشديد المسؤولية على “نشر معلومات زائفة عن تصرفات القوات المسلحة الروسية”، لذلك أصبحت العديد من وسائل الإعلام ملزمة بإزالة المواد التي لا تتماشى مع هذه الفقرة من القانون، الذي يفرض عقوبات يمكن أن تصل إلى مليون ونصف روبل (أكثر من 10 آلاف و500 دولار) فيما قد تصل العقوبات السالبة للحرية إلى السجن 15 عامًا.
قال رئيس مجلس الدوما فياتشيسلاف فولودين: “معايير العمل بهذا القانون من المحتمل أن تُخضع للعقاب، بقسوة شديدة، أولئك الذين كذبوا وأدلوا بتصريحات تشوه سمعة قواتنا”، وشدد على ذلك بقوله “أود أن يفهم الجميع أننا نقوم بذلك من أجل حماية جنودنا وضباطنا، ومن أجل حماية الحقيقة”.
يصر الكرملين على وصف ما يحدث في أوكرانيا بـ”عملية عسكرية خاصة لحفظ السلام”، كما يشير رئيس مجلس الدوما إلى أنه إذا لم تقدم روسيا على شن هذه العملية، “كان حلف الناتو هو من سيبدأ الحرب على الأراضي الأوكرانية، في المقام الأول، على خط التماس مع جمهوريتي دونيتسك ولوغانسك”، ووفقًا لفولودين “لو اندلعت هذه الحرب كانت ستؤدي إلى وقوع ملايين الضحايا وكارثة إنسانية”.
اعتقال المتظاهرين ضد الحرب
بطبيعة الحال يعتبر أي شكل من الاحتجاج ضد الغزو الروسي لأوكرانيا محظورًا من السلطات الروسية التي صعّدت من حملتها على المحتجين السلميين الذين من المحتمل أن يتعرضوا لملاحقات قضائية، فقد أسفرت الاحتجاجات التي شهدتها 65 مدينة، يوم 6 مارس/آذار الحاليّ، عن اعتقال أكثر من 3300 شخص وفقًا لوزارة الشؤون الداخلية، فيما تشير مصادر إعلامية إلى أن عدد المعتقلين تجاوز 5000 شخص في عدد من مدن الاتحاد الروسي.
وفقًا لشهادات معتقلين أكدوا تعرضهم لسوء المعاملة والإذلال والإهانة القاسية من الشرطة، وفي اليوم العالمي للمرأة، تزعمت النساء وقفةً احتجاجيةً مناهضةً للحرب، في سان بطرسبورغ وموسكو وعدة مدن روسية، أسفرت عن اعتقال عشرات المحتجين، ليتجاوز عدد الموقوفين 13 ألف شخص في أكثر من 150 مدينة منذ بدء العملية العسكرية في 24 فبراير/شباط 2021، بحسب صحيفة نيويورك تايمز.
إنه عام أسود للحرية في روسيا التي تتأخر إلى المركز 149 في التصنيف العالمي لحرية الصحافة، وفقًا لآخر تقرير لمنظمة مراسلون بلا حدود برسم سنة 2021، ونتيجة لتصاعد التضييق على الحريات، من الوارد جدًا أن تنتقل روسيا من الوضع الصعب إلى الخطير جدًا مثل جارتها الصين حيث تعيش حرية التعبير سقوطًا حرًا.
جزيرة كبرى معزولة
حاليًّا من غير الممكن الولوج إلى فيسبوك وتويتر خارج الشبكة الخاصة الافتراضية VPN، بعد أن فرضت هيئة تنظيم الاتصالات في روسيا قيودًا جزئيةً على تصفح المنصتين، تحت ذريعة فرضهما لرقابة وصفت بالمتشددة على المحتوى الذي يروج لوجهة النظر الروسية، ليتأكد الحظر التام يوم الجمعة 4 مارس/آذار الحاليّ.
علاوة على ذلك، هددت موسكو بحظر النسخة الروسية من ويكيبيديا، بسبب استخدم كلمة “غزو” في عنوان لمقال عن العملية العسكرية، يتضمن معطيات عن وقوع عدد كبير من القتلى في صفوف الجيش الروسي، وكذلك المدنيون بمن فيهم الأطفال، فيما تتحفظ روسيا على إعلان أرقام محددة للخسائر في صفوف جيشها، غير أنها تقول إن الخسائر تقل بكثير مقارنة بما يتم الترويج له.
كذلك أعلنت منصة نتفليكس عن وقف جميع خدمات البث التي يشترك فيها نحو مليون عميل في روسيا إلى أجل غير مسمى، ويأتي هذا الانسحاب تجنبًا لامتثال المنصة للضغوط الروسية من أجل بث 20 قناة حكومية مجانية، بموجب القانون المعروف في البلاد باسم “فيترينا تي في” الذي يتطلب أكثر من 100 ألف مشترك لنقل القنوات المملوكة للدولة.
هذه التقييدات المتصاعدة تحول روسيا إلى جزيرة كبرى معزولة عن العالم، في عصر يعتبر فيه انفتاح الدولة وشعبها شرطًا للنهضة القوية، بينما يحرم الانغلاق المجتمعات من صناعة المستقبل، وإطالة أمد الحرب في أوكرانيا تُفقد الروس فرصهم التي كانت متاحة للانعتاق من “التمحور حول الذات” الذي ظل مستمرًا منذ انهيار الاتحاد السوفيتي لأكثر من ثلاثة عقود.