في 30 نوفمبر/تشرين الثاني عام 1939 وبلغة خطاب تعلوها العنجهية السلطوية، أصدر الرئيس السوفيتي جوزيف ستالين (1878-1953)، أوامره بإعلان الحرب على فنلندا، تلك الدولة الصغيرة التي تعاني من نقص واضح في الإمدادات العسكرية والاقتصادية، لكنها كانت وثيقة الصلة بالسلطات الألمانية إبان عهد أدولف هتلر.
كان السوفييت ينظرون إلى فنلندا على أنها الخاصرة الرخوة التي من الممكن أن تكون منصةً لاستهداف بلادهم، لا سيما في ظل النزاع بينهم وبين الألمان، وعليه كان لا بد من تأمين تلك المنطقة وإجهاض أي مساعي غربية لاستخدامها كقاعدة لتوجيه ضرباتهم للاتحاد السوفيتي.
الهدف المعلن ابتداءً من تلك المعركة كان إعادة ترسيم الحدود بين لينينغراد عاصمة السوفيت وهلنسكي عاصمة فنلندا، وتأمين العمق السوفيتي من أي محاولات أوروبية، وفي ظل الفوارق الهائلة بين جيشي البلدين، تعامل السوفييت مع تلك المواجهة كنزهة خلوية للجنود، سرعان ما سينتهوا منها بسقوط هلنسكي في ساعات معدودة، لكن الأمور لم تكن كما أرادها أبناء ستالين، إذ تكبدوا خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات لم يتلقوها في حرب سابقة.
عُرفت تلك الحرب بـ”حرب الشتاء” واستمرت 10 أشهر، بدأت بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب العالمية الثانية في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1939، وانتهت بمعاهدة موسكو للسلام في 13 مارس/آذار 1940، وكان من بين آثارها أن تم طرد الاتحاد السوفيتي من عصبة الأمم (الأمم المتحدة حاليًّا).
أجواء ما قبل الحرب
كانت فنلندا ضمن الإمبراطورية الروسية قبل أن تحصل على استقلالها مطلع عام 1918 كأحد إفرازات الثورة البلشفية في روسيا 1917، وشهدت العلاقات بينها وبين الاتحاد السوفيتي موجات من التوتر إثر الشكوك التي تسيطر على كل دولة إزاء الدولة الأخرى، فالفنلنديون كانوا يتخوفون دومًا من مساعي السوفييت لاحتلالهم مرة أخرى، فيما كانت الحكومة الروسية تتوجس من نوايا فنلندا فتح حدودها لألمانيا النازية لاستهداف بلادها عسكريًا.
وخلال الفترة بين 1918 و1922 وقعت العديد من الاعتداءات بين البلدين، فقد شنت القوات الفنلندية أكثر من هجوم داخل الأراضي السوفيتية، فيما عرفت تاريخيًا باسم (الحروب الروسية الفنلندية)، وهو ما كان له أثره الكبير في توتير الأجواء بين البلدين بصورة حولتهما من جارتين إلى خصمين يتربص كل منهما بالآخر.
وفي تلك الأثناء حاول الاتحاد السوفيتي إبرام معاهدة اتفاق مع الجارة الفنلندية تتضمن تأجير بعض أراضي الأخيرة لبناء قواعد عسكرية سوفيتية نظير منح هلنسكي أضعاف مساحة الأرض التي تطلبها روسيا، غير أن الحكومة الفنلندية رفضت هذا العرض، وفي 23 أغسطس/آب 1939 وقع الاتحاد السوفيتي وألمانيا معاهدة عدم الاعتداء، مع إعادة ترسيم مناطق النفوذ مرة أخرى، لتصبح فنلندا ضمن منطقة النفوذ السوفيتي، وهو ما تم رفضه فنلنديًا لتعلن الدولة الصغيرة حالة التعبئة العامة ضد السوفييت بعدما اعتبرت موقف الغرب تخليًا عنها.
شن الجيش الفنلندي هجومًا عسكريًا ضد مدينة ماينيلا السوفيتية، فقتل 4 عسكريين سوفييت وأصاب 9 آخرين بجروح، الأمر الذي استفز الحكومة السوفيتية التي بدورها أرسلت مذكرة احتجاج رسمي لنظيرتها الفنلندية في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1939، إلا أن التلكؤ الفنلندي في التحقيق في تلك الحادثة دفع السوفييت إلى شن حرب كاملة وحددت لذلك موعدًا في الثامنة صباح 30 نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام.
حرب الشتاء
استيقظ الفنلنديون فجر هذا اليوم على صوت القذائف السوفيتية التي بدأت تنهمر على مدينة هلنسكي الهادئة، ودون إنذارات مسبقة ولا تهديدات أولية، هجم السوفييت بكامل قواتهم من كل الجهات وبجيش أولي قوامه يزيد على 400 ألف جندي، مدججين بشتى أنواع الأسلحة والعتاد في مواجهة جيش لا يمتلك عُشر ما يمتلكه نظيره السوفيتي.
بداية الأمر ظن ستالين أن الحرب رحلة عابرة لتمرين الجيش السوفيتي على القتال استعدادًا لأي مواجهات مستقبلية، في إشارة إلى مؤشرات التوتر التي أعقبتها الحرب العالمية الثانية، لكن الغرور الذي سيطر عليه أفقده الكثير من الدقة في وضع حسابات الحرب وتوازناتها.
مثلت المقاومة الشرسة لفنلندا صدمةً قويةً لستالين وقادة جيشه، لا سيما بعد انضمام عشرات آلاف الشباب الفنلندي لصفوف الجيش، فيما لجأ السكان إلى إستراتيجيات عدة حالت دون تقدم السوفييت وحسمهم للمعركة في الوقت والمكان المحدد سلفًا من القيادة الروسية.
يومًا تلو الآخر، فوجئ الجيش السوفيتي بالمدن الفنلندية خالية من سكانها الذين هربوا منها وأخلوها من الأطعمة ومياه الشرب ومصادر الطاقة، حتى تحولت إلى ديار خربة، كان ذلك في وقت الشتاء القارس، حيث الثلوج قد غطت أرجاء البلاد، وتعطلت سبل الإمداد، ما أوقع الروس في فخ دفعوا ثمنه غاليًا فيما بعد.
بلغة الأرقام العسكرية فالكفة تميل حتمًا للسوفييت، إذ بلغ إجمالي الجيوش الروسية الأربع التي شاركت في تلك الحرب قرابة مليون مجند، فضلًا عن أضعافهم على قائمة الاحتياط، مقابل 300 ألف جندي فنلندي، ما ساعد السوفييت على عمل كماشة على العاصمة هلنسكي من الجبهة الشمالية الغربية التي شاركت فيها قوات برية وأخرى بحرية فيما عرف بأسطول بحر البلطيق السوفيتي وأسطول بحيرة لادوغا، وهو ما دفع الجيش الفنلندي للانسحاب تدريجيًا حفاظًا على حياة جنوده.
المقاومة.. السلاح الوحيد في مواجهة الصمت الدولي
لم يحرك المجتمع الدولي ساكنًا إزاء تلك الحرب رغم تناقل الأنباء إلى عواصم أوروبا عن سقوط عشرات آلاف الجنود في تلك المواجهات غير المتكافئة، وهو ما دفع الشعب الفنلندي إلى الزود بنفسه عن استقلال بلاده في مواجهة الغزو السوفيتي دون التعويل على أي مواقف دولية.
وبأسلحة بدائية بدأ الفنلنديون في الإعداد للمواجهات، وذلك عبر قنابل زجاجات المولوتوف الحارقة التي كبدت السوفييت خسائر فادحة، وأسقطت مئات الدبابات في أيام معدودات، كذلك استخدام جذوع الأشجار لعرقلة جنزير الدبابة ما يصيبها بشلل تام في الحركة ويجعلها صيدًا سهلًا لجنود المقاومة.
هذا التصدي اللافت أزعج القيادة السياسية في لينينغراد فجاءت التعليمات بشن هجوم جماعي بأعداد كبيرة على المناطق المأهولة بالسكان، في محاولة لترهيب الفنلنديين عبر سياسة الأرض المحروقة، لكن أعداد القتلى المتزايدة من الجانبين كانت أكبر من المتوقع.
حاول الجيش السوفيتي اقتحام العاصمة من أكثر من اتجاه وعلى مدار مرات عدة، مستخدمًا في ذلك كل الأسلحة المتطورة في ذلك الوقت، لكن البرد الشديد (درجات الحرارة كانت تصل إلى 50 درجة تحت الصفر) والأجواء الملبدة بغيوم الثلوج، وانضمام القوات الرديفة لجيش المقاومة، كل ذلك عرقل تقدم السوفييت، بل أطاح بهم في كثير من المدن ليتساقطوا واحدًا تلو الآخر، في مواجهة جنود فنلندا المعتادين على تلك الأجواء والمتمرسين للقتال فيها.
ومن المشاهد التي تناقلتها بعض الروايات التاريخية لتلك الحرب، ما سمي بـ”حرب السجق”، تلك الرواية التي تشير إلى أنه وبينما كان الجنود الفنلنديون يطهون طعام “السجق” لملء الأمعاء الخاوية من البرد والتدفئة بنيرانها، إذ بكتيبة روسية هاجمتهم وكانت الأرض مهيأة تمامًا لتحقيق نصر كبير، لكن الجوع الذي حل بهم والبرد الذي تمكن منهم دفعهم للهجوم على السجق والتدفئة بالنار المشتعلة حوله، متناسين المعركة برمتها.
هجم السوفييت على وجبات السجق التي قيل إنها كانت كافية لألفي جندي، ورفضوا مناشدات وأوامر القادة بالعودة للمعركة وترك الطعام، لكن الجوع كان أقوى من إرادة تنفيذ التعليمات، وهو ما أعطى الفرصة للجيش الفنلندي لإعادة ترتيب صفوفه مرة أخرى لينقض على القوات السوفيتية ويذيقهم مرارة الهزيمة، فيما استسلم أكثر من 1500 مجند روسي وفر قرابة 5 ألاف خارج حدود فنلندا.
انتصار سوفيتي بطعم الهزيمة
الفوارق الكبيرة بين الجيشين لعبت دورًا كبيرًا في حسم تلك الحرب، ورغم الدعم الدولي الذي جاء متأخرًا للجيش الفنلندي، فإن القوات الروسية كانت قد سيطرت على العديد من المدن الكبرى، في ظل استمرار المقاومة التي واصلت تكبيدها للخسائر في صفوف السوفييت ما دفع بعض القادة إلى الانسحاب لكن شرطة ستالين قتلتهم قبل الفرار.
ومع تدخل بعض القوى الدولية، اضطر الطرفان لتوقيع هدنة لإنهاء الحرب، كان ذلك في 13 مارس/آذار 1940 فيما عرفت بـ”معاهدة موسكو” إلا أن بنود تلك المعاهدة كانت مجحفة بحق الفنلنديين، إذ سلبت منهم 12% من أراضيهم لصالح السوفييت، وخسرت البلاد أرخبيل كارليا بصورة كاملة، وعددًا من الجزر في الخليج الفنلندي وقسمًا من الأراضي الفنلندية بما فيها مدينة كولايارفي وقسمًا من شبه جزيرتي ريباتشي وسريدني.
سقط من الروس في تلك الحرب – بحسب الرواية الروسية ذاتها – أكثر من مليون جندي، خلال 3 أشهر فقط، رغم أن الأرقام الرسمية الأولية كانت تشير إلى 350 فقط، لكن معظم جثث القتلى توارت خلف الثلوج التي كشفت عن أعدادها الحقيقية بعد انتهاء فصل الشتاء لتنكشف الفضيحة الكبرى، مقابر جماعية لجثث السوفييت بلا هوية، فضلًا عن مئات الدبابات والمدافع التي تم تدميرها.
وفرضت المقاومة الفنلندية نفسها على موائد النقاش الدولي، الذي أبدى تعاطفه الكامل مع حق هذا الشعب في الدفاع عن أرضه، بعد قرابة 10 أشهر من الصمت، فكان القرار بالإجماع بإسقاط عضوية الاتحاد السوفيتي من عصبة الأمم في 14 ديسمبر/كانون الأول 1939، لتفقد لينينغراد حضورها الدولي المميز، هذا بجانب الحظر المفروض على توريد تقنيات الطائرات الأمريكية للاتحاد السوفيتي ما كان له تأثيره السلبي على صناعة الطيران في الاتحاد.
ربما لم تنتصر فنلندا عسكريًا، لكنها أسقطت الاتحاد السوفيتي سياسيًا وقزمت صورته على المستوى الدولي، إذ كانت الخسائر التي تكبدها جراء تلك الحرب وصمة عار في جبين السوفييت، وهو ما كان له أثره على ثقل السوفييت في الحرب العالمية الثانية، حيث تحولت الإمبراطورية العظمى إلى دولة مترهلة، سهل الإيقاع بها.
ما أشبه الليلة بالبارحة، فالحرب التي تشنها روسيا اليوم ضد أوكرانيا منذ 24 فبراير/شباط الماضي وحتى اليوم، يمكن اعتبارها صورة طبق الأصل من حرب الشتاء الفنلندية، إذ تتطابق الدوافع والأهداف، فضلًا عن سرديات المعركة في ظل المقاومة القوية للأوكرانيين التي حالت دون تنفيذ الروس خطتهم في اجتياح العاصمة كييف رغم الحسابات الخاطئة بداية الأمر.. فهل يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى ويواجه جيش بوتين مصير سلفه ستالين؟