يذهب العالم السياسي الأمريكي ايلمر شاتشنايدر في سياق دراسته للديموقراطية الأمريكية و التنظير لفكرة “صناعة اللا قرار” إلي أن “كل تنظيم هو انحياز”. يقصد شاتشنايدر بذلك أنه في أي ممارسة سياسية هناك بعض صراعات المصالح التي يُجري تمثيلها وحدها في الأجندة السياسية. أما الصراعات الأخري فيتم “تنظيمها خارج نطاق السياسة” لكي لا تصبح موضوعاً لأي علاقات قوة معلنة.
علي ذات النسق في العلاقات الدولية يُجري إخفاء عدد من الملفات الحيوية في الصراعات الأقليمية و الدولية. علي الرغم مما يحتله ملف “الطاقة” من دور محوري في التعاطي الدولي و الأقليمي مع الحراك الثوري السوري منذ بدايته إلا أنه تم تهميشه من جانب اللاعبين الأقليميين و الدوليين في صناعة السرديات الرسمية للأزمة , ذلك أن السرديات المُهيمنة تسعي إلي اخفاء علاقات السلطة و شبكات مصالح الكارتلات وراء خطابات إعلامية تتمحور حول “حقوق الشعب السوري و حقوق الإنسان” من جهة و “المؤامرة الغربية و مكافحة الامبريالية” من جهة أخري لتصبح الدماء السورية ورقة تتلاعب بها مختلف القوي.
ما يهمنا في المقام الأول في هذا المقال هو توضيح أهمية سوريا بالنسبة لإيران جيو – استراتيجياً علي صعيد سياسات و أمن الطاقة و تهديدات منافسيها الأقليميين التي تسهم في تمسك القيادة الإيرانية ببقاء النظام
السوري.
خط الغاز الإسلامي
مع تطوير إيران (تملك ثاني أكبر احتياطي من الغاز بعد روسيا) المستمر لقدراتها لاستخراج احتياطاتها من من حقل جنوب فارس (14 تريليون متر مكعب) الذي تشترك فيه مع قطر تسعي إيران إلي توسيع دائرة زبائنها لكسر الحصار الغربي المتزايد عليها و زيادة مواردها الاقتصادية. يمثل مشروع خط الغاز الإسلامي إحدي أكبر مشروعات إيران الاستراتيجية لتصدير الغاز إلي العراق , سوريا و لبنان و من ثم ليمتد في المستقبل إلي أوروبا كما تخطط طهران. في يوليو 2010 عقدت إيران مفاوضات أولية مع كل من العراق و سوريا لمناقشة المشروع و في يوليو 2011 توصلت الثلاث دول لإتفاق لتنفيذ للمشروع بتكلفة 10 مليار دولار, لاحقاً في مارس 2013 توصلت جميع الأطرف لإتفاق نهائي , اخيراً في يوليو 2013 اتفق الجانب العراقي مع الإيراني علي زيادة حجم الغاز الذي سيتم تصديره.
من المتوقع أن يبلغ طول خط الغاز الإسلامي الممتد حتي سوريا و الجنوب اللبناني تقريباً 2000 كيلو متر. سينطلق خط الغاز من عسلوية المُطلة علي الخليج وصولاً إلي الحدود العراقية , ليتم ضخ الغاز إلي العراق عن طريق خطين فرعيين, خط عيلام الذي سيغذي بغداد , المنصورية و الصدر و خط خرمشهر الذي سيغذي البصرة. من المتوقع أن يبلغ حجم الغاز المُصدر إلي العراق عن طريق الخطين 40-45 مليون متر مكعب يومياً. سيتفرع خط الغاز العراقي الذي سيبلغ 500 كيلو من داخل الأراضي العراقية ليغذي دمشق بطاقة 25- 30 مليون متر مكعب يومياً عبر خط يبلغ طوله 600 – 700 كيلو. كما أن الخط سيتفرع من داخل الأراضي السورية ليغذي الجنوب اللبناني بطاقة 5 – 7 مليون متر مكعب يومياً. ستكون طاقة ضخ الخط الإسلامي كلياً حوالي 110 مليون متر مكعب من الغاز يومياً و 40 بليون متر مكعب سنوياً. من المتوقع أن تدير صادرات الغاز من هذا الخط 3.7 مليار دولار سنوياً إلي الخزانة الإيرانية. اما في المستقبل البعيد فأن إيران تخطط لمد خط الغاز إلي اليونان و ايطاليا من لبنان عبر المتوسط ليبلغ طول الخط 4900 كيلو متر.
إذاً فمشروع الخط الإسلامي لا يجعل من بقاء النظام السوري (حتي لو تمت التضحية ببشار الأسد و القادة العسكريين) خياراً مهماً بل ضرورة حتمية بالنسبة للجمهورية الإسلامية لتأمين مشروعها الاستراتيجي , ليس فقط من أجل استمرار المشروع في سوريا بل لضمان ايضاً استمرار دور حزب الله السياسي و الأمني في لبنان علي المدي البعيد لمد الخط إلي أوروبا مستقبلاً. لذا فأن أمن إيران الاقتصادي المُهدد بشكل متزايد يجعل من أمن الطاقة في سوريا لدي صناع القرار الإيرانيين مسألة أمن قومي.
المنافسة القطرية
تُصدر قطر (تملك ثالث أكبر احتياطي من الغاز) غازها المُسال إلي الأسواق العالمية عبر ناقلات الغاز البحرية التي تعبر من مضيق هرمز. و لكن مع التذبذب المستمر للعلاقات الإيرانية – الغربية و التهديدات الإيرانية المتكررة بإغلاق مضيق هرمز تسعي الإدارة القطرية لإيجاد وسيلة أكثر استقراراً لنقل صادراتها إلي الأسواق الأوروبية و ذلك عبر خط الغاز العربي الذي ينطلق من مصر و يمر عبر الأردن و ينتهي في سوريا (بالإضافة إلي خط العريش – اشكيلون) , يغذي الخط طرابلس اللبنانية عبر فرع من حمص. و تخطط قطر لخط يتفادي العراق و يمر عبر السعودية و يتم دمجه بالخط العربي في الأردن الذي ينتهي في حلب بسوريا ليتم مد الخط إلي كيليس التركية و منها إلي أوروبا. نظراً لاحتلال حمص و حلب مواقع حاسمة في حرب خطوط فالمدينتان تحتلان مواقع استراتيجية في القتال الدائر بين الجيش النظامي و قوات المعارضة السورية.
بالنسبة للدوحة فأن الثورة السورية فرصة مناسبة للإطاحة بمشروع منافستها الإيرانية في سوريا لتلعب دور شبه إحتكاري في تصدير الغاز إلي أوروبا (إذا اخذنا في الاعتبار طبعاً ضعف صادرات الغاز المصرية بالنسبة لحجم الصادرات القطرية المُخطط لها). من خلال دعم صعود حكومة سورية موالية للولايات المتحدة و حلفائها الإقليميين في مرحلة ما بعد الأسد يصبح المجال مفتوحاً بالنسبة لقطر للعب دور أكثر محورية في سوق الطاقة العالمية.
الجسر التركي
يتجاوز طموح تركيا الطموح القطري في حرب خطوط الغاز. حيث ترغب تركيا في أن تكون جسراً للطاقة تلتقي فيها خطوط الغاز و النفط من الشرق الأوسط , القوقاز و البحر الأسود. تسعي انقرة إلي لعب دور محوري عبر إنشاء خطوط وسيطة لإيصال الغاز إلي أوروبا المتعطشة إلي المزيد من صادرات الغاز.
ترغب تركيا في نقل الغاز الإيراني إلي أوروبا عبر أراضيها من خلال خط العابر للأناضول ثم خط العابر للادرياتيكي الذي من المخطط أن يمر عبر البانيا و اليونان و يصل إلي ايطاليا (عوضاً عن خط نوباكو العملاق) و هو المشروع المعروف بـ”خط الغاز الفارسي”. و لكن في المقابل لا ترغب طهران في حصر صادراتها في هذا الخط بمنح تركيا هذا الدور الإحتكاري في نقل غازها , في المقابل تُفضل طهران توزيع خطوط الغاز عبر مشروع الخط الإسلامي و هو ما ترفضه انقرة. من ناحية أخري يكسر مشروع الخط الإسلامي الدور الإحتكاري الذي تطمح تركيا إلي ممارسته و ذلك لرغبة طهران في تصدير غازها إلي أوروبا مباشرة عبر المتوسطً دون وسيط. لذا فأن إحدي أهداف تركيا من دعم الحراك الثوري السوري و إسقاط الأسد القضاء علي مشروع خط الغاز الإسلامي لإجبار طهران علي القبول بالأمر الواقع و تصدير غازها عبر الخط الذي تقترحه أو الضغط عليها لتحويل مسار الخط الإسلامي ليتجه من سوريا إلي تركيا و من ثم إلي أوروبا بدلاً من أوروبا مباشرة عبر المتوسط , هو ما يعني ايضاً الخضوع لسلطة تركيا.
سيضعف رجحان كفة الصراع لصالح الأسد و حلفائه من الدور الذي كانت تطمح إليه تركيا في جانب من جوانبه الا و هو الطاقة , في المقابل ستجعل سوريا منافساً محتملاً لتركيا في نقل الغاز إلي المستهلكين الأوروبيين مستقبلاً. أتي الطموح السوري في مجال الطاقة في إطار تطلعات الأسد إلي تحويل سوريا لجسر اقتصادي و ذلك لأن إنسحاب الأسد من لبنان في 2005 و التمدد المتزايد للنفوذ الإيراني و التركي في المنطقة حفز الأسد لأخذ خطوات ترقي من موقع النظام السوري ضمن المعادلة الأقليمية. في 2009 كشف بشار الأسد عن سياسة “ربط البحار الأربعة” (البحر المتوسط , بحر قزوين , البحر الأسود و الخليج) , بموجب هذه السياسة خططت الإدارة السورية لعدد من المشروعات : 1- إعادة بناء خط نفط كركوك – بنياس. 2- تصدير الغاز الآذري إلي سوريا عبر تركيا. 3- ربط خط الغاز العربي بتركيا و تصدير الغاز المصري إلي أوروبا. 4- بناء شركة ترك تيليكوم لخط اتصالات يعبر من سوريا للأردن و السعودية لربط هذه الدول بأوروبا عبر تركيا.
صحيح أن تركيا كانت حجز الزاوية في مشروع الأسد , لكن تنازل انقرة عن هذه الأمتيازات التي كانت ستجنيها يضع علامة استفهام حول استراتيجيات صناع القرار الأتراك. ما يجب الإنتباه له هو أن الأزمة السورية ليست بالطبع محض منافسة “اقتصادية” بالنسبة للإدارة التركية فالأزمة متعددة الأبعاد ما بين أمنية – سياسية علي الصعيدين الأقليمي – الدولي بحيث تجعل انقرة مرتبطة بالتزامات (بالإضافة إلي حوافز) مع اطراف متعددة , لذا فأن موقع مشروعات الأسد الإقتصادية و مستقبلها من الحسابات التركية ليس واضحاً حتي الآن بالقدر الكافي.
الجانب الآخر الذي يهدد جميع مشروعات الطاقة في سوريا التي يخطط لها مختلف اللاعبون الإقليميون (إيران , قطر , تركيا و العراق) هو المناخ الأمني. أي كان التوجه السياسي للنظام السوري القادم فأن الفوضي الأمنية الحالية (التي من المؤكد أنها ستتسع أكثر في حال سقوط الأسد) تهدد المناخ المطلوب لمثل هذه المشروعات , هو ما سيتطلب دوراً كبيراً من الأطراف المنتصرة في الصراع (عسكرياً أو عبر تسوية سياسية) لإعادة هيكلة و بناء الأجهزة الأمنية و العسكرية السورية لتأمين معابر خطوط الغاز و النفط.
صعود الأكراد
يشكل أكراد سوريا جزءاً مهماً من معادلة حرب الطاقة. تقع معظم الاحتياطات السورية من النفط (التي تقدر بـ2.5 بليون برميل) في الشمال الشرقي الذي يسيطر علي جزء منه الأكراد (يقدر عددهم بـ1.6 مليون أي %9 من عدد السكان). بالإضافة لذلك فأن منطقة النفوذ الكردي تتقاطع مع المناطق من المحتمل عبور خطوط نفط و غاز منها مستقبلاً. نظراً للموقع الجغرافي الهام الذي يحتله الأكراد فأن أهمية التفاوض معهم لا تقل أهمية عن مصير نظام الأسد ذاته, خاصة أن نموذج كردستان العراق بتجاربه في مجال الطاقة تلوح في الأفق.
بناء علي ما سبق , فأن إيران مهتمة بالملف الكردي و مآلاته في سوريا و هو ما يمكن ملاحظته مؤخراً. بعد زيارة لصالح مسلم رئيس حزب الأتحاد الكردي لطهران في بداية اغسطس من العام الحالي بدعوة من وزارة الخارجية الإيرانية اجري فيها مفاوضات مع مسئولين في الوزارة و قيادات من الحرس الثوري الإيراني , صرح مسلم لجريدة الحياة بأن إيران أكدت علي حق الأكراد في مشروع “الإدارة المدنية الإنتقالية” كما أنه اتفق مع الجانب الإيراني علي ضرورة محاربة “عدونا المشترك” في إشارة لجبهة النصرة.
لا تمانع طهران من ظهور كردستان عراق جديد إذا كانت القوي المؤسسه له علي توافق مع الجانب الإيراني فيما يخص مصالحه في سوريا و المنطقة و من ناحية أخري معادياً للقوي السلفية الجهادية المُهددة لمصالحه. نظراً لتوتر العلاقات بين أكراد سوريا و تركيا بسبب خشية الأخيرة من إنفصال كردي (لأن حزب الأتحاد الكردي المُهيمن علي الساحة مرتبط بحزب العمال الكردستاني) فأن الفرصة متاحة امام إيران لاحتواء الحزب و دعمه , حتي أنه يقال أن إيران تتوسط بين صالح مسلم و عبد الحكيم بشار رئيس الحزب الديموقراطي الكردي لمعارضة الأخير هيمنة حزب الأتحاد علي الساحة الكردية في سوريا.
في مقابل المساعي الإيرانية للتقارب مع الأكراد السوريين فأن تركيا تراهن علي تمكن حكومة كردستان العراق من احتواء الأكراد السوريين , من خلال حكومة البرزاني التي تربطها علاقات ممتدة مع انقرة تأمل تركيا في أن تستطيع الإسهام في تشكيل مستقبل الملف الكردي في سوريا , كما أن احتواء الأكراد السوريين و إبعادهم بقدر الإمكان عن طهران سيؤثر علي نفوذها الأقليمي اقتصادياً و سياسياً و أمنياً.
لكون المستقبل السياسي للمنطقة الكردية في سوريا ليس معلوماً بعد فمن المحتمل أن يكون موضوع إشراك شركات النفط الإيرانية في استخراج النفط من المناطق التي تسيطر عليها قوات الحماية الكردية (الرميلان في الحسكة) مدرجاً علي الأجندة الإيرانية من الآن لمرحلة ما بعد الأسد و هو بالطبع ما لن ترحب به تركيا. و في إطار التنافس علي المنابع النفطية السورية (التي تتركز في دير الزور و الرميلان في الحسكة) نشرت وكالة العهد الإخبارية التابعة لحزب الله اللبناني في اواخر العام الماضي خبر عن اتفاق قطري – فرنسي لتقسيم مناطق احتياطات النفط السورية بين شركات استخراج النفط التابعة للدولتين و هو ما وصفته الوكالة اللبنانية بأنه ضربه للمساعي التركية.
تحديات
من الصعب التنبؤ بمآلات الصراع في سوريا مع ارتفاع حدة الصراع و التوسع المستمر لدائرته مع تلويح الولايات المتحدة لإمكانية شن ضربة عسكرية للنظام. أي كانت نتائج الصراع علي الأرض فأنه سيكون علي القيادة الإيرانية تكييف دبلوماسيتها مع الوضع الذي سينتهي إليه الصراع لتأمين مشاريعها الاستراتيجية و علي رأسها خط الغاز الإسلامي. تواجه القيادة الإيرانية عدد من التحديات:
1- توازن القوي علي الأرض في المستقبل القريب و إنعكاساته علي شكل النظام الجديد و مدي قدرة إيران علي التأثير للحفاظ علي مصالحها
2- تمثيل العلويين في النظام الجديد
3- شكل علاقة الأكراد السوريين الآخذه في التشكل بكردستان العراق و تركيا و تأثيرها علي طهران و مصالحها
4- الأستقرار الأمني.