من مبنى وزارة الداخلية تحت جنح الظلام أعلن الرئيس التونسي كعادته فشل الاستشارة الشعبية التي عرض من خلالها مشروعه لنظام سياسي جديد وذلك بسماحه بأسبوع من الإنترنت المجاني، فأحدهم أوهم الرئيس أن الإعراض الشعبي عن المشاركة ناتج عن عجز الناس عن التواصل مع الشبكة فجاء يسهل عليهم الأمر.
إذ يوشك أجل الشهور الثلاث على النفاد ونسبة المشاركة الفعلية لم تتجاوز 3% ومجموع من شارك لم يتجاوز المئة ألف بمن فهم أطفال المدارس ممن لم يبلغوا السن الانتخابي، رغم أنه سخّر كل إمكانات الإدارة لذلك، لكن السخرية من استشارته غلبت الحماس لها وجمهوره الحميم الذي توهم وجوده ولى مدبرًا ولم يعقب. سنحاول فهم الأسباب لعلنا نستشرف أفقًا لما بعد الاستشارة.
قطيعة مع الواقع المتحرك
عندما أعلن الرئيس إجراءات 25 يوليو/تموز الاستثنائية التي أسمينها بلا مواربة انقلابًا، اتخذ لذلك ذريعة محاربة الفساد المستشري، فمال إليه خلق مختلف المشارب ظنًا منهم أنه قادر على ذلك، لكن بعد ثمانية أشهر من الانقلاب تحولت مقاومة الرئيس للفساد إلى نكتة لا تضحك أحدًا، فانفض الجمهور الطيب أو الغبي من حوله.
ومما زاد من عمق الفجوة بين الرئيس وجمهوره انصرافه إلى مشغلة أخرى ليست موضع اهتمام لدى عوام الناس وهي محاولته فرض نظام سياسي جديد أسماه “البناء القاعدي أو الديمقراطية المباشرة” وكلف به كل عيي ألْكَنٍ ليشرحه للناس فزادوهم رهقا، فلم يكن تغيير النظام السياسي يشغل الناس بل كانوا يسعون وراء بلد بلا فساد يطيب فيها العيش، فإذا بالفساد في القصر نفسه.
مؤشرات الشارع المتحرك كانت تقول للرئيس “انظر وقارن حجم جمهورك منذ البداية حتى الآن بحجم جمهور من يعارضك”، كل الأرقام كانت تقول له ليس لك جمهور فعلي يناصر مشروعك وحديثك عن الفساد والفاسدين لم يعد يثير الحماس لك، فالجمهور العام بمن فيهم جمهورك لم يعد يصدقك، لذلك لما طرحت عليه استشارتك لم يذهب إليها، وفضيحة الخيام (الدعوية) التي تنصبها في الشارع للتحريض لا يأتيها أحد، والعائق ليس الإنترنت، بل أنت نفسك بخطابك وظهورك الترهيبي وفقر فكرك هنت على الناس، لكنه لم يستوعب الرسالة وما زال يمعن في مشروعه فيثبت أنه في قطيعة مطلقة مع الواقع المتحرك من حوله.
دخل الناس مرحلة الخوف على قوتهم
يحاول الرئيس ومن مبنى الداخلية البغيض إلى النفوس أن يوهم بوجود احتكارات إجرامية تعمل على إسقاطه، فيطلق الاتهامات في كل اتجاه، لكن الناس يسمعون من غيره أيضًا فيزداد شكهم في قدرته على فهم الواقع، فمنذ بداية شهر مارس/آذار توقفت بعض مصانع صنع العجين الغذائي (الوجبة الرئيسية للتونسيين) عن العمل، كما علقت المخابز على واجهاتها اعتذارات للسكان تفيد بعجزها عن صناعة الخبز بفقد المادة الأولية أي الحبوب (الطحين)، وتقسط محلات العطارة والمساحات الكبرى الغذاء المتوافر فيصيب الناس الذعر وتظهر سلوكيات اللهفة كما في كل أزمة.
وزاد الطين بلة حرب في بلاد القمح التي اعتادت تونس التزود منها، فليس في السوق خبز لذلك فحديث الاستشارة والإنترنت المجاني لتسريع الاستشارة قبل نفاد أجلها أشعر الناس بأن الرئيس يسخر منهم ويعاملهم كبلهاء لا يفهمون ما يجري حولهم، فينقلب عليه كل ظهور علني وشعوره بالفشل يرفع من درجة توتره التي تظهر في كل خطاب وفي كل لفظ من الخطاب.
لقد فشل الرئيس في إدارة بلد مأزوم، فزاد في أزماته وتبين أن حكومته التي لا تتكلم أفشل منه وأعجز، والأمور الاقتصادية قبل السياسية تفلت من قبضته الذين كانوا يقولون صبيحة الانقلاب سيصلح الرئيس الوضع الفاسد صاروا يرددون لقد (استلم الرئيس وضعًا فاشلًا فزاده فشلًا)، لقد أجهز الرئيس على كل أمل في الإصلاح ولم يعد من موقعه وبسلطته جزءًا من أي حل مستقبلي. الخوف على القوت (الحد الأدنى) الآن وهنا هو عنوان كل حديث وكل حركة وكل موقف.
أين نحن ذاهبون؟
المحبطون من الانقلاب ينتظرون حلول السماء والأقل إحباطًا يناضلون في الشارع لوضع حد للمهزلة ويسخرون في الأثناء من الاستشارة الفاشلة ويرون في فشلها نهاية صاحبها وأنصاره، فقد وضع بنفسه خطة انتقالية تفضي إلى انتخابات في نهاية عام 2022 وهي الخطة التي سوقها للخارج وربح بها مهلة سنة لإثبات كفاءته وكفاءة خطته، لكنه بنى كل شيء على استشارة ناجحة تفرز دستورًا جديدًا على هواه، وفشلت المقدمة وفشل النص (الجوهر) فكيف تكون الخاتمة؟
لقد أفلح الرئيس في تقسيم جسد المحاماة وجسد القضاء، لكن نجاحاته في التقسيم لا توفر خبزًا للجياع المصطرعين على أبواب المخابز، إنه يفتح معارك جانبية ترضي وهمه بالقوة لكنها قوة في غير موضعها، فمعركته مع حزب النهضة فشلت قبل انطلاقها فأطلق سراح القيادي (رقم 2) (البحيري) بعد اعتقال غير قانوني ولم يتدبر له تهمة فعلية فأعطى لخصمه اللدود قوةً إضافيةً، ستجعله مفاوضًا رئيسيًا على ما بعد الانقلاب، ونتوقع أن هذا التفاوض يجري الآن مع قوى الداخل والخارج.
لكن وجب التوقف عن إرسال بشارات فرحة بهذه النهاية، فالخراب الذي أحدثه الانقلاب سيكون حفرةً عميقةً يعسر الخروج منها لمن يرث قيادة المرحلة القادمة.
لدينا نتف معلومات تتراكم على أن المخارج ستكون قاسيةً جدًا ولن نعود إلى قواعد العمل ما قبل الانقلاب وأن خطة ليبرالية قاسية تتهيأ للبلد من الخارج الممول بالتحديد، فثمن هذه (الليبرالية المتوحشة) سيكون ثقيلًا على فئات اعتادت العيش الهنيء على أعطيات القطاع العام الكسول والفاشل، لكن من يدري قد يكون الثمن على قسوته محدودًا في الزمن.
إنه تغيير عميق قادم سيكون منه قطع أذرع الابتزاز النقابي في المؤسسة العمومية وإنهاء اللغو بدولة الرفاه المزيفة والعودة إلى حقيقة لم يدركها الانقلاب ولا أنصاره وقد سبق أن كتبنا فيها جملةً مفيدةً: قيس سعيد الفاشل أو فأس الخراب الضروري ينهي دولة بورقيبة ويسلم البلد برغمه إلى قوى جديدة سيصنعها الفقر والذكاء الليبرالي، وما فشل الاستشارة إلا خطوة كبيرة في هذا الاتجاه، لنواصل السخرية من الرئيس، فقد وضع نفسه في موضع سخرية.