ترجمة وتحرير: نون بوست
في الأشهر التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، عندما حذرت وكالات الاستخبارات الأمريكية من أن الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” كان يخطط لهجوم، اتبعت الولايات المتحدة وحلفاؤها إستراتيجيتين متتاليتين؛ أولًا، حاولوا السيطرة على التصعيد؛ حيث تعهد الرئيس الأمريكي “جو بايدن” بالتزام مبكر وحازم بعدم إرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا، وذلك لتقليل فرصة اندلاع حرب شاملة مع روسيا، ثم تحول بعد ذلك إلى إستراتيجية الدبلوماسية القسرية، والتي تجمع بين التهديدات والإغراءات، والتي حذر “بايدن” فيها من عواقب اقتصادية وخيمة إذا قام “بوتين” بالهجوم، وعرض التفاوض مع روسيا بشأن مخاوفها الأمنية.
وقد فشلت هذه الإستراتيجية في اللحظة التي توغلت فيها الدبابات الروسية عبر الحدود الأوكرانية. والآن، مع اقتراب القوات الروسية من كييف، أصبح لدى صانعي السياسة الغربيين هدفان متنافسان. فمن ناحية؛ يريدون أن يقوموا بكل شيء عدا استخدام القوة العسكرية لمساعدة أوكرانيا على النجاة من هجوم روسيا الوحشي وغير المبرر. ومن ناحية أخرى؛ يريدون منع نشوب حرب واسعة النطاق بين روسيا وحلف الناتو، وما يجعل التحدي صعبًا هو أنه كلما حاولوا أكثر لتحقيق أحد الهدفين، قل احتمال تحقيقهم للآخر، وفي السياسات الخارجية تعد المفاضلات هي القاعدة، ولكن نادرًا ما يكون الخيار واضحًا كما هو الحال في أوكرانيا، وليس من المستغرب أن أعضاء الناتو يكافحون من أجل سلك الخيط في الإبرة.
لنتأمل هنا مسألة فرض منطقة حظر جوي، والتي طلب الرئيس الأوكراني “فولوديمير زيلينسكي” من الناتو إقامتها بشكل عاجل فوق بلاده؛ حيث إن من شأن تحديد منطقة الحظر الجوي أن يساعد القوات الأوكرانية المحاصرة بشكل كبير، لكنه سيزيد أيضًا من احتمالات أن تهاجم القوات الروسية طائرات الناتو عن غير قصد أو عن عمد، ولهذا السبب استبعد أعضاء الحلف ذلك القرار. وبعبارة أخرى، تواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها معضلة صعبة: وهي كيف يمكنهم حماية أوكرانيا ومواجهة العدوان الروسي، وفي نفس الوقت يتجنبون الحرب مع روسيا، الدولة التي تمتلك أكبر ترسانة أسلحة نووية في العالم؟
الخروج عن نطاق السيطرة
ومع استمرار الهجمات على أوكرانيا، من السهل جدًا تخيل سيناريوهات يجد فيها حلف الناتو وروسيا نفسيهما في صراع مباشر لا يريده أي من الطرفين. وتتمثل إحدى طرق التصعيد في القوافل القادمة من بولندا ورومانيا لإعادة تزويد القوات الأوكرانية بأسلحة مضادة للدبابات والطائرات؛ حيث يمكن لروسيا مهاجمة هذه القوافل من أجل خنق تدفق الإمدادات العسكرية التي تُحدث فرقًا كبيرًا في ساحة المعركة، وعلى الرغم من أن الناتو ليس هو من ينظم هذه الشحنات، بل الأعضاء الأفراد، إلا أن الناتو هو منظمة أمنية جماعية، ويعد أي هجوم على عضو في الناتو هجومًا على الجميع؛ تخيل لو قصفت طائرة روسية معدات عسكرية فرنسية أثناء تفريغها في قاعدة برومانيا.
هل يبرر مثل هذا الهجوم الاحتجاج بالمادة 5، التي تنص على الالتزام بالدفاع الجماعي في ميثاق الناتو؟ في الحقيقة لم يتم اختبار هذا الاقتراح، ولكن إذا خلص قادة الناتو إلى أن مثل هذا الهجوم يبرر الدفاع الجماعي، فإن الناتو وروسيا سيجدان نفسيهما في حالة حرب.
والأمر الأكثر إثارة للقلق هو السيناريوهات التي قد تؤدي فيها الأزمة الحالية إلى استخدام الأسلحة النووية. ففي الأيام التي سبقت الهجوم مباشرة وتلتها مرات أخرى منذ ذلك الحين، تحدث القادة الروس عن الأسلحة النووية، ورفع بوتين حالة التأهب للقوات النووية الاستراتيجية الروسية مرتين، وحذر وزير خارجيته “سيرجي لافروف” في الثاني من مارس/آذار من أن أي حرب مع الناتو ستكون نووية.
وحتى الآن، لم تعمل القوات الروسية على زيادة استعدادها استجابة لهذه التحذيرات، ويجادل البعض بأن التهديدات النووية الروسية ليست أكثر من قعقعة سيوف مصممة لردع الناتو عن تقديم الدعم العسكري الحاسم الذي تحتاجه أوكرانيا في الجو وعلى الأرض. ولكن لا يوجد عضو في الناتو، وخاصة في أوروبا، على استعداد لتهميش التهديدات النووية الروسية باعتبارها خدعة وفتح الباب أمام تصعيد مميت.
تواجه الولايات المتحدة وحلفاؤها معضلة صعبة: وهي كيف يمكنهم حماية أوكرانيا ومواجهة العدوان الروسي، وفي نفس الوقت يتجنبون الحرب مع روسيا، الدولة التي تمتلك أكبر ترسانة أسلحة نووية في العالم؟
وحتى الآن؛ لم يحرز الغرب تقدمًا يُذكر في السيطرة على التصعيد؛ حيث تسير المفاوضات بين المسؤولين الأوكرانيين والروس بوتيرة متقطعة. وقد اتفقا فقط على إنشاء ممرات إنسانية للاجئين ومناطق آمنة حول المحطات النووية، وانتهكت القوات الروسية كلا الاتفاقين فور الإعلان عنهما، كما أنشأ البنتاغون ووزارة الدفاع الروسية خطًّا ساخنًا جديدًا لنزع فتيل الاشتباك بين القوات الأمريكية والروسية، لكن كل هذه الإجراءات ما هي إلا مكابح ضعيفة للتصعيد.
ويبدو أن الردع في مستواه الحالي لا يجدي نفعًا؛ حيث تستغرق العقوبات دائمًا وقتًا طويلًا للعمل؛ ولم يعط قادة روسيا أي مؤشر حتى الآن على أنهم مهتمون بصدق بوقف إطلاق النار أو المفاوضات، حتى أنهم لم يوقفوا الدبابات الدائرة. بل على العكس من ذلك، فإنهم يضاعفون هجماتهم؛ حيث قال الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون” بعد محادثته مع بوتين في 3 مارس/آذار، إنه خلص إلى أن الرئيس الروسي كان عازمًا على الاستيلاء على أوكرانيا بأكملها، وقد تدفع ضغوط ساحة المعركة بوتين إلى تقديم عرض، لكنه أوضح نواياه طويلة المدى.
طريقان متباينان
مع تنامي الغضب العام من الغزو وتزايد الخسائر في صفوف المدنيين، سيتعين على دول الناتو السير بخطى حذرة بين ردع روسيا وتصعيد الصراع، وهناك طريقتان للتفكير في هذه المشكلة.
الأولى تعتمد بشدة على النظريات الراسخة للعقلانية والردع، وترى هذه الحجج أن الطريقة الوحيدة لإيقاف زعيم عدواني هي برفع تكاليف العمل العسكري وإظهار عزم لا يتزعزع، قولًا وفعلًا على حد سواء. وهكذا رأى الخبير الاقتصادي “توماس شيلينج” أزمة الصواريخ الكوبية؛ مجادلًا بأن المواجهة مع الاتحاد السوفييتي كانت لعبة دجاج، حيث يتجه سائقان مباشرة نحو بعضهما البعض على طريق ضيق، مضيفًا “أنه عندما تلعب لعبة الدجاج، فإن أفضل إستراتيجية هي التخلص من عجلة القيادة، حتى يرى السائق الآخر أنه لم يعد بإمكانك الانحراف. ويصبح خيار ذلك السائق الوحيد هو الانحراف لتجنب الاصطدام”.
منذ بدء الحرب؛ عزز قادة الناتو قوة الردع، وقد حذروا مرارًا وتكرارًا من أن أي هجوم على عضو في التحالف سيعتبر هجومًا على الجميع، وقد نشروا قوات إضافية إلى أعضاء الناتو المحيطين بحدود روسيا – إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا – بالإضافة إلى رومانيا المجاورة، وعملوا على تفعيل قوة الاستجابة السريعة التابعة للحلف، وهي وحدة متعددة الجنسيات قوامها 40 ألف جندي مصممة للانتشار بسرعة إذا بدا الهجوم على أحد أعضاء الناتو وشيكًا. وفي غضون ذلك، تواصل الدول الغربية تعميق العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على روسيا والتي تلحق أضرارًا جسيمة بالاقتصاد الروسي.
أما النهج الثاني فهو أقل ألفة لدى محللي السياسة الخارجية ولكنه مدعوم جيدًا بالأدلة المستمدة من العلوم المعرفية؛ حيث أظهر الاقتصادي “دانييل كانيمان” الحائز على جائزة نوبل، وعالم النفس “عاموس تفرسكي”؛ مرارًا وتكرارًا في التجارب أن الناس عندما يجدون أنفسهم يتوقعون أو يتعرضون لخسارة فادحة، فإنهم يميلون أكثر إلى المبالغة في احتمالية الخسارة التي يواجهونها ويتخذون قرارات أكثر خطورة. ومن المؤكد أن “بوتين” يلائم هذه الفئة؛ حيث وصف انهيار الاتحاد السوفيتي بأنه “أعظم كارثة جيوسياسية في القرن”، ويعتبر أوكرانيا جزءًا من الأراضي التاريخية لروسيا، واشتكى مرارًا من خيانة الغرب لروسيا ويعتبر وعودها بأنها كاذبة. والآن، وبعد العدوان الوحشي – غير المبرر – الذي بدأه على أوكرانيا، انتقد بوتين الخنق الذي أصاب الاقتصاد الروسي نتيجة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، كما توضح خطابات بوتين خلال الأزمة، فإن هذا رجل قد تعمق إحساسه بالخسارة.
ويتوقع علماء النفس أن يتخذ الناس قرارات محفوفة بالمخاطر، في ظل هذه الظروف بالتحديد. وإذا كانوا على حق، فمن المرجح أن يختار بوتين المسار المحفوف بالمخاطر لمزيد من التصعيد بدلاً من التراجع في خضم حملة أثبتت أنها أصعب بكثير مما توقع. وبينما يحاول أعضاء الناتو جاهدًا تجنب التصعيد، إلا أن إستراتيجيتهم المتمثلة في مضاعفة الردع قد تزيد من احتمالية تصعيد بوتين، القائد الغاضب الذي يشعر بأنه محاصر. ومن المفارقات، أن الإستراتيجية المصممة للحث على ضبط النفس يمكن أن تثير التصعيد.
ماذا الآن؟
تقترح خارطتا الطريق المتنافستان إستراتيجيات مختلفة تمامًا؛ فكيف يمكن للقادة الغربيين إدارة هذا التناقض؟
تشير مقارنة الحالات التاريخية إلى أن تسلسل الاستراتيجيات يمكن أن يحدث فرقًا؛ حيث إن إظهار الصرامة والعزم يأتي أولاً، وفقط بعد أن يثبت الناتو التزامه، يصبح محورًا لعرض الإغراءات على بوتين، لخلق الحوافز اللازمة له للتخفيف من حدة التصعيد والتفاوض. وهناك منطق مقنع لهذا النوع من الإستراتيجيات، ولكنه ينطوي على مقامرة كبيرة بشأن التوقي؛ فإذا انتظر الناتو وقتًا أطول مما ينبغي لتقديم الإغراءات، فإن بوتين سيقوم بالتصعيد. ولا أحد، باستثناء بوتين نفسه، يعرف كم من الوقت يعتبر طويلًا.
هناك طريقة أخرى لإدارة هذه التناقضات وهي استخدام القنوات الخلفية لبوتين لاستكشاف فرص وقف التصعيد، ويُعدُّ من بين المرشحين المنطقيين لمحاورين موثوق بهم إما دول أخرى، مثل الصين أو إسرائيل أو تركيا، أو فردًا خاصًا، لديه علاقة شخصية طويلة الأمد مع بوتين؛ حيث إن إنشاء قناة خاصة لن يبعث فقط برسالة إلى بوتين مفادها أن الناتو منفتح على المفاوضات إذا أوقف القتال، ولكنه سيعطي القادة أيضًا إمكانية معقولة للإنكار إذا تم رفض جهودهم. وبقدر ما يبدو التفكير في هذا الأمر مؤلمًا، فإن هذه العروض يجب أن تشير إلى استعداد لرفع بعض العقوبات ردًا على وقف التصعيد، وتمامًا كما يجب أن ترتبط التهديدات بالسلوك الذي يحاول القادة منعه، يجب كذلك أن تتوافق معايرة الإغراءات مع السلوك الذي يحاولون تعزيزه.
وهناك بطبيعة الحال مخاطر تتعلق بالإشارة إلى الانفتاح على التفاوض، فمن الممكن دائمًا أن يفسر بوتين ذلك على أنه علامة ضعف وتصعيد، وهذا هو بالضبط ما قد يجادل به أنصار الردع، لكن إدارة “بايدن” قد تكون مستعدة لتحمل هذه المخاطرة؛ حيث أشار البيت الأبيض إلى أنه قلق بشأن التصعيد غير المنضبط.
على سبيل المثال؛ الإلغاء المتعمد لتجربة نووية كان من المقرر إجراؤها في الأسبوع الأول من شهر مارس/آذار لتجنب أي سوء تفسير من قبل روسيا؛ حيث سيكون من المستغرب إذا لم تكن إدارة “بايدن” بالفعل تشجع ضمنيًا هذا النهج من خلال القنوات الخلفية.
بالنظر إلى أن تجنب التصعيد مهم للغاية؛ لا يمكن للتحالف اختراق هذا السقف وتجنب نشوب حرب خطيرة مع روسيا. وهذا ليس عدلًا بالنسبة لأوكرانيا
هناك مخاطر سياسية كبيرة للقادة الذين يسعون للسيطرة على التصعيد، فلقد ولّد الغزو الهمجي لبوتين موجة من الغضب في جميع أنحاء العالم، ويضيق هذا الغضب المبرر من قصف المدنيين الحيز السياسي الذي يتيح للقادة استكشاف كيفية إنهاء هذه الحرب. وسيتطلب الأمر شجاعة من القادة للتحدث علنًا عن مخاطر التصعيد، ليس فقط على الأوكرانيين الذين يعانون بالفعل من آلاف الضحايا ولكن أيضًا لآلاف آخرين ممن سيعانون إذا تصاعدت هذه الحرب وامتدت إلى أعضاء الناتو. وسيصنف البعض – لا محالة – أولئك القادة الذين يطرحون هذه القضية على أنهم من المسترضين، ولكن محاولة السيطرة على التصعيد في معركة غير متكافئة بشكل صارخ حيث تمتلك القوة المهيمنة أسلحة نووية ليس استرضاء بشكل من الأشكال.
لا يوجد سوى بضعة طرق ممكنة لإنهاء الهجوم الروسي؛ حيث يمكن لأوكرانيا أن تعطل المزيد من التقدم الروسي على حساب الخسائر البشرية الفظيعة في صفوف المدنيين، مع كونها لا تزال منقسمة جغرافيًا، وبوسع بوتين أيضًا أن يتفاوض على وقف إطلاق النار وأن يترك ما بقي من أوكرانيا في الجزء الغربي من البلاد، لكن يمكنه – بدلاً من ذلك – إخضاع أوكرانيا بأكملها ومن ثم مواجهة التمرد المستمر/ بل إنه من الممكن (وإن كان مستبعدًا للغاية) أن تتم إزالته في انقلاب ضد القصر. وأخيرًا، يمكن لبوتين، المحاصر، أن يٌصعد ويُوسع دائرة الحرب.
في الأيام والأسابيع المقبلة، سيتعين على القادة الموازنة بين مخاطر مضاعفة الردع ومخاطر التصعيد المميت، ولا ينبغي لأحد أن يكون واثقًا من معرفته بما سيفعله بوتين؛ حيث تنص الحكمة على أن تحاول الولايات المتحدة وزملاؤها الأعضاء في الناتو – قبل كل شيء – تجنب تصعيد الحرب التي يمكن أن تقتل أعدادًا لا حصر لها من المدنيين خارج حدود أوكرانيا، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من المدنيين الأوكرانيين،وهو ما جعل الناتو يُقر بالفعل بوجود سقف للدعم الذي يمكن أن يقدمه لأوكرانيا.
وبالنظر إلى أن تجنب التصعيد مهم للغاية؛ لا يمكن للتحالف اختراق هذا السقف وتجنب نشوب حرب خطيرة مع روسيا. وهذا ليس عدلًا بالنسبة لأوكرانيا، البلد الذي وقف، رغم كل الصعاب، أمام الهجوم الوحشي غير المبرر من قبل روسيا. لكن هذه ليست المرة الأولى التي تفرض فيها السياسات الدولية خيارات صعبة.
المصدر: فورين أفيرز