ترجمة وتحرير: نون بوست
في أيلول/ سبتمبر 2016، ظهر مشهد غير لائق في حديقة ساحة البرلمان في لندن: حوالي 2500 سترة نجاة مستعملة، موضوعة في ترتيب يشبه الشبكة، وكان حجم الكثير منها صغيرًا مخصصًا للأطفال؛ ويحمل أحدها ملصق باغز باني؛ حيث كانت هذه السترات مهملة على الشواطئ اليونانية، وتم إحضارهم إلى لندن من قبل نشطاء للفت الانتباه إلى آلاف الأشخاص المعروف أنهم لقوا حتفهم أثناء محاولتهم الوصول إلى أوروبا على مدار العشرين شهرًا الماضية.
وفي ظل غرق أكثر من 4500 مهاجر في البحر الأبيض المتوسط وحده، أثبتت سنة 2016 أنها أكثر الأعوام دموية لكارثة مستمرة تعود إلى الحروب في سوريا والعراق وأفغانستان في أوائل القرن الحادي والعشرين.
كانت سترات النجاة تلك في ساحة البرلمان تمثل الأرواح المرهونة والمفقودة، لكنها ترمز أيضا إلى فشل سياسي مدمر.
تبدأ معظم الحدود الحديثة بعيدًا عن الحدود التي يعتزمون الدفاع عنها، ففي التاريخ الحديث لمراقبة الحدود الأوروبية، يبرز حدثان كعلامات قاتمة: بيان الاتحاد الأوروبي وتركيا لسنة 2016، والذي بموجبه دفع الاتحاد الأوروبي لتركيا أموالًا لمنع المهاجرين غير الشرعيين من عبور بحر إيجه للوصول إلى اليونان، وإعلان مالطا لسنة 2017، والذي بموجبه تلقى خفر السواحل الليبي تمويلًا وتدريبًا ودعمًا لوجستيًا من الاتحاد الأوروبي لمنع المهاجرين غير الشرعيين من عبور وسط البحر الأبيض المتوسط للوصول إلى إيطاليا.
هاتان السياستان، اللتان تكمنان في جذور القصص التي يرويها ماثيو أيكنز وسالي هايدن، صُممت جزئيًّا للرد على الخطاب المناهض للمهاجرين لليمين الصاعد في أوروبا، والذي يستمر في التأثير على معاملة القارة للاجئين، حتى مع فرار مئات الآلاف من المنفيين الجدد من أوكرانيا.
في سنة 2016، اتخذ أيكنز الصحفي الكندي المستقل الذي كان يعمل وقتها في كابول، قرارًا بمرافقة صديقه الأفغاني عمر في رحلته السرية إلى أوروبا؛ حيث كتب عن هذه الرحلة قائلًا: “بهذه الطريقة يمكنني رؤية اللاجئ تحت الأرض من الداخل، ولن أضطر إلى ترك صديقي ورائي”. وقد رفض عمر، المترجم السابق للقوات الخاصة الأمريكية، اللجوء في الولايات المتحدة، وكان يرغب في الهروب من الإهانة والمخاطر المحدقة به في أفغانستان، وإثبات وجوده في أوروبا على أمل أن تلحق به المرأة التي يرغب في الزواج منها.
لأغراض رحلته، تقمص أيكنز هوية شخص كابولي يُدعى حبيب، ونحن نعلم أن ملامحه ولهجته تدلان على أنه أفغاني، حتى إن ضباط الجمارك في مطار كابول ظنوا أنه أفغاني؛ إلى أن تم مسح جواز سفره الكندي. هذا النوع من التنكر له أصول، كما يلاحظ أيكنز، بدءًا من ارتداء روبرت بيرتون زيًّا إسلاميًّا لدخول مكة في سنة 1853 وصولًا إلى جاك لندن الذي تنكر في “قميص ضيق” لدخول أحياء لندن الفقيرة التي وصفها في كتابه “أهل جهنم” بعد 50 سنة.
إن المخاطر التي يواجهها على الطريق بين تركيا واليونان – وليس أقلها الاختطاف، في حالة الكشف عن هويته الحقيقية – حقيقية، ولكنها لا تقارن بالمخاطر التي يواجهها رفاقه في السفر، الذين يخاطرون بمستقبلهم بأكمله؛ فعندما صعد عمر وأيكنز على متن قارب مطاطي متجه إلى اليونان، اعترض خفر السواحل التركي طريقهم، لكنهما هربا إلى المياه اليونانية ليقعا في عُهدة الوكالة الأوروبية لحرس الحدود والسواحل، “فرونتكس”.
واحتُجزا في مركز موريا سيئ السمعة والمزدحم لاحتجاز المهاجرين في جزيرة ليسبوس؛ حيث قال أيكنز “أُجبر سكان الجزر على استضافة معسكرات غير مرغوب فيها لأوروبا”، وإن كان أحدهم موجودًا هناك تحت ذرائع كاذبة. وقرر الثنائي الفرار إلى أثينا لتجنب الاحتجاز إلى أجل غير مسمى. وفي حين أن وسيلة عمر الوحيدة للمغادرة هي ركوب طائرة بهوية مزيفة، فإن صديقه الكندي ليس بحاجة إلى تزييف هويته، فقد اعترف أيكنز “لم يكن علي القيام بذلك”.
تبرز هذه الحقيقة في كتابه “العراة لا يخشون الماء”، ولكنها تبرز بشكل جزئي لأن عمر وحده يعرف هويته الحقيقية، لذلك فإن رحلة أيكنز لا تبدو سياحية أبدًا، كما قد يرسمها كاتب غير واع. وبحلول الوقت الذي يتم فيه لم شملهم في أثينا، يشعر القارئ أن قراره بالاطلاع على رحلة عمر مباشرة، وتخليدها، هو أكثر من مجرد مسألة عمل ميداني أو جريء؛ لقد أصبحت رحلته بمثابة تكريم لصديقه، وربما حتى تكريمًا لآلاف الأشخاص الذين لم يصلوا أبدًا إلى بر الأمان.
إذا كان كتاب أيكنز عبارة عن سرد لتيارات الهجرة – وهو كتاب رحلات من النوع الأكثر أهمية – فإن كتاب الصحفية الأيرلندية سالي هايدن يدور حول الركود أو بالأحرى الركود المرعب. وفي جوهره، يكشف كتاب “للمرة الرابعة، لقد غرقنا” تورط الاتحاد الأوروبي في إساءة معاملة وموت الأشخاص الذين اقتربوا من حدودها بحثًا عن ملاذ.
ويركز الكتاب على مراكز احتجاز المهاجرين التي تم إنشاؤها منذ التوقيع على “إعلان مالطا” على الأراضي الليبية، وهي أماكن لا يمكن تمييزها فعليًا عن معسكرات الاعتقال. وبالنسبة للاجئين من السودان وإريتريا وإثيوبيا وأماكن أخرى؛ أصبحت هذه المراكز بمثابة أحياء فقيرة مغلقة للابتزاز وعصابات الصحافة والعبودية والاغتصاب والتعذيب والقتل.
في سنة 2018، عندما كان ستة أشخاص في المتوسط يغرقون يوميًا أثناء محاولتهم عبور البحر الأبيض المتوسط، تلقت هايدن أولى الرسائل عبر الإنترنت والتي وصل عددها فيما بعد إلى عدة آلا؛ حيث تلقت رسالة عبر صفحتها على “فيس بوك”، ساهمت في تغيير حياتها والتي جاء فيها “نحن بحاجة إلى مساعدتك. نحن في حالة سيئة في سجن ليبيا”.
كان المُرسل الذي لم يذكر اسمه، والذي سمع عن تقرير هايدن السابق عن الهجرة في السودان، يكتب من مركز احتجاز المهاجرين في عين زارة في طرابلس، حيث كان مسجونًا. وبعد أن فر من التجنيد الإجباري في إريتريا، دخل ليبيا من أجل الوصول إلى أوروبا، ليتم القبض عليه في البحر. وبين سنتي 2017 و2021، عندما خصص الاتحاد الأوروبي حوالي 100 مليون جنيه إسترليني لدعم خفر السواحل الليبي لاعتراض قوارب اللاجئين، أعيد أكثر من 80 ألف شخص إلى ليبيا ومراكز الاحتجاز بهذه الطريقة.
يمثل كتاب هايدن تجميعًا لروايات قصيرة مكتوبة بحروف مائلة، وبعض الرسائل المتعددة التي تلقتها من المهاجرين المسجونين على مر السنين والتي جاء فيها: “الناس يريدون الموت في البحر وليس في مراكز الاحتجاز”؛ “إنه مثل الجحيم تمامًا. إنه فظيع”؛ “مات الكثير من الناس في ليبيا”. تبدو هذه الرسائل في البداية تطفلية، مثل الهمس في الأذن، ولكنها تتجمع لتصبح جزءًا حيويًّا من تركيبة الكتاب، مما يسمح لموضوعاتها بإبراز القوة مرة أخرى – بما في ذلك قوة المؤلف.
وكتب عالم الأنثروبولوجيا البولندي البريطاني برونيسلاف مالينوفسكي في كتابه “بحارة الأرجو في غرب المحيط الهادئ”، وهو كتابه الإثنوغرافيا لشعب جزر تروبرياند: “للحكم على شيء ما، عليك أن تكون هناك”. لكن “التواجد هناك”، في عصر “فيس بوك”، لم يكن كما كان في ذلك الوقت.
يتوقع الاتحاد الأوروبي أن ينضم ما يصل إلى 4 ملايين أوكراني إلى عدد اللاجئين في العالم خلال الأسابيع والأشهر القادمة، وإذا لم تتخذ وزارة الداخلية إجراءات لتقديم ملاذ لهم لأسباب إنسانية فقط، فقد تفكر في القيام بذلك من منطلق المصلحة الذاتية التكتيكية
وفي حين أن مسار المهاجرين يأخذ هايدن إلى ليبيريا ورواندا، فإن كتابها ليس عبارة عن مجموعة من الرسائل الميدانية بشكل رئيسي. فهي تُعِدّ أكثر تقاريرها المذهلة عن هذه الموضوعات العالمية من شقتها في لندن. ومع ذلك، فإن رواية هايدن ليست أقل إلحاحًا أو حزنًا لبعدها الجسدي. في الواقع، إن هذا البعد هو الذي يتيح لها هذا الوصول العميق إلى رعاياها، ومعظمهم يعرفها فقط من صورة ملفها الشخصي على “تويتر”.
تنقد هايدن بشكل لاذع الوكالات التي أنشئت – من حيث المبدأ – لمساعدة اللاجئين على الأرض، وخاصة المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، التي تعدد بمرارة بالغة إخفاقاتها في ليبيا وإخفاقاتها المؤسسية؛ حيث وصفت المنظمة بالعاجزة والمتغطرسة والفاسدة في آن واحد. كما أدى تراكم الإساءات والإهمال وأصوات المناشدة في الكتاب إلى بناء نشاز مذهل. ولا توجد صرخة ألم خارجة عن الموضوع. وقد تشعر بقراءتها وكأن حشدًا يائسًا يُناشدك، لكن كتاب “للمرة الرابعة، لقد غرقنا” يعتبر نوعًا من الصحافة الأكثر إلحاحًا.
يُقرأ المثل الإريتري الذي تفتح به هايدن خاتمة كتابها: “لا جدوى من الاحتماء في كهف بعد المطر”؛ باعتباره صدى قاتم للمثل الداري الذي اقتُبس منه عنوان كتاب أيكنز “العراة لا يخشون من الماء”، ولم يصدر أي من الكتابين أي شيء خاص كتوصية للسياسة؛ بطرق مختلفة جدًا، وهما ببساطة يُناشداننا بالاعتراف بالمعاناة التي سببتها أسمائنا.
لقد اقتربت حدود المملكة المتحدة، إلى حد ما، من الوطن منذ أن بدأ أيكنز وهايدن إعداد تقاريرهما، حتى قبل غزو بوتين لأوكرانيا الذي تسبب في تدفق ملايين من اللاجئين الجدد. وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، مات ما لا يقل عن 27 مهاجرُا، من كردستان العراق وأفغانستان ومصر والصومال وإثيوبيا وإيران وفيتنام، عندما غرق الزورق المطاطي الذي كانوا يركبونه بالقرب من كاليه في القناة الإنجليزية.
واستجابة لحالة الطوارئ الإنسانية الأوسع، طرحت الحكومة البريطانية مشروع قانون الجنسية والحدود. وهو قيد المراجعة حاليًا من قبل مجلس اللوردات، وهي تسعى أيضًا، من بين تدابير أخرى، إلى معاقبة طالبي اللجوء الذين يدخلون المملكة المتحدة بطرق غير شرعية. ونظرًا لأنه لا يمكن طلب اللجوء في المملكة المتحدة إلا على أراضي المملكة المتحدة، ونسبة نجاح الطرق القانونية عبر إجراء قرعة إعادة التوطين ضئيلة للغاية، فإن سترات النجاة ستستمر في التراكم على شواطئ إيطاليا واليونان وبريطانيا بشكل متزايد.
ويتوقع الاتحاد الأوروبي أن ينضم ما يصل إلى 4 ملايين أوكراني إلى عدد اللاجئين في العالم خلال الأسابيع والأشهر القادمة، وإذا لم تتخذ وزارة الداخلية إجراءات لتقديم ملاذ لهم لأسباب إنسانية فقط، فقد تفكر في القيام بذلك من منطلق المصلحة الذاتية التكتيكية، وكما يؤكد هذان الكتابان، يمكن أن تكون الضيافة أيضًا عملًا من أعمال المقاومة.
المصدر: فايننشال تايمز