بعدما ظن العالم أنه أسدل ستار عصر الظلام في أوروبا مع انتهاء القرن العشرين، وأنه طوى صفحة حروبه إلى الأبد بانتهاء الحرب الباردة بين القطبين عام 1991، جاءت سنة 2022 لتحملَ تحولًا دراماتيكيًا شهد فيه العالم غزو دولةٍ عظمى لدولة أوروبية، بالسلاح والعتاد والحرب النفسية والإعلامية، بل وتدحرجت إلى مخاوف من حربٍ نووية.
أجواء الحرب هذه التي استيقظ العالم فجر يوم 24 فبراير 2022 عليها، والاحتلال الروسي لأوكرانيا، وضعت العالم أمام اختبار صعب، حول تعريفهم لمفهوم الاحتلال، خاصةً وأنهم قد غضوا الطرف لأكثر من 74 عامًا عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، بل وكان العالم في مجمله يزوّد المحتل بالسلاح والدعم الوجودي.
مقاومة الاحتلال: تناقض الغرب
لا يختلف اثنين عاقلين، بعيدًا عن منطلق السياسة ودهاليزها، أن مقاومة الاحتلال حقٌ مشروع، بل ومكفولٌ في القانون الدولي، وهو المنطلق الذي شجبت فيه أغلب دول العالم الغزو الروسي لأوكرانيا، وأعلنت عن دعمها الأوكرانيين حتى دحر الجندي الروسي الأخير من الأراضي الأوكرانية، واستعادة الأراضي المحتلة.
في الوقت ذاته، يرى العالم في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي إرهابًا في الأراضي الفلسطينية، ويزعجه رؤية الحجر في يد الطفل الصغير أكثر مما تزعجه دبابات الاحتلال وصواريخه المُنهالة على بيوت الفلسطينيين، بل ذهب أبعد من ذلك في اعتبارِ مقاومة الاحتلال الإسرائيلي عدوانًا على دولة “إسرائيل”، “الدولة الصديقة ذات الفكر الغربي”.
لم يتوقف الأمر على اقتصار شجب مقاومة الاحتلال الصهيوني، وتعداه إلى تصنيف حركات المقاومة الفلسطينية كمنظمات إرهابية، وأدرجت على اللائحة السوداء للعديد من الدول، كبريطانيا وأمريكا وغيرها، وبات الفلسطيني المقموع في أرضه، المُهجر منها، ملاحقًا في وسطٍ ينتصر لمحتلِه بدلًا من الانتصار له.
من ندعمه بالسلاح؟
في أواخر عام 2021، ضج العالم بتصنيف بريطانيا لحركة المقاومة الإسلامية حماس على قائمة الإرهاب، بسبب مقاومتها الاحتلال الإسرائيلي، بريطانيا ذاتها زودت أوكرانيا الدولة المحتَلة بالسلاح وصواريخ “جافلين” لمقاومة الاحتلال الروسي. وليس ببعيد الموقف البريطاني عن عموم موقف الاتحاد الأوروبي الذي يتسابق في تسليح أوكرانيا، بينما يصنف حركة حماس منذ عام 2001 على قائمته للإرهاب.
عند الحديث عن الاتحاد الأوروبي، لا بدّ لنا من الوقوف على ألمانيا، الدولة التي خرقت لأول مرة في الحرب الروسية الأوكرانية قرارها بعدم التدخل في النزاعات، وشرعت بتسليح أوكرانيا بقاذفات صواريخ مضادات للدبابات، بعدَ أسابيع قليلة فقط من فصل وكالتها الإعلامية لعدد من الصحفيين العرب، لأنهم استنكروا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة قبل انضمامهم إلى القناة، وهي ذات ألمانيا التي تزود الاحتلال الإسرائيلي بغواصات دولفين العسكرية، التي يستخدمها الاحتلال في قصف الفلسطينيين من عمق المتوسط.
حينما دعا الفلسطينيون شعوب العالم الوقوف معهم ونصرتهم أمام الاحتلال الإسرائيلي، أخذت الحكومات الغربية المتحالفة مع “إسرائيل” تتهم كل معارضٍ للاحتلال الإسرائيلي بمعاداة السامية، وتلاحقه وتعرقل خطواته في أعماله وسفره، في الجهة المقابلة، فتحت أبواب المجتمع الدولي على مصراعيها، حينما أعلنت أوكرانيا فتح باب التطوع لـ “فيلق دولي” يساعد في مقاومة الاحتلال الروسي.
74 سنة دون عقوبات
كان للنائب في البرلمان الإيرلندي ريتشارد بويت نصيبًا في كشف ازدواجية المعايير الغربية في الحكم على القضايا، والتي لا يحكمها سوى مصالحها السياسية والاقتصادية البحتة، وذلك حين صدح بصوته في برلمان بلاده:”٥ أيام عقوبات على بوتين مقابل ٧٠ عامًا بلا عقوبات على إسرائيل.. لماذا؟”
وأضاف أمام زملائه النوّاب: “يسعدكم استخدام أقوى لغة لوصف جرائم (الرئيس الروسي فلاديمير) بوتين ضد الإنسانية، لكنكم لن تستخدموا اللغة القوية ذاتها لوصف ممارسات إسرائيل ضد الفلسطينيين”، مشيرًا إلى الهجمات الإسرائيلية على غزة وانتهاكات حقوق الفلسطينيين، قائلاً: “بغض النظر عن العقوبات، أنتم لا تريدون حتى استخدام كلمة فصل عنصري”.
جاءت تصريحات بويت بعدما بدأ الغرب في سلسلة عقوبات على روسيا كدولة، وعلى شخوصها القيادية كبوتين ولافروف، عقوبات اقتصادية في الدرجة الأولى، فالولايات المتحدة الأمريكية، التي شنت ولاياتها حملات هجومية على شركة “بن آند جيري” لمقاطعتها المستوطنات الإسرائيلية المقامة على أراضي الضفة الغربية المحتلة والقدس، تأتي اليوم في تصريحاتها وهي تدين بأشد العبارات الاحتلال الروسي وتفرض عقوباتٍ متتالية، وكأن هذه العقوبات لم تجد طريقًا في خطابها مع “إسرائيل”، بتحول إدانة المحتل ومعاقبته، في الحالة الفلسطينية، إلى عناق طويل.
منذ بدء الاحتلال الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية، اتخذت الجمعية العامة للأمم المتحدة نحو 310 قرارات تعالج الخلاف بين الطرفين وبعضها يدين “إسرائيل” ويطالبها بضرورة الانسحاب من الأراضي الفلسطينية، كما اتخذ مجلس الأمن 131 قراراً تعالج بشكل مباشر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكن لم يطبّق على الأرض أي منها.
الأمم المتحدة، الجسم الدولي الكبير الذي اعتبر حرب عام 1967 ونتائجها، احتلالًا إسرائيليًا لأراضي الضفة الغربية والجولان، وطالبت “إسرائيل” بالخروج منها، لم تجد القوة لفرض قراراتها وتنفيذها والحصول على موافقة أغلبية أعضائها، واكتفت بالإعراب عن قلقها مما يحدث من انتهاكات لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية، أدانت بـ “تصويت تاريخي” الغزو الروسي لأوكرانيا في الأسبوع الثاني من الحرب، ونججت في تأليب الموقف الدولي ضد روسيا، بينما لم تبذل ذات الجهد في القضية الفلسطينية.
قد تكون الازدواجية في أسمى صورها، فيما فعلته شركة “ميتا” المالكة لفيسبوك وانستغرام وواتساب، بعد قراراها بالسماح بمحتوى يدعو إلى العنف ضد الروس، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، في وقتٍ تحارب فيه الشركة المحتوى الفلسطيني بمجرد ذكر كلمة احتلال أو شهيد أو أسير، وتحظر الصفحات الفلسطينية التي تعري الاحتلال وجرائمه، وقد بلغت انتهاكات الشركة بحق المحتوى الفلسطيني أكثر من1593 انتهاكًا.
لا أحد ينكر حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، ولا أحد يقبلُ بأن يتجزأ مفهوم الاحتلال تبعًا لمصالح سياسية أو عقائد أو دينٍ أو عرق، لكن الأكيد أنّ ما تمارسه الدول الغربية من ازدواجية قراراتها ونظرتها، ذوّب مفهوم الاحتلال، وجزأ الإنسانية، وأرساها على قواعد المال والسياسة لا الحقوق والمظالم.