ترجمة وتحرير: نون بوست
قال رجل نحيف طويل القامة تغطي وجهه التجاعيد بصوت أنفي عالي النبرة بينما كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يستمع باهتمام “هدفهم الحقيقي هو تدمير الاتحاد الروسي”. كان ذلك في 21 شباط/ فبراير، عندما جمع بوتين النخبة السياسية والعسكرية الروسية في قاعة سانت كاترين الساحرة في الكرملين ليصادق على قراره بالاعتراف باستقلال “الجمهوريتين الشعبيتين” في منطقة دونباس الشرقية الأوكرانية – لوغانسك ودونيتسك.
استغرق باتروشيف، الذي كانت ثقته بنفسه واضحة أمام وزراء السلطة الروسية، بعض الوقت في الحديث عن أوكرانيا مشددًا على أن الولايات المتحدة في مقدمة أهدافه. وكان قد حذر بالفعل في خطاب سابق من أن روسيا ستحاسب الولايات المتحدة على المشاكل التي تفتعلها. لقد قضى باتروشيف عقودًا كمشرف على التدريبات في مجلس أمن الدولة. وبالنسبة له، فإن الخصم الرئيسي لروسيا لم يختف أبدًا.
أظهرت الكاميرا عند تكبير الصورة بسرعة أن عيني بوتين لم ترمشا أبدا، وقد كشفت تلك النظرة عن معاني كثيرة. إنه يتفق مع نيكولاي باتروشيف سكرتير مجلس الأمن، أعلى هيئة للأمن القومي في روسيا، المقرب من الكرملين منذ وصول بوتين إلى السلطة قبل أكثر من عقدين.
ولد باتروشيف في حزيران/ يونيو 1951، قبل أشهر قليلة من ولادة بوتين، وهو ينحدر من عائلة عسكرية. عاصر والداه فترة الحصار النازي لذلك قررا بناء حياة جديدة في لينينغراد (التي تعرف في الوقت الحالي باسم سانت بطرسبرغ) بعد انتهاء الحرب. وعلى عكس بوتين الذي نشأ كطفل وحيد، كان لباتروشيف أخ أكبر ولد سنة 1945 اسمه فيكتور. عاشت العائلة في شقة مشتركة على بعد عدة بنايات فقط من قصر الأمير يوسوبوف، حيث قام الضباط القيصريون الساخطون بتسميم غريغوري راسبوتين أولًا ثم إطلاق النار عليه (المزارع الذي تحول إلى راهب يعرف بقدرته على الشفاء والذي جذب انتباه القيصر). كانت طفولة باتروشيف السوفيتية تطاردها أصداء الفضائح السابقة لامبراطورية روسيا.
تعتبر المدرسة الثانوية التي التحق بها باتروشيف – مدرسة لينينغراد الثانوية رقم 211 – محطة فاصلة في السير الذاتية لكبار شركاء بوتين. كان من بين زملائه بوريس غريزلوف وزير الداخلية السابق ورئيس مجلس الدوما (مجلس النواب الروسي)، وسيرغي سميرنوف النائب الرئيسي لمدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي منذ فترة طويلة. يواصل غريزلوف لعب دور مهم في عملية صنع القرار في السياسة الخارجية لروسيا بصفته السفير الحالي لروسيا في بيلاروسيا وعضوًا في الوفد الروسي في المفاوضات الجارية مع أوكرانيا.
من المحتمل أن باتروشيف تأثر بعمل والده في البحرية السوفيتية، فقد تخرج من معهد لينينغراد لبناء السفن بدرجة دبلوم في الهندسة، وهي شهادة تحصّل عليها الرؤساء الحاليون لأجهزة أمن الدولة والاستخبارات في روسيا، على غرار ألكسندر بورتنيكوف مدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وسيرغي ناريشكين مدير جهاز المخابرات الخارجية الروسي. هل مثّل تحولهم جميعًا إلى ضباط في الاستخبارات السوفيتية خسارة كبيرة لصناعة الهندسة السوفيتية؟ ليس من الصعب فهم الدوافع التي رمت بهم في أحضان هذا الجهاز نظرًا لأسلوب الحياة الراقي الذي تمتّع به ضباط الاستخبارات في النظام السوفيتي.
على عكس بورتنيكوف وناريشكين وبوتين، لم يصل باتروشيف إلى المدرسة العليا للاستخبارات السوفيتية في موسكو – وهي الأكاديمية التعليمية الأولى لأجهزة الأمن. بدلاً من ذلك، بعد أن تم تجنيده من قبل الاستخبارات السوفيتية في لينينغراد، اُرسل إلى أكاديمية الاستخبارات في مينسك – ثاني أفضل مدرسة في الاتحاد السوفيتي. لماذا وُجه إلى تلك المدرسة دون غيرها؟ إن هذا الأمر لا يزال لغزا. كانت عائلة باتروشيف صارمة للغاية في الخضوع لمعايير أمن الدولة السوفيتية، لذلك لا بد أن هناك سببا آخر يقف وراء ذلك. هل كان شيئًا فعله أم قاله في الجامعة؟ على أي حال، يبدو أن مسيرته المهنية الأخيرة في جهاز الاستخبارات السوفيتي لم تتضرر من حقيقة أنه لم يكن خريج أكاديمية الاستخبارات السوفيتية في موسكو.
مع أنه لم يكن زميلًا لبوتين أو بورتنيكوف أو ناريشكين، إلا أنه التقى بهذا “الثلاثي غير المقدس” (الأشرار في رواية ميخائيل بولجاكوف “ماستر ومارغريتا”) لاحقًا. فقد شغل منصبا رفيع المستوى في مقر الاستخبارات في لينينغراد، الذي كان على مسافة قريبة من الشقة التي كان يسكنها خلال فترة طفولته.
كان أوليغ كالوجين، وهو مواطن أمريكي متجنس وجنرال سابق في المخابرات السوفيتية أصبح ناقدًا للوكالة فيما بعد، على معرفة جيدة بباتروشيف. صرح كالوجين خلال مقابلة أجراها سنة 2012 مع الصحفي الأوكراني ديمتري جوردون: “لقد كنت أعرفه حقًا لفترة طويلة، لقد كان مساعدي في لينينغراد” مضيفا “كان مختلفًا عن ضباط المخابرات السوفيتية الآخرين لأنه لم يتبع أوامر رؤسائه أبدًا بشكل أعمى”. ووفقًا لما قاله كالوجين، فقد تعامل باتروشيف مع عمله بشكل إنساني. لم يكن يسعى إلى تطبيق المبادئ الشيوعية بشكل صارم.
يمكن القول إن باتروشيف هو من “اكتشف” بوتين.
في كتابه بعنوان “المديرية الأولى: 32 عامًا في المخابرات والتجسس ضد الغرب”، تطرق كالوجين إلى قصة حول باتروشيف. عندما اتهم أحد رؤساء الحزب الشيوعي في لينينغراد شخصًا معينًا “بالتحريض ضد الاتحاد السوفيتي” طالب بأن يضعه جهاز المخابرات تحت المراقبة، لكن باتروشيف نصحه بدلا من ذلك قائلا: “لماذا لا تدعو هذا الشخص إلى زيارتك في المكتب والتحدث معه وتنبيهه إلى أخطائه وتناقضاته؟ أخبره بأن ينتبه إلى تصرفاته. بهذه الطريقة يمكننا إغلاق القضية دون توقيفه”. نفذ باتروشيف مخططه غير آبه بالإجراءات التنظيمية لجهاز الاستخبارات. وقد رحب كالوجين بنصيحته التي ساهمت في تجنب ذلك الشخص العواقب الوخيمة المحتملة للتعبير عن مواقفه وآرائه.
من المحتمل أن عدم تصعب باتروشيف للمبادئ الشيوعية يرجع إلى معتقداته الدينية القوية. بعد ذلك بوقت طويل، عندما أصبح مدير الأمن الفيدرالي الروسي، اضطلع بدور فعال في دعم تجديد وإعادة بناء كنيسة القديسة صوفيا الأرثوذكسية، التي تقع بجوار مقر مبنى جهاز الأمن الفيدرالي الذي يعرف باسم مبنى لوبيانكا. وتقول بعض الشائعات إنه قبل الشروع في مهام خاصة، كان العديد من ضباط جهاز الأمن الفيدرالي يتوقفون في هذه الكنيسة لتلاوة صلواتهم. كما دعم باتروشيف بفخر بناء تمثال القديس نيكولاس صانع العجائب بالقرب من أحد المراكز الحدودية في أقصى شمال روسيا على أرخبيل فرانز جوزيف لاند في إقليم أرخانجيلسك.
بعد فترة وجيزة من انهيار الاتحاد السوفيتي في سنة 1992، انتقل باتروشيف من سانت بطرسبرغ إلى الفرع الإقليمي لأمن الدولة في منطقة كاريليا المجاورة. كانت تلك هي الأيام التي طورت فيها العديد من المناطق الروسية، وسط حالة من عدم اليقين العام بشأن المستقبل، مؤسسات مستقلة تشبه إلى حد كبير الدول المستقلة. لم تكن كاريليا استثناءً، وأثرت روابطها التاريخية بفنلندا على طابعها في فترة ما بعد الاتحاد السوفيتي. أصبح باتروشيف وزير أمن الدولة في كاريليا، وكُلف بمهمة كبح وتحييد أي نزعات انفصالية للمنطقة.
كانت كاريليا هي المنطقة التي بدأ فيها يوري أندروبوف، الذي أصبح فيما بعد الرئيس القوي لجهاز الاستخبارات السوفيتية ثم خليفة ليونيد بريجنيف كزعيم سوفيتي، حياته السياسية في الثلاثينات. طوّر الضابط الاستخباراتي الكاريلي ولاءً شبه ثقافي لأندروبوف لعقود. أثناء وجوده في كاريلي، يبدو أن باتروشيف قد سعى إلى السير على خطى العديد من إنجازات أندروبوف الأسطورية. بدا الأمر كما لو أنه بدأ يعتبر نفسه أندروبوف آخر، ذلك الشخص الذي انتقل من منصب في جهاز أمن الدولة إلى الكرملين، الجهاز الأكثر نفوذا في روسيا، تمامًا كما فعل أندروبوف.
كتب باتروشيف عن التأثير العميق لأندروبوف في رؤيته لأمن الدولة والنظام السياسي في مقدمة السيرة التي ألفها المنشق السوفيتي السابق روي ميدفيديف حول أندروبوف، والتي نُشرت في سنة 2006. وحصل كتاب ميدفيديف على الجائزة الأولى في مسابقة جهاز الأمن الفيدرالي الأدبية السنوية وأصبح الأكثر مبيعًا في دوائر أمن الدولة الروسية، ويعود الفضل في جزء كبير من ذلك إلى مقدمة باتروشيف.
من المؤكد أن باتروشيف بذل جهودًا حثيثة في كاريليا لأنه بعد سنتين فقط، وتحديدًا في سنة 1994، عُرض عليه منصب في موسكو. وقد تحصّل على لقب رسمي وهو رئيس مديرية الأمن الداخلي في مقر لوبيانكا. لقد كان وحدًا من بين عشرات ضباط أمن الدولة رفيعي المستوى الذين بدأوا العمل على تعزيز نفوذ جهاز الأمن الفيدرالي في السياسة الروسية على المستوى الفيدرالي.
سمح منصب باتروشيف له بدراسة إمكانات الموارد البشرية في صفوف جهاز الأمن الفيدرالي وتوجيه تدفقها. كان له دور فعال في جلب زملائه السابقين في جهاز الاستخبارات السوفيتي من المديرية الإقليمية في سانت بطرسبرغ إلى موسكو مثل بوتين. ويمكن القول إن باتروشيف هو من “اكتشف” بوتين. منذ بداية حياته السياسية، اعترف بوتين بمكانة باتروشيف العالية في هرم السلطة في الكرملين. وبمرور الوقت، عُيّن باتروشيف في مهام يمكن وصفها بمناصب الرجل الثاني في القيادة.
على سبيل المثال، عندما عين الرئيس بوريس يلتسين بوتين رئيسًا للوزراء في سنة 1999، أوصى بوتين باتروشيف بخلافته في إدارة جهاز الأمن الفيدرالي. أعلن بوتين عن تعيين باتروشيف في مؤتمر صحفي في 18 آب/أغسطس 1999 مازحًا “الكولونيل بوتين يتخلى عن المنصب”، فردّ باتروشيف على مضض “العقيد الجنرال باتروشيف يتولى المنصب”. أشار بوتين في ذلك الوقت إلى أن باتروشيف “سيجعل جهاز أمن الدولة أكثر قوة”.
سرعان ما تم الرجوع لعبارة بوتين بعد سلسلة من التفجيرات المروعة التي جدّت في أيلول/ سبتمبر 1999 في مبان سكنية في موسكو ومدينتين إقليميتين، وخلفت أكثر من 300 قتيل و1000 جريح. في ذلك الوقت، سارع بوتين وباتروشيف إلى توجيه اللوم إلى القادة الانفصاليين الشيشان، على الرغم من أن العديد من الأسئلة بشأن تلك الحادثة ظلت دون إجابة حتى يومنا هذا.
الوصول المنتظر لباتروشيف إلى رئاسة الدولة لم يحدث. وبدلاً من ذلك، اختار بوتين ديمتري ميدفيديف خلفًا له.
اتهم ألكسندر ليتفينينكو، وهو ضابط سابق في المخابرات السوفيتية وجهاز الأمن الفيدرالي فرّ إلى المملكة المتحدة في سنة 2000، جهاز الأمن الفيدرالي بالوقوف وراء التفجيرات، وشاطره نفس الرأي المؤرخ يوري فلشتنسكي. وقد نشر تقريرًا تفصيليًا في كتابه “نسف روسيا: الإرهاب من الداخل” تم حظره وإضافته بسرعة إلى القائمة الفيدرالية الروسية للمواد المتطرفة، بينما صودرت بعض النسخ التي وصلت إلى روسيا ووقع إتلافها. وفي سنة 2006، تم تسميم ليتفينينكو في لندن على أيدي أفراد عملوا – وفقًا لسلطات التحقيق والقضاء البريطانية – بموجب تعليمات جهاز الأمن الفيدرالي. ووجد تحقيق رسمي أجراه مسؤولون بريطانيون أن بوتين “ربما وافق” على عملية الاغتيال.
استخدمت حكومة بوتين تفجيرات الشقق السكنية كذريعة لإعادة فتح الصراع في الشيشان، مما أدى إلى تصعيد جذري للعنف في الجمهورية الانفصالية والمناطق المجاورة. وكانت هذه الحرب الشيشانية الثانية لروسيا في أقل من عقد. لكن على عكس الحرب الأولى، حقق الجيش الروسي وقوات أمن الدولة الخاصة، بما في ذلك جهاز الأمن الفيدرالي، هذه المرة أهدافهم الرئيسية. ساعدت الحرب جهاز الأمن الفيدرالي في استعادة هيبته، كما أشادت وسائل الإعلام الحكومية الروسية بباتروشيف باعتباره المدير الحازم الذي جعلت قراراته وسياساته روسيا أكثر أمانًا.
استغل باتروشيف الأضواء الإعلامية التي مجدت ضباط جهاز الأمن الفيدرالي بصفتهم “النبلاء الجدد” المكلفين بحكم روسيا بروح التضحية بالنفس واستعادة أمجاد البلاد. وفي 20 كانون الأول/ ديسمبر 2000، أجرى مقابلة مع صحيفة “كومسومولسكايا برافدا” اليومية وتزامنت مع يوم “الشيكا” – إحياء ذكرى إنشاء أول منظمة أمنية في الاتحاد السوفيتي – وقام باتروشيف بتلميع صورة ضباط جهاز الأمن الفيدرالي المرشحين لتلقي أعلى جوائز الدولة قائلًا: “المحللون الفكريون رفيعو المستوى وجنود القوات الخاصة ذوي الأداءات العريضة والمحنكون وفنيو القنابل الصامتون والمحققون المنضبطون وضباط التجسس المضاد الهادئون … ظاهريًا هم مختلفون، لكن هناك سمة مهمة توحدهم جميعًا – إنهم الأشخاص الذين يريدون خدمة [وطنهم]. إن [هم] “النبلاء الجدد” الحديثون إن صح التعبير”.
أصبحت فكرة أن ضباط الأمن الفيدرالي يمثلون نبلاء جددًا الأطروحة الموجهة للصحفيين الاستقصائيين الروس أندريه سولداتوف وإرينا بوروغان في كتابهما “النبل الجديد: استعادة خدمات الأمن الروسية والإرث الدائم للكي جي بي”. وعلى الرغم من نشره منذ أكثر من 10 سنوات، إلا أن هذا الكتاب لا يزال الرواية الأكثر إفادة عن نشأة وتطور بنية أمن الدولة الروسية ما بعد الاتحاد السوفيتي.
رغم الخطاب المنمّق وإشادة وسائل الإعلام الحكومية بباتروشيف في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، إلا أن جهاز الأمن الفيدرالي لم يكن قادرًا على تأمين الأراضي الروسية من الهجمات الإرهابية المفاجئة وواسعة النطاق. إن المعالجة الكارثية لأزمة رهائن مسرح “دوبروفكا” في موسكو في تشرين الأول/ أكتوبر 2002، وحصار مدرسة “بيسلان” في أيلول/ سبتمبر 2004 الذي أسفر عن مئات الوفيات المدنية التي كان من الممكن تجنبها، أظهر الفجوة الكبيرة بين أقوال باتروشيف وأفعال جهاز الأمن الفيدرالي.
مع ذلك، استمر نجم باتروشيف في الصعود في الأفق السياسي لروسيا. على الرغم من وجود دعوات حماسية لاستقالته من قبل أقارب ضحايا حصار بيسلان، إلا أن باتروشيف قد نال مباركة بوتين للبقاء على رأس جهاز الأمن الفيدرالي.
عندما عجز بوتين عن الترشح لولاية رئاسية ثالثة على التوالي في سنة 2008 (بسبب القيود الدستورية المعمول بها في ذلك الوقت)، تزايدت الشائعات التي تفيد بأنه يجري إعداد باتروشيف ليصبح خليفته مع بذل جهود لتعريف الجمهور الروسي بإنجازاته. أنتجت القناة الأولى للتلفزيون الحكومي الروسي فيلمًا وثائقيًا مدته ساعة عن حياة باتروشيف، بما في ذلك مقابلات مع زوجته وأخيه الأكبر وزميله في المدرسة الثانوية سميرنوف، الذي كان نائبه الرئيسي في جهاز الأمن الفيدرالي. وظهرت بشكل بارز لقطات لباتروشيف وبوتين معًا في طائرة هليكوبتر عسكرية متجهة إلى بؤرة الأزمة. وشوهد باتروشيف أثناء زيارته لمراكز حدودية روسية مختلفة من سهول آسيا الوسطى إلى القطب الشمالي، وهي إشارة خاصة إلى دمج باتروشيف لدائرة خدمة الحدود مع جهاز الأمن الفيدرالي في سنة 2003.
لكن الوصول المنتظر لباتروشيف إلى رئاسة الدولة لم يحدث. وبدلاً من ذلك، اختار بوتين ديمتري ميدفيديف خلفًا له. وفي أيار/ مايو 2008، عُرض على باتروشيف ما بدا في ذلك الوقت أنه جائزة ترضية وهو منصب سكرتير مجلس الأمن الروسي.
في الأشهر التي سبقت الغزو، قام باتروشيف بتضخيم نظريات المؤامرة المعادية لأمريكا، محاولاً تقديم تبرير لأنشطة روسيا.
لكن مع تولي بوتين منصب رئيس الوزراء، لم تعد نقطة ارتكاز السلطة في الرئاسة. وعلى الرغم من أن ميدفيديف كان اسميًا رئيس البلاد من سنة 2008 حتى سنة 2012، إلا أن بوتين كان لا يزال يتخذ معظم القرارات بالتنسيق مع باتروشيف. وكانت الكلمة الأخيرة لجهاز أمن الدولة في كل ما يجري في روسيا، وأصبح منذ أوائل العقد الأول من القرن الحالي “دولة داخل الدولة”، كما أدار ووجه المخابرات الروسية وغيرها من المصادر الأخرى خارج الحدود الروسية.
وبينما كان ميدفيديف رئيسًا لعهدة واحدة فقط، ظل باتروشيف رئيسًا لمجلس الأمن. وقد حوّل مجلس الأمن الواسع إلى قاعدة لسلطته وتمكن من توجيه القرارات السياسية رفيعة المستوى في خدمة رؤيته القائمة على نظرية المؤامرة والمعادية لأمريكا لفهم الأحداث العالمية التي استنبطها من قدوته في المخابرات السوفيتية أندروبوف.
أصبح تأثير باتروشيف الأيديولوجي على بوتين أكثر وضوحًا بمرور الوقت. وبينما كان بوتين لا يزال يتبنى بعض عناصر النظرة الليبرالية للعالم في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، أشار باتروشيف بوضوح إلى تفضيله لما أسماه “القيم التقليدية” في وقت مبكر من سنة 2000. وتستند هذه القيم إلى خلق عالم “متعدد الأقطاب” ومناهض لليبرالية يتوسع فيه مجال نفوذ روسيا بشكل كبير، وهو ما أشار إليه باتروشيف في العديد من المقابلات مع وسائل الإعلام الحكومية الروسية على مرّ السنين.
في مقابلة له خلال سنة 2015، ادعى باتروشيف أن “تشكيل عالم متعدد الأقطاب” كان الطريقة الوحيدة لكبح جماح ما اعتبره الهيمنة الليبرالية للغرب. وشدد بفخر على أن روسيا كانت الخصم الرئيسي للنظام العالمي الليبرالي الغربي وحذر من أن روسيا ستأخذ كل شيء بعين الاعتبار عندما تضغط من أجل مصالحها الجيوسياسية في الخارج.
استخدم باتروشيف اتصالاته المتكررة مع نظرائه غير الغربيين لنشر أفكاره المناهض للغرب. وكانت زيارته في كانون الأول/ ديسمبر 2021 إلى إندونيسيا وكمبوديا آخر رحلاته المصممة لهذا الغرض. وكان الغزو الروسي المستمر لأوكرانيا هو أوج ما قام به باتروشيف من تحريض عام وخفي ضد العالم الغربي على مدى عقود.
في الأشهر التي سبقت الغزو، قام باتروشيف بتضخيم نظريات المؤامرة المعادية لأمريكا، محاولاً تقديم تبرير لأنشطة روسيا. وفي أيلول/ سبتمبر 2021، على راديو “سبوتنيك” الذي تديره الدولة، أكد أن الولايات المتحدة كانت تشن حربًا بيولوجية سرية ضد مواطني الجمهوريات السوفيتية السابقة قائلًا: “إن المعامل البيولوجية التي افتتحتها واشنطن … تشكل تهديدًا لصحة عشرات الملايين من الناس”.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، صرح بأن “ظهور الفيروسات والأوبئة القاتلة سببه التجارب المعملية التي أجريت على مسببات الأمراض”، مما يعني ضمنًا أن المختبرات الغربية التي ذكرها في أيلول/ سبتمبر هي المسؤولة عن ذلك. ووفقًا لما ذكره باتروشيف، فإن بعض هذه المختبرات كانت تعمل في أوكرانيا، وبدا أنه يشير إلى وجوب إيقاف عملهم بغض النظر عن التكلفة.
يحتاج الغرب إلى أخذ كلام باتروشيف على محمل الجد والاستعداد لمواجهة أسوأ نزعاته في المخابرات السوفيتية.
في الوقت نفسه، أطلق باتروشيف نظرية مؤامرة ضد استخدام الطاقة المتجددة التي تعتبرها الدول الغربية أساسية للسياسات الاقتصادية والبيئية المستدامة والملائمة للمناخ في العقود القادمة. وادعى باتروشيف أن هذه المصادر “ليست آمنة تمامًا للبيئة، ولها تأثير سلبي على الطبيعة نفسها في بعض الحالات”. وأكد باتروشيف أن الخيار الأفضل للعالم هو الاستمرار في شراء النفط والغاز الروسي.
قدّم باتروشيف سلسلة من الادعاءات الجيوسياسية المثيرة التي تهدف إلى تضليل الجماهير الدولية حول توازن القوى العالمي. في أيلول/ سبتمبر 2021، قال إننا نشهد عودة الإمبراطورية البريطانية. وأعلن أنه “بموجب مفهوم [بريطانيا العالمية]، يريد البريطانيون إعادة بناء إمبراطوريتهم باستخدام أساليبهم [القديمة]”. كما أصر باتروشيف على أن مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى فقدت “أهميتها” وهي الآن مجرد “نادي للمناقشة”. وربما كان الأمر الأكثر غرابة بين جميع نظريات المؤامرة الأخيرة لباتروشيف اتهامه للغرب بجعل الأوكرانيين “فقراء ومعوزين”. وبالنظر إلى الأحداث الجارية في أوكرانيا، فإن هذا يبدو كأنه إنكار وحشي للحقيقة بشكل خاص.
إن ادعاء باتروشيف في 21 شباط/ فبراير بأن الولايات المتحدة تريد انهيار روسيا كان صدى لما ردده رئيس المخابرات الخارجية الروسي ناريشكين في 3 آذار/ مارس- بعد أسبوع من بدء الغزو. وقال في بيان نُشر في الأصل على الموقع الرسمي لوكالة الاستخبارات الروسية إن “الغرب لا يريد فقط تطويق روسيا بستار حديدي جديد، بل يريد تدميرها بالكامل”.
لقد أصبح هذا هو الاعتقاد الجوهري بين حاشية بوتين من جهاز المخابرات الروسية في الكرملين، الذين يعتقدون أنهم يقاتلون من أجل بقائهم. إن نظريات المؤامرة المناهضة للغرب التي وضعها باتروشيف لن تتوقف قبل تحقيق هدفها المتمثل في إعادة تشكيل النظام ليس فقط أوكرانيا وإنما أيضًا في أوروبا وبقية العالم وفقًا لقيمهما “التقليدية” المتمثلة في السيطرة المتطرفة والمراقبة الدائمة والرجولة السامة.
يحتاج الغرب إلى أخذ كلام باتروشيف على محمل الجد والاستعداد لمواجهة أسوأ نزعاته في المخابرات السوفيتية. وهذا الأمر سيتطلب التفكير خارج الصندوق. وقد لا يكون وجود روسيا وحده على المحك.
المصدر: نيولاينز