“هش ومتهالك” بهذه الكلمات يمكن أن نصف حال لبنان الذي يعاني منذ أكثر من سنتين من أزمات اقتصادية غير مسبوقة، شملت فقدان ما يزيد على 90% من قيمة عملته وفقدان آلاف اللبنانيين وظائفهم حتى باتت البطالة حالة طبيعية بين الشباب، وما زاد الطين بلة احتجاز أموالهم وخاصة الدولار في البنوك.
وعلى ما يبدو فإن صقيع الحرب الروسية ورياح القارة العجوز هبت على لبنان بثقلها، فخلفته دون وقود أو خبز أو حتى مواد أولية، فمع كل ضربة مدفعية وقذيفة يسمع صداها في أوكرانيا، تكثر الشجارات في طوابير محطات الوقود وزحمة المتاجر بسبب انقطاع المازوت والقمح واحتكار التجار لبعض المواد الغذائية الأساسية.
أزمة القمح وتخزينه
أدت الحرب الروسية الأوكرانية إلى إرباك شديد فيما يخص إمدادات المواد الغذائية الأوكرانية والروسية إلى لبنان، حيث يعد القمح من بين السلع الأساسية التي يستوردها لبنان من كلا البلدين سنويًا، إذ يعد يستورد لبنان نحو 600 ألف طن من القمح، أي بمعدل 50 ألف طن شهريًا، حوالي 60% منها من أوكرانيا و20%من روسيا ورومانيا، بينما المخزون المتوافر حاليًّا يكفي حاجة السوق لما يقارب شهر ونصف، بحسب تصريح وزير الاقتصاد أمين سلام، الذي قال إن مخزون لبنان من القمح يكفي لنحو 45 يومًا، مرشحًا بعض البلدان التي يمكن أن تكون بديلةً لأوكرانيا من ناحية القمح كالولايات المتحدة وكندا وأستراليا ورومانيا وبلغاريا وغيرها.
لذلك، قررت الحكومة اللبنانية تقنين استخدام الطحين وحصره في صناعة الخبز فقط، كما رفعت أسعار الخبز وفرضت قيودًا على تصدير المواد الغذائية.
وإلى جانب القمح الذي يتصدر المرتبة الأولى من الواردات الأوكرانية إلى لبنان، وبقيمة سنوية تقدر بنحو 119 مليون دولار، يستورد لبنان أيضًا من أوكرانيا الزيوت الخام (بقيمة 44.3 مليون دولار) والحبوب الأخرى والحديد وبعض الحيوانات الحية.
لكن المشكلة الرئيسية هنا ليست في إيجاد أسواق بديلة بل بكيفية حفظ الطحين وأين؟ فصوامع القمح الشهيرة دمرها انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/آب 2020 وحتى الآن لم يتم إصلاحها أو إيجاد بديل لها، لذلك لا يمكن للبنان تخزين كميات ضخمة من القمح داخل أراضيه، فمرفأ بيروت كان يضم أكبر الصوامع بالبلاد، بعدما كانت تحوي نحو 85% من حبوب لبنان وقمحه.
ويتم تخزين القمح اليوم إما في المطاحن اللبنانية بما يكفي الاستهلاك لشهر أو أكثر، وإما أن الدولة تشتري القمح وتحجز الكميات بعد دفع ثمنها في الدول التي تشتريها منها، لكن هذا بالطبع لا يشكل حلًا لمشكلة التخزين لأن على الدولة أن تمتلك مخازن خاصة بها تخضع لرقابتها وحساباتها، واحتياطًا لأي حدث طارئ.
عودة طوابير البنزين
يواجه لبنان في هذا الإطار تحديًا جديدًا وهو تأمين النفط في الأسواق والمحطات، فلبنان يستورد كمياته الرئيسية من النفط من روسيا، واليوم يحاول المسؤولون البحث عن بديل على غرار القمح، وتحت أصداء الحرب الروسية الأوكرانية وخلال نهاية الأسبوع، شهدت محطات المحروقات في لبنان، امتدادًا لطوابير السيارات أمامها من أجل التزود بالوقود، خوفًا من زيادة سعر البنزين بشكل كبير مع ارتفاعه عالميًا.
وبعد رفع الدعم عن المحروقات، الصيف الماضي، تصدر وزارة الطاقة جدول أسعار للمحروقات، مرتين في الأسبوع، إذ تسجل انخفاضًا أو ارتفاعًا، وذلك وفق عاملين: الأول سعر صرف الليرة أمام الدولار والثاني سعر برميل النفط العالمي.
يشرح عضو نقابة أصحاب محطات المحروقات في لبنان جورج البراكس، أن موقع لبنان على حوض البحر المتوسط وحدود أوروبا الجنوبية، أدى إلى اعتماده على النفط القادم من البحر الأسود إلى حوض المتوسط، ومعظم هذا النفط مصدره روسيا، لذلك يعيش اليوم تأثيرات هذه الحرب وانعكاساتها العالمية، لا سيما أن روسيا ثاني أكبر منتج ومصدر للنفط في العالم.
ومن خلال مقارنة سريعة خلال العام الماضي، احتاج لبنان إلى ما يقارب 3.35 مليار دولار من العملة الصعبة لتغطية فاتورة استيراد المحروقات من الخارج، في الوقت الذي بلغ فيه سعر برميل نفط خام برنت حدود الـ70.68 دولار كمتوسط سنوي.
فقيمة المحروقات المستوردة خلال عام 2021 توازي نحو 28% من قيمة احتياطات المصرف المركزي المتبقية بالعملة الصعبة، التي لا تتجاوز اليوم حدود الـ11.9 مليار دولار. على أي حال، وبعد أحداث أوكرانيا اليوم، تجاوز سعر برميل نفط خام برنت حدود الـ118 دولارًا، وهو ما يزيد بنحو 67% عن متوسط سعر البرميل خلال العام الماضي.
تعصر أزمة المحروقات اللبناني ويخنقه ارتفاع الأسعار الذي تجاوز مدخوله، فالحد الأدنى للأجور لا يزال 675 ألف ليرة، تساوي اليوم نحو 30 دولارًا، أي أن راتب الموظف بالحد الأدنى للأجور لا يمكن أن يكفي لشراء صفيحتي محروقات للتنقل أو للتدفئة، وهو ما ينعكس ارتفاعًا على أسعار السلع كافة في لبنان.
وعليه يمكن القول إنه في ظل عدم وجود سقف ثابت لسعر النفط عالميًا، وعدم استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، لم يعد هناك اليوم سقف لأسعار المحروقات في لبنان التي باتت ترتبط مباشرة بالسوق العالمية ومتغيراتها، لا سيما أن الدولة اللبنانية لا تملك مخزونًا إستراتيجيًا من الوقود لتزود الأسواق المحلية ولم تعد تدعم استيراد المحروقات لتتحكم بسعرها.
وهنا لا يمكن القول إلا أن مسلسل العنف والفوضى سيعود إلى محطات البنزين من جديد، وقد شهد لبنان حالات عنف وقتل عند محطات الوقود من أجل تعبئة سياراتهم ومنهم من يخزن داخل بيوته خوفًا من المصير المجهول، فلبنان لا يملك شبكة مواصلات متطورة ويعتمد الناس على سياراتهم بشكل رئيسي من أجل التنقل والذهاب للعمل.
أزمة الكهرباء وعودة الشموع
المازوت هو المادة الرئيسية للكهرباء والمولدات التي لا غنى عنها في لبنان، واليوم تشهد تحديًا كبيرًا في تأمينها وارتفاع أسعارها عالميًا أيضًا جراء اندلاع الحرب بين روسيا وأوكرانيا، فمنذ بداية الحرب في 24 فبراير/شباط الماضي، ارتفع سعر طن المازوت المسعر حصرًا بالدولار من قرابة 760 دولارًا للطن إلى ما يزيد على 1200 دولار للطن، ما رفع تكلفة توليد الكهرباء عبر المولدات الخاصة بشكل غير مسبوق، الأمر الذي انعكس على سعر الاشتراك الشهري الذي وصل في بعض المناطق إلى 150 دولارًا للخمس أمبيرات التي لا تكفي إلا لتشغيل الإنارة المنزلية والأجهزة الكهربائية ذات الاستهلاك المنخفض.
وبالعودة إلى أزمة الكهرباء فهي ليست حديثة العهد على لبنان، لذلك يعتمد اللبنانيون بشكل رئيسي على المولدات التي تعمل كبديل للكهرباء وبالطبع ليس من مصلحة المسؤولين معالجة أزمة الكهرباء لإرضاء ما يعرف بمافيا المولدات، وفي ظل الأزمة أصبح من الصعب على أصحاب المولدات تأمين مادة المازوت لتلك المولدات.
كذلك انضم المازوت في لبنان إلى السوق السوداء حاله حال الدولار، حيث ترتفع الأسعار أكثر، ما دفع أصحاب المولدات الخاصة إلى تقليل ساعات التقنين التي يعتمدونها لتصل في بعض المناطق إلى نحو 5 ساعات يوميًا فقط، علمًا بأن شركة كهرباء لبنان ما عادت تؤمن أكثر من 3 ساعات من التغذية الكهربائية في اليوم.
وكان أصحاب المولدات يؤمنون تغذية كهربائية لمدة 18 ساعة على الأقل يوميًا حتى شهر سبتمبر/أيلول الماضي، مع رفع الدعم بشكل كامل عن المازوت الذي يستخدم لتشغيل المولدات ومع ارتفاع أسعار المازوت، قلل أغلب أصحاب المولدات عدد ساعات التغذية الكهربائية المقدمة للمواطنين لتصل إلى 12 ساعة فقط مع رفع سعر الاشتراك الشهري.
كذلك زادت قيمة الفاتورة الشهرية للمولدات الكهربائية، التي باتت تكوي جيوب اللبنانيين بعد وصولها إلى مستويات قياسية، ودفعت بالكثيرين إلى التخلي عن اشتراكهم الكهربائي مع المولدات والاكتفاء بساعات التغذية التي تؤمنها شركة كهرباء لبنان، هذا إذا افترضنا أنها جاءت، فمن الطبيعي جدًا أن يمر نهار كامل دون حضور كهرباء الدولة، وعلى ما يبدو أن اللبناني سيعتاد الظلمة، وسيعتمد على الشموع التي رافقته طوال فترة الحرب الأهلية.
وفي هذا السياق يؤكد نقيب أصحاب المولدات الكهربائية الخاصة، أنه في ظل ارتفاع أسعار النفط عالميًا وانعكاسها في لبنان على سعر صفيحة المازوت، فإن تسعيرة المولدات الخاصة سترتفع بعد أكثر في الفترة المقبلة، مذكرًا أن أصحاب المولدات ليسوا المسؤولين عن وضع التسعيرة وإنما وزارة الطاقة التي تصدر جدولًا بالأسعار بشكل دوري وتأخذ بعين الاعتبار أسعار المحروقات من جهة وسعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية من جهة أخرى.
شئنا أم أبينا تأثر لبنان بالحرب الروسية الأوكرانية بشكل حاد وواضح حيث تضاعفت معاناة اللبنانيين من تداعيات أسوأ أزمة اقتصادية في تاريخهم، وأضافت إليهم أعباء أزمة عالمية لم تكن البلاد على استعداد لتحمل نتائجها، لتعيدهم بذلك إلى طوابير الذل وعصابات الاحتكار.