لن يصل النفط الروسي إلى الموانئ الأمريكية بعد الآن، وفق ما أعلنته إدارة بايدن، ضمن خطة تدمير الاقتصاد الروسي الذي يعتمد في المقام الأول على صادرات الطاقة، ولا يعني هذا فقط أن واشنطن ملزمة بإيجاد بدائل لتعويض خصاص شهري يقدر بـ20.4 مليون برميل، وهي الحصة الأمريكية من واردات النفط الروسي، لكنها تصبو كذلك إلى عزل روسيا عن حلفائها الدوليين.
لأجل هذا الغرض توجه وفد أمريكي إلى فنزويلا التي تملك أكبر احتياطات العالم من الذهب الأسود، لكن إنتاجها منه لا يكاد يتعدى 450 ألف برميل يوميًا، بسبب العقوبات الاقتصادية طويلة المدى، التي حولت عملة هذا البلد (البوليفار) إلى أوراق لا قيمة لها، يرميها الناس في الطرقات، حيث الأطفال يلعبون بحزم من الأموال الحقيقية.
اختراق العلاقات
تسعى الولايات المتحدة الأمريكية من وراء أول اتصال رفيع المستوى مع هذه الدولة الاشتراكية، إلى اختراق العلاقات التقليدية بين روسيا وفنزويلا، ففي نهاية الأسبوع الأول من مارس/آذار الحاليّ، استقبل الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في قصره الرئاسي بالعاصمة كراكاس ممثلي إدارة الرئيس الأمريكي، بينما لم يتم إبلاغ زعيم المعارضة خوان غوايدو الذي تعتبره واشنطن الرئيس الشرعي لهذه الدولة الواقعة على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية، بزيارة الأمريكيين إلا بعد لقائهم مع مادورو.
في خضم حرب روسيا على أوكرانيا، يمد البيت الأبيض يده إلى عدو قديم، ووفقًا لصحيفة “واشنطن بوست” تشير هذه الزيارة إلى النية الأمريكية في التعامل المباشر مع مادورو والاعتراف به كرئيس شرعي للبلاد، وهو بمثابة انتصار ما فتئ يروج له مادورو وحلفاؤه، بينما الخاسر الأكبر، من هذا اللقاء الجديد، هي المعارضة التي تعترف بها واشنطن كحكومة مؤقتة، ودعت مادورو مرارًا وتكرارًا إلى استئناف المفاوضات مع المعارضة التي ظلت مجمدة طيلة خمسة أشهر.
أعلنت فنزويلا دعمها الكامل لروسيا في مواجهة تهديدات حلف الناتو والعالم الغربي
قطعت واشنطن علاقتها الدبلوماسية مع كراكاس في 2019، بعد فوز مادورو بالانتخابات الرئاسية التي اعتبرتها إدارة دونالد ترامب مزورةً بشكل مفضوح، واعترفت بغوايدو رئيسًا شرعيًا، إلا أن الأخير لا يتمتع بسلطة قوية داخليًا ولا يمارس تأثيرًا في الخارج، ما أسفر عن تقلص عدد الدول التي تعترف به كرئيس مؤقت للبلاد.
تحويط متبادل
بينما يحظى مادورو بدعم قوي من نظيره الروسي فلاديمير بوتين، تكافح الولايات المتحدة نفوذ روسيا في فنزويلا، نظرًا إلى الجوار الجغرافي الذي يستعيد المحاصرة المتبادلة بين أمريكا وروسيا، فكما فعل الغرب في أوكرانيا، تقوم روسيا بتحويط الحدود الأمريكية من خلال تتبيث أقدامها في أمريكا الجنوبية.
أعلنت فنزويلا دعمها الكامل لروسيا في مواجهة تهديدات حلف الناتو والعالم الغربي، فقد قال مادورو في خطاب له: “لقد راجعنا خطط التعاون العسكري ووافقنا على اتجاه التعاون العسكري القوي بين روسيا وفنزويلا لحماية السلام والسيادة وحماية وحدة الأراضي”، وعقب اعتراف موسكو بـ”استقلال جمهوريتي دونتسك ولوغانسك” مباشرةً لم تتوان كراكاس في تأييد هذا القرار، كدليل على الدعم اللامشروط وبعث رسالة مفادها أن “روسيا لديها الشرعية في غزو أوكرانيا”.
على طرف النقيض، أبدى مادورو استعداده للتفاوض مع الأمريكيين، ولو أنه لم يكن ملزمًا بذلك، طالما لم تنجح العقوبات الاقتصادية على بلاده في دفعه إلى التنحي عن الرئاسة، وقد رفضت الولايات المتحدة منذ أبريل/نيسان 2019 شراء النفط من فنزويلا، مصدر الدخل الرئيسي للبلد الذي يقف منذ سنوات على شفير الإفلاس.
خبز بـ7 ملايين
يصل معدل التضخم في فنزويلا إلى مستويات مخيفة، وهو الأعلى في العالم بنسبة 1600% حسب مركز الدراسات “إيكو أناليتيكا”، لكن الأرقام الرسمية للبنك المركزي تقول بأقل من ذلك أي 686.4% عام 2021، في حين تستمر أسعار البضائع والخدمات في الارتفاع على نحو يستحيل السيطرة عليه.
تسمى العملة الوطنية لفنزويلا “البوليفار”، تيمنًا بمؤسس ورئيس كولومبيا الكبرى سيمون بوليفار الذي لعب دورًا بارزًا في تحرير الكثير من بلدان أمريكا اللاتينية من الاستعمار الإسباني منذ القرن الـ16، واعتبره الكثيرون بطل أمريكا الأول، كما سميت دولة بوليفيا باسمه تخليدًا لذكراه وتقديرًا لشأنه السياسي والعسكري والتاريخي.
حاليًّا يعادل الدولار الواحد تقريبًا نصف مليون بوليفار، وذلك بعدما قررت فنزويلا نهاية العام الماضي شطب ستة أصفار من البوليفار وهي المرة الثالثة التي تجري فيها تعديلًا على عملتها في غضون 13 عامًا، حيث حذفت 14 صفرًا، وبالتالي أصبح البوليفار الجديد يعادل 100 ألف مليار بوليفار في عام 2007، علمًا بأن هذا الإجراء لم يغير سعر الصرف بالدولار، إلا أن من شأنه تسهيل المعاملات اليومية لنحو 30 مليون فنزويلي، حيث كان ثمن تذكرة الحافلة يعادل مليوني بوليفار، ويباع رغيف الخبز بسبعة ملايين قبل التعديل.
يخطط الرئيس الفنزويلي لرفع العقوبات عن بلاده أو على الأقل تخفيفها، إذ سبق له أن أبدى استعدادًا للتوجه نحو المكسيك صيف العام الماضي، من أجل التفاوض مع المعارضة، إلا أن إدارة بايدن حينها رفضت الاستجابة له
تزرح نحو 95% من الأسر الفنزويلية تحت خط الفقر، كما أن ثلاثة أرباع الفنزويليين يعيشون في فقر مدقع، وفقًا للمسح الوطني للظروف الحياتية الذي أُجري بتنسيق من جامعة “أندريس بيلو” في تشيلي، غير أن هذه الأرقام تتعارض كثيرًا مع المعطيات الرسمية التي تقول إن 17% من الناس يعيشون تحت خط الفقر و4% فقط يعيشون في فقر مدقع.
آخر ما بقي لروسيا
تدعي الحكومة الاشتراكية أن الأزمة الاقتصادية الحادة بسبب العقوبات الأمريكية، لكنها في الوقت نفسه تسمح باستعمال الدولار الذي تعتبره رمزًا للإمبريالية الأمريكية الجشعة، في حين تعزو المعارضة مشكلة البلد إلى تفشي الفساد السياسي والمالي، وتتهم حكومة مادورو ببيع احتياطي البلاد من الذهب بشكل غير قانوني من أجل الحصول على سيولة والالتفاف على العقوبات الدولية.
يعود التقارب بين موسكو وكراكاس إلى عهد تشافيز، وبعد وفاته في 2013 وتولي مادورو الحكم من بعده، توطدت العلاقات أكثر، إذ استثمرت روسيا لدعم نظام الرئيس الحاليّ ما يقرب من 17 مليار دولار، ومع ذلك قد يفكر مادورو على نحو برغماتي، مستفيدًا من الحرب في أوكرانيا، غير متردد في إلقاء روسيا بالجحيم.
يخطط الرئيس الفنزويلي لرفع العقوبات عن بلاده أو على الأقل تخفيفها، إذ سبق له أن أبدى استعدادًا للتوجه نحو المكسيك صيف العام الماضي، من أجل التفاوض مع المعارضة، إلا أن إدارة بايدن حينها رفضت الاستجابة له، واشترطت عليه بذل مزيد من الجهد لاستعادة الديمقراطية، قبل إنهاء سياسة العقوبات التي أصبحت تمنع كراكاس من سداد ديونها الخارجية أو إعادة هيكلتها.
فنزويلا هي آخر ما بقي لروسيا في أمريكا الجنوبية بالإضافة إلى حليفتها التقليدية كوبا، في حين تراجعت علاقاتها مع الأرجنتين والإكوادور والبرازيل بدخول هذه البلدان مرحلة جديدة في تاريخها السياسي بخسارة اليسار وانتقال القيادة إلى أحزاب اليمين.