كان للاتفاق الذي أبرمته الدول الغربية مع إيران عام 2015 أثر سلبي على القضية السورية كما يرى الكثير من الباحثين والخبراء، إذ إنه وبشكل غير مباشر كان سببًا من أسباب زيادة التوغل الشيعي في سوريا وإطلاق يد إيران وميليشياتها في المدن التي شهدت انتفاضة ضد حكم بشار الأسد الحليف الأقوى لطهران في المنطقة.
صحيح أن الاتفاق حينها لم ينص صراحةً على الشأن السوري، لكن الحذر الأمريكي بالخصوص والغربي بالعموم من انهيار الاتفاق جعلهم يغضون الطرف عن ممارسات إيران الإقليمية مقابل الحفاظ على المكتسبات.
اعتبرت إيران أن توقيع ذلك الاتفاق كان نصرًا عظيمًا واعترافًا من الدول الغربية بطموحاتها، وكان ذلك الاتفاق دافعًا لطهران لزيادة تحركاتها الإقليمية خصوصًا في سوريا والمعارك الجارية هناك، وبهذا الصدد قال المرشد علي خامنئي إن التصديق على الاتفاق النووي مع الدول الغربية لن يدفع بلاده إلى التخلي عن الحكومة والشعب في سوريا، مؤكدًا “عدم السماح باستغلال الاتفاق النووي، لأننا لن نتخلى عن دعم أصدقائنا في المنطقة”.
تجدر الإشارة إلى أن النظام السوري سارع بتهنئة الحليف القديم بهذا “الإنجاز الذي تحقق بفضل الدبلوماسية الإيرانية ودعم الشعب الإيراني لها سينعكس إيجابًا على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم”.
بعد ذلك الاتفاق، رأت المعارضة السورية أن الغرب تخلى عن سوريا والمنطقة مقابل اتقاء شرور طهران بما يفتح باب الإجرام أكثر لعقود قادمة، وفي السياق قال المعارض السوري برهان غليون: “الغرب ضمن بهذا الاتفاق مصالحه واتقى شرور طهران، ورمى قنبلتها التخريبية على أصحاب المنطقة أنفسهم، وعليه، فإن الغرب الذي خلق المشكلة الإيرانية – بحصاره لها – تخلى عن مسؤولياته، وترك للشعوب المنكوبة في الشرق الأوسط مهمة معالجتها، وهذا ما فعله من قبل عندما رمى قنبلة المسألة اليهودية التي ولدتها سياساته العنصرية على الشعوب العربية لتتعامل معها”.
سوريا واتفاق 2015
بالفعل لوحظ زيادة النشاط الإيراني في المنطقة العربية بعد اتفاق 2015، خاصة في سوريا والعراق، وبرز ذلك في زيادة الميليشيات المقاتلة في سوريا التي باتت تستوطن المناطق التي تقاتل فيها بالإضافة إلى التوغل أكثر فأكثر بمفاصل الدولة، كما قاتلت الميليشيات الشيعية بجانب قوات التحالف الدولي التي تقاتل تنظيم “داعش”، ما أكسبها ميزات كثيرة في العراق حيث أتاحت لها المجال بالتغول أكثر فأكثر.
بالعموم وليس بعيدًا عن الاتفاق النووي الإيراني، لا يتذكر السوريون عهد الرئيس الأمريكي باراك أوباما بخير، فهو لم يتدخل في سوريا التدخل المطلوب لإيقاف المجازر المستمرة، وكان عهده عبارة عن صفقات أثبتت فشلها، كالصفقة التي عقدها مع روسيا لنزع السلاح الكيماوي من النظام بعد المجزرة المروعة التي ارتكبها النظام السوري في ضواحي دمشق، حيث قتل المئات بقصف صواريخ محملة بغاز السارين، لكن ذلك الاتفاق أثبت فشله بتكرار المجازر بهذا السلاح حتى اليوم.
أضف إلى ذلك أن الرئيس أوباما لم يتدخل في الأزمة السورية المتفاقمة حرصًا منه على التوصل لاتفاق نووي مع إيران، وهو الأمر الذي ذكرته مجلة نيوزويك الأمريكية، حين قالت: “التدخل الأمريكي لوقف قتل المدنيين كان سيعقد الأمور أمام جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي يرتكبها رجل إيران في سوريا الرئيس السوري بشار الأسد”.
وفي هذا السياق أشار رئيس الاستخبارات السعودي السابق الأمير بندر بن سلطان إلى أن “حلفاء واشنطن أصيبوا بصدمة وذهول، حين اكتشفوا لاحقًا أن مكاسب إيران في سوريا كانت بسبب مفاوضات أوباما مع طهران على النووي”.
انتهى عهد أوباما بقدوم الرئيس دونالد ترامب الذي انسحب من الاتفاق النووي مع إيران في مايو/أيار 2018، بعدما وصفه بـ”الاتفاق الكارثي والفظيع”، وقال ترامب أيضًا “لدينا اليوم الدليل القاطع على أن الوعد الإيراني كان كذبة”، هذا الانسحاب لم يجلب شيئًا جديدًا للمنطقة بالعموم ولسوريا بالخصوص، فطهران كانت قد أخذت قواعدها في سوريا وتمركزت بشكل يصعب تفكيكه.
كثفت “إسرائيل” طلعاتها في الأجواء السورية لضرب المراكز الإيرانية بعد الانسحاب الأمريكي من الاتفاق الإيراني، لكن ذلك تزامن أيضًا مع تراجع الاهتمام الأمريكي بالقضية السورية وسحب الكثير من القوات الأمريكية التي تتمركز في سوريا، ما أعطى مساحة أوسع للحضور الروسي والإيراني في مناطق متعددة بالبلاد.
انتهى عصر ترامب المثير للجدل في الولايات المتحدة الأمريكية والعالم، وعاد عصر الحزب الديمقراطي حاملًا معه الرئيس جو بايدن لحكم البلاد، وهو الأمر الذي لم يتوسم به السوريون خيرًا، فبايدن كان نائبًا لباراك أوباما في فترة رئاسته التي اعتبرت سيئة على القضية السورية مقابل التقرب من إيران وإنجاز الاتفاق النووي القديم.
الاتفاق الجديد
أعلن بايدن في أكثر من مرة رغبة بلاده واستعدادها للعودة لاتفاق جديد بخصوص البرنامج النووي الإيراني، وقد بدأت المفاوضات مجددًا في أبريل/نيسان 2021، وتعقد الجلسات في العاصمة النمساوية فيينا بحضور صيني روسي فرنسي ألماني بريطاني، وتشير المفاوضات في فيينا إلى عودة الولايات المتحدة وإيران للاتفاق النووي الموقع عام 2015، وتوصل الأطراف المختلفة إلى التفاهمات المطلوبة، في ظل الحديث عن إحراز تقدم كبير هذه المرة.
وعلى الرغم من التعقيدات التي تعتري المفاوضات والعراقيل التي توضع من الأطراف كافة، فإن اتفاقًا جديدًا يتم رسمه ومن الممكن أن يظهر للعلن في أي وقت، ولولا اندلاع الحرب في أوكرانيا لكان الاتفاق قد وقع من الأطراف كما يرى مراقبون، لكن تحذر كل من ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، من أن المفاوضات بخصوص إحياء الاتفاق النووي مع إيران قد تنهار بسبب المطالب الروسية، فقد طلبت موسكو بشكل مفاجئ ضمانات ملزمة بأن التجارة الروسية مع إيران لن تتأثر بالعقوبات المفروضة على موسكو بسبب عمليتها العسكرية على أوكرانيا.
التعاون الأمريكي الإيراني في سوريا
على كل الأحوال وفي حال تم التوقيع على الاتفاق المحتمل مع إيران، فأين ستكون القضية السورية ضمن هذا الاتفاق، خاصة أن الاتفاق الأول أضر كثيرًا بهذه المسألة؟ أيضًا يجدر بنا التساؤل عن محددات العلاقة الأمريكية الإيرانية في سوريا على اتفاق نووي محتمل، وكما أسلفنا فإن هذه الاتفاقات لا تشير صراحةً إلى القضية السورية وإنما تنعكس تأثيراتها على دول المنطقة.
خلال تعليقه لـ”نون بوست” يقول السيد محمد سرميني مدير مركز جسور للدراسات: “خلال مباحثات فيينا رفضت إيران مرارًا إدراج البرنامج الصاروخي والسياسة الخارجية، التي أكّد ابراهيم رئيسي فور تسلّمه الرئاسة عدم السماح بتقييدها بالاتفاق النووي مع الولايات المتحدة، فيما اقتصرت المفاوضات على العقوبات الاقتصادية والإنتاج النووي”.
مضيفًا “لذلك، لن يكون هناك أي شكل من التعاون بين القوات الأمريكية والإيرانية في سوريا، باستثناء خفض التصعيد الذي ارتفعت وتيرته بشكل غير مسبوق مطلع عام 2022، وهذا يعني أن الولايات المتحدة غالبًا لن تسمح لـ”إسرائيل” باستخدام أجواء قاعدة التنف لقصف مواقع إيران كما فعلت عندما قصفت موقعًا للحرس الثوري قرب مطار T4 منتصف أكتوبر/تشرين الأول 2021″.
بدوره شرح السيد باسل حفار مدير مركز إدراك للدراسات والاستشارات ماهية التعاون الأمريكي الإيراني في سوريا، فيقول لـ”نون بوست”: “التعاون الأمريكي الإيراني في سوريا ليس تعاونًا بقدر ما هو وجود قواعد اشتباك يحاول كل طرف أن يفرض رؤيته لها بحسب حجم القوة وحجم التموضعات التي يحاول التمدد فيها بالحالة السورية”، وأشار إلى أن “إيران خلال الفترة الماضية فشلت فيما كانت تحاول فعله في سوريا وأصبحت قواعد الاشتباك العسكري لا تميل لصالحها بسبب تصاعد العمليات العسكرية من الطرف الإسرائيلي ضد إيران وهذا الأمر تم بالتنسيق مع واشنطن”.
يضيف حفار “الشعرة التي قصمت ظهر البعير كانت عندما تم إجراء تنسيق بين “إسرائيل” وروسيا من أجل الضربات الجوية لقوات طهران في سوريا”، ويرى أن إيران بدأت تعويض وجودها العسكري بالحضور والتمدد بالأطر المدنية والإدارية في الدولة السورية، حفاظًا على امتداداتها ووجودها في سوريا، وبالتوازي مع ذلك تعمل ضمن الأطر الاجتماعية وهي صناعة الحاضنة الاجتماعية أو شعبية للوجود الإيراني في سوريا. بهذا الإطار يمكن توصيف الوضع في سوريا من حيث الوجود الأجنبي الأمريكي والإيراني”.
أثر الاتفاق المحتمل على سوريا
أما عن أثر الاتفاق المحتمل على سوريا يقول حفار: “خلال الاتفاق الماضي، لم يتم التطرق لسوريا بالشكل الصريح ولم يتم التطرق لدور إيران أيضًا بشكل صريح، وبالتالي إيران عندما وقعت الاتفاق النووي الأول مثل لها ضوءًا أخضر لاستمرار وجودها في سوريا وتمددها، ولم يكن هناك أي ضوابط أو قواعد تلزمها أو تضبط تحركاتها أو تمددها وهو ما صنع حالة من الأزمة في وقتها مع دول المنطقة بشكل عام الذين كانوا يرون وجوب كونهم جزءًا من الاتفاق، لكن الذي حصل أن دول المنطقة أو الدول العربية لم تدع أصلًا للاتفاق”.
ومع التدخل الروسي ووضع مطالب جديدة من أجل إنجاز الاتفاق النووي المحتمل يبدو أن الوضع يصبح أصعب، وبهذا السياق يقول حفار: “من الواضح أن روسيا لها كلمتها بتوقيع الاتفاق الجديد، فقد شهدنا خلال الأيام الماضية تعثرات ومفاوضات وانسحابات بين الأطراف كافة، وكانت التصريحات الروسية صريحة بخصوص أنها جزء من الاتفاق النووي، وكانت توضح للأطراف عدم استطاعة مضيهم بما يفعلون دونها”.
ويرى أن موسكو الفاعل القوي في سوريا إلى جانب إيران “لن تسمح بحصول أي شيء دون تحصيل مكاسب كبرى على مستوى ما يجري في أوكرانيا وسوريا والقرم والعلاقة مع الناتو وأشياء أخرى، وبالتالي بالنسبة لروسيا هي في لحظة تحاول أن تركز فيها على كل ما يصل نفوذها إليه لتحقيق مكاسب أو لفرض شروط على الطرف الآخر”.
إلى ذلك سيزداد الدعم المالي للميليشيات المقاتلة الإيرانية وكل ذلك تبعًا للتأثيرات المحتملة على سوريا في حال تم التوقيع على الاتفاق، حيث سيتم “رفع العقوبات والإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة، فمن المرجح أن يشهد حزب الله والميليشيات المدعومة من إيران في سوريا والعراق دفعة مالية كبيرة” وفقًا لورقة نشرت في منتدى “فكرة”، وتضيف الورقة أنه من المؤكد أن “الميليشيات التي تم تمكينها حديثًا ستقف حائلًا أمام تنفيذ أهداف الولايات المتحدة في المنطقة وترسيخ وجودها في شرق سوريا، ما سيضر بجهود الولايات المتحدة في محاربة تنظيم “داعش” وإيقاف المد الإيراني وتطبيق قرارات الشرعية الدولية وأبرزها القرار رقم (2254)”.
أي اتفاق بين العالم وإيران سيؤثر على سير المخططات الإيرانية في الدول التي توجد فيها طهران وأولها سوريا، اجتماعيًا واقتصاديًا وعسكريًا
وترى الورقة أنه “من شبه المؤكد أن النفوذ الإيراني المتزايد سيؤثر سلبًا على سوريا، فالميليشيات الإرهابية والطائفية المدعومة من إيران ستتمتع بسلطة أكثر وحرية أوسع لاستعراض قوتها، ما قد يؤدى إلى تزايد مستوى العنف والقتل، وفي السياق نفسه، سيوفر الإفراج عن الأموال الإيرانية، تمويلًا للتجارب الصاروخية التي تجري في سوريا، بدعم وإشراف إيراني مباشر”.
“إسرائيل” والوجود في سوريا
ماذا عن النفوذ الإسرائيلي في سوريا في حال تم التوقيع على اتفاق مع إيران؟ يجيب محمد سرميني بقوله: “لا يبدو أنّ الاتفاق بالصيغة التي تم تناولها سيكون مرضيًا لـ”إسرائيل”، لا سيما أنه لا يتطرق إلى البرنامج الصاروخي والطائرات المسيّرة ومصير الميليشيات في العراق وسوريا ولبنان، لذلك، من غير المتوقع أن تخفض “إسرائيل” من حجم استهداف مواقع ومصالح إيران في سورية، ولن يُشكّل هذا السلوك اعتراضًا بالضرورة من الولايات المتحدة وكذلك بالنسبة لروسيا”.
يضيف سرميني “طالما أن الاتفاق لا يتضمن السياسة الخارجية، فإن استمرار “إسرائيل” بقصف مواقع ومصالح إيران في سوريا لن يكون له تأثير مباشر في تحديد مصير الاتفاق”، مشيرًا إلى “أن اتساع حجم ومستوى التدخل الإسرائيلي قد يقوّض الاتفاق مستقبلًا مرّة أخرى لأنه لم يشمل إجراءات تضمن أمنها القومي في الجبهة الشمالية، فاستمرار البرنامج الصاروخي ونشاط الميليشيات يعني نقل مزيد من الأسلحة والذخائر واللوازم اللوجستية للتصنيع إلى حزب الله والميليشيات في سوريا ولبنان”.
ختامًا، فإن أمريكا والدول الغربية لم تعد تولي سوريا تلك الأهمية الكبيرة، إنما أصبحت هذه القضية تمثل لهم جزءًا ضغيرًا من خريطة المنطقة التي تشكل قضية كبرى تشترك بها روسيا و”إسرائيل” ودول المنطقة، على عكس إيران التي ترى بدمشق ونظامها امتدادًا إستراتيجيًا بكل الأصعدة وتوليها اهتمامًا رئيسيًا، وعليه فإن أي اتفاق بين العالم وإيران سيؤثر على سير المخططات الإيرانية في الدول التي توجد فيها طهران وأولها سوريا، اجتماعيًا واقتصاديًا وعسكريًا.