في العقد المنصرم، هيمنت حمى أفلام الأبطال الخارقين على شباك التذاكر، وأضحت نمطًا مألوفًا في خطط الإنتاج الكبرى التي تتهافت على إصدارها الشركات طبقًا لترتيب زمني معين يتيح لتلك العوالم مساحة أكبر، ويؤسس لحبكة سينمائية مشتركة، بتفريعات متعددة تساعد في جذب أكبر عدد من الجمهور.
بيد أن اجتياح هذه الأنماط من الأفلام للسوق السينمائي التجاري، خلف سؤالًا حيويًا عن إشكالية رواج نوعية تجارية معينة، على حساب الأخرى، بحيث يتغذى صوت أو عدة أصوات فنية على كم هائل من التمويل المادي، ما يحدث خللًا في المنظومة السينمائية، وتتلاشى الأنواع غير التجارية تدريجيًا، ليصبح السوق الذي يتسع لشتى أنواع الأفلام، وسيطًا لنوعية واحدة، تحتكر السباق التجاري، لأسباب منطقية بالنسبة للمنتجين، فهي تدر أرباحًا هائلةً، لتغدو الأنماط السينمائية الأخرى مخاطرة إنتاجية، فالأرباح هي ما يحدد طبيعة السوق، وليس طبيعة الفن الجمالية أو قيمته الفنية أو حتى شجاعته في طرح موضوعه.
كل هذا جيد، لكنه لن يمنح هذه الأفلام فرص أعلى في سوقٍ تنافسي تجاري، المال هو ما يحكم الصناعة، إلا أن مساحة الاحتكار تضاعفت في العقد الأخير، في ظل التنافس الرائج بين شركتي مارفل ودي سي، الذي تضاعف إثره عدد أفلام الأبطال الخارقين وما يشبهها، لتصبح موضة العصر، خلطة شبه مضمونة تجاريًا، نسبة فشلها منخفضة في ظل التطور التقني، وهذا لا يمنع أن أفلام الأبطال الخارقين كنوعية، لها حضورها الفني كشكل من أشكال السينما، بجانب تطورها الهائل على مستوى السرد وخلق العالم والاهتمام بالتفاصيل، أي أنها كنوعية، ربما تمنح السينما الكثير من المتعة.
لكن على الجانب الآخر سنلاحظ انخفاض عدد الأفلام داخل النوعيات الأخرى، وأنا لا أقصد هنا أفلام الـArt house، فهي تحظى بسوقٍ متخصصة تعرض أفلامها – ورغم ذلك تتأثر بشكل كبير باستفحال السينما التجارية -، لكن أقصد السوق السينمائي الطبيعي، الذي يخضع للتنوع.
إشكالية الأبطال الخارقين
في عام 2019، أجرى المخرج الأمريكي العظيم مارتن سكورسيزي حوارًا مع مجلة إمباير Empire magazine، سأله المحاور عن أفلام مارفل في ظل وجود فيلم “المنتقمون: نهاية اللعبة” في السينمات واجتياحه لشباك التذاكر، وكان رده لاذعًا، حيث قارن تأثيرها بالحدائق الترفيهية، ما أثار جدلًا واسعًا في الأوساط السينمائية، أعاد طرح السؤال عن ماهية أفلام الأبطال الخارقين، ومدى تأثيرها على السينما.
الحقيقة أن سكورسيزي لم ينكر قيمة هذا النوع من الأفلام كشكل من أشكال الفن، ولم ينصح الناس بالابتعاد عنها، إلا أن السؤال ظل مثارًا للجدل، ليسير معظم أساتذة الإخراج على نهج سكورسيزي، ويدلون بنفس التصريحات تقريبًا، كين لوتش وفرانسس فورد كابولا وجاسبر نوي، كلهم يتشاركون في نفس التصريح: مارفل ليست سينما.
هذا لا يعني أن طرفًا له الحق في احتكار الصواب، بيد أننا نحاول النظر لتصريحات سكورسيزي من وجهة نظر جيله السينمائي، وحقبته الزمانية التي شهدت وجود أساتذة الإخراج، وشكلت وعي الجيل الحاليّ من الناحية الفنية، لذا سترتبط تصريحات سكورسيزي بحنينه للغة سينمائية تنتمي لأفلام الـArt House، وحقبة سينمائية كانت في أوجها – بالنسبة له – هي ذروة السينما.
يمكننا أن نلمس هذا النوع من الحنين في مقال كتبه مارتن سكورسيزي نفسه، نشر في مجلة هاربر Harper’s Magazine العام الماضي، بعنوان المايسترو: فيدريكو فيلليني وسحر السينما المفقود، إنه أشبه بالتحية لواحد من آلهة السينما، المخرج الإيطالي فيدريكو فيلليني، وسينما العصر الذهبي، تحية للأصوات التي أضافت كثيرًا للسينما، هذا المقال يمثل جيل سكورسيزي من السينمائيين بشكل عام، ونستطيع من خلاله استكشاف منظور سكورسيزي عن سينما الأبطال الخارقين، ويمكننا الاستدلال بفقرة قصيرة في نهاية المقال، يرثي فيها سينما النخبة:
“لقد تغير كل شيء، السينما وما تحمله من أهمية داخل ثقافتنا، من غير المفاجئ، مع مرور الوقت، أن ينحسر نحو الظلال مخرجين مثل غودار وبيرغمان وكوبريك وفيلليني الذين هيمنوا على شكلنا الفني الرائع كالآلهة ذات مرة، بيد أنه في تلك النقطة، لا يمكننا ضمان أي شيء، لا يمكننا الاعتماد على صناعة الأفلام (movie business) بشكلها الحاليّ، للاعتناء بالسينما”.
يقصد سكورسيزي بالشكل الحاليّ للصناعة، أي النوعية السائدة في صناعة تدار من خلال الأموال في المقام الأول، تساعد في إزاحة النوعيات الأخرى في سبيل إطلاق سلاسل الأبطال الخارقين، بجانب الدعاية الهائلة التي تلتهم الأفلام الأخرى، والمشكلة هنا في تمرير الهيمنة من يد مخرجين يعتبرهم آلهة السينما، إلى يد نوعية واحدة من الأفلام لا ترضي ذائقة سكورسيزي نفسه، الأمر كله يتعلق بحساسية الفن Sense Of Cinema الذي يتشكل من خلال وعي الشخص بحقبته الفنية والسينمائية، وينتج عن ذلك ذائقة فنية متفردة لكنها ليست مستقلة عن أعلام السينما آنذاك، حال كل ذائقة سينمائية، لا تتطور بمعزل عن ثقافتها، وثقافة أفلام الأبطال الخارقين هي نقيضة سينما القرن المنصرم، حتى على مستوى نوعية الـTech noir مثل فيلم Blade Runner، لا يمكن مقارنتها بنمط الأفلام التجارية لمارفل، وهذا لا يسلب المتعة من أي نوعية فيلمية، لكنه يوضح اختلاف ثقافة الأجيال، ومدى جدية المنتج السينمائي الذي يتحدث عنه سكورسيزي.
إشكالية البناء
تواجه نوعية أفلام الأبطال الخارقين إشكالية ثانية، وهي مساحة المجازفة والخطر في السرد السينمائي، فهذا النوع من الأفلام، يتحرك من الخرافي غير المعقول، ويتسم بهيكلة سينمائية مختلفة، تؤسس للمتعة في المقام الأول، وهذا يحتم وجود تقنيات معينة تخدم إيقاع محدد للحكي، بيد أن مشكلة الخطر المحدق الذي يقع على الأبطال يحيلنا لمناقشة سردية هذه الأفلام، لأن ذاك الخطر يخضع إلى طردية قوة الأبطال، كلما أضحى الأبطال أقوى، تضخمت الأزمة، لتتناسب مع قوة البطل الخارق، لتصبح هي الأخرى مشكلة خارقة.
وهذا بدوره، يهمش دور الفرد العادي وقيمته في الحكي، وتتبدى تلك الفكرة خلال المعارك واسعة المدى التي تسحق مدن كاملة، يقتل على إثرها عدد هائل من سكان هذه المدن، لكننا لا نراهم، لا ترصد كاميرا المخرج هذه التضحيات التي تتبدى طفيفة بالمقارنة مع الشر الأعظم الذي يواجه الأبطال.
إذن يمكننا الوصول لنتيجة مهمة، أن أفلام الأبطال الخارقين تجرد الفرد العادي من قيمته كجزء من المنظومة، وتثمن أبطالها لأنهم على قدر العقدة والمأزق الكوني، بجانب ذلك، يؤسس مخرجو هذه النوعية لعلاقة بين البطل والمشاهد، فهو بؤرة الحدث الذي يمرر من خلاله العاطفة المطلوبة والإشارات الضرورية، بيد أنه لا يربط المشاهد بالفرد العادي ولا باليومي، لأن هذه ليست مهمته في المقام الأول، وعليه فالمشاهد لا يتأثر بحجم التضحيات الجانبية، لا يشعر بها في الأساس، لذلك لن تصبه لوثة الخطر، ويفقد القدرة على تطوير الشعور بالخطر حتى لو كان شعورًا مبتورًا، لأنه في الحقيقة لا يمسه في الأساس، بل يمس أبطاله كأفراد أو مجموعة، فيختزله في شخوص أبطاله الخارقين.
لذلك نرى أن المخاطر التي تواجه أبطال تلك الأفلام، أكبر من مجرد جرائم فردية، بل مأزق كوني أو تهديد عالمي، أي أن المشاهد يخضع لنوع من العشوائية، يفقد على إثرها شعوره بالتعاطف مع أقرانه من البشر لأنهم ليسوا محور الأحداث، ومن هذا المفهوم، ينطلق شعورٌ بالألفة مع الدمار الشاسع الذي يتسبب به الأبطال، يوائمون هذا الشعور دون محاولة لتفكيكه، وعلى ذكر هذه النقطة، فقد نشر مارتن سكورسيزي مقالًا في صحيفة نيويورك تايمز، يوضح فيه مقصده من التصريحات التي أربكت الوسط السينمائي، نذكر منها هذا الاقتباس:
“العديد من العناصر التي تعرف السينما كما أعرفها موجودة في أفلام مارفل، ما تفتقده هو الانجلاء، التعرض لخطرٍ خيالي أو حقيقي، لا شيء على المحك، صنعت الأفلام لتلبية حاجات معينة، إنهم مصممون كتنويعات، لكن على عدد محدد من الموضوعات/الثيمات”.
هذا المأزق الوجودي والحاجة للشعور بالخطر والخوف، هو ما يتحدث عنه سكورسيزي، فهو يرى أفلام الأبطال الخارقين مجرد أفلمات لأقاصيص لا تتعرض لمثيرات حقيقية، ولا تتسق مع الشعور الطبيعي بالخطر، الذي يجعل المشاهدين أشد تفهمًا للموقف الإنساني لأبطالهم، ويقتلعهم من حيز الشخصيات الكارتونية، بدلًا من ذلك تلتزم أفلام مارفل مثلًا بنسق معين في عرض مآزق الأبطال، أخطارٌ تتلاشى بانتهاء الفيلم ذاته، تجربة تنمحي من الوجود بعد الخروج من السينما، بحيث تعلن عن محنةٍ هشة، لا تتماشى مع الواقعي واليومي الذي يختبره الإنسان، عكس الأفلام الذي يصفها سكورسيزي كسينما أصيلة، التي تختبر المشاعر والنوائب اليومية، حتى الخيالي منها يمكن إسقاطه على مبررات وجودية، ومن خلال هذه النقطة يلقي سكورسيزي الضوء على ثيمة سينمائية مهمة:
“في العشرين عامًا الماضية، كما نعلم جميعًا، تغيرت صناعة السينما على كل الجبهات. بيد أن التغير الأشد شؤمًا حدث خلسة تحت جنح الليل: عملية البتر التدريجية لكن الثابتة للخطر. العديد من أفلام اليوم هي إنتاجات مثالية، مصممة للاستهلاك الفوري. صنع العديد منها عبر مجموعة من الأفراد الموهوبين. لكنهم جميعًا يفتقدون إلى شيء ضروري للسينما: الرؤية الموحدة للفنان الفردي. لأن عامل الفنان المتفرد هو العامل الأخطر على الإطلاق”.
إذًا فالرؤية الفردية للفنان، شديدة الخصوصية، هي ـ من وجهة نظر سكورسيزي – العامل الأساسي في صناعة السينما الحقيقية، نتفق أو نختلف مع هذا الرأي، بيد أننا نحتاج إلى دراسة وافية للأفلام التجارية ومدى تأثيرها على السوق، ليس المادي فقط، بل الفني أيضًا، لمعرفة إلى أي مدى يمكن أن تؤثر على ذائقة المشاهد.