يبدو أن قرار الرئيس الأمريكي جو بايدن الذي أعلنه في 8 مارس/آذار الحاليّ بشأن حظر واردات النفط والغاز الطبيعي من روسيا، كأحد وسائل التصعيد والضغط على موسكو بسبب الحرب في أوكرانيا، سيكون له ارتدادت قوية تنعكس بشكل أو بآخر على خريطة التحالفات الدولية.
القرار الذي قوبل بردود فعل متباينة على المستوى الأوروبي، وإن حظي ببعض الدعم كما هو الموقف البريطاني، دفع إدارة الرئيس الأمريكي إلى البحث عن بدائل ثابتة لتعويض الحصة الروسية النفطية التي تشكل 8% للأمريكان وأكثر من 40% للأوروبيين، الأمر الذي يتطلب تنازلات قد تكون مؤلمة.
وبمنطق ميكافيللي بحت، بدأت كل من واشنطن ولندن طرق أبواب الخصوم القدماء، كإيران وفنزويلا، الموقع عليهما عقوبات اقتصادية فادحة من الغرب، هذا بخلاف محاولة فتح صفحة جديدة في العلاقات مع السعودية رغم التوتر الملحوظ الذي تشهده العلاقات معها منذ ولاية بايدن.
وتنتج الدول الثلاثة (السعودية – إيران – فنزويلا) قرابة ثلث إنتاج العالم من النفط والغاز معًا، وهو المحرك الأساسي الذي أسال لعاب الغرب، ودفعه للتخلي عن مواقفه السياسية الخشنة إزاء تلك النظم، ما قد ينبئ بخريطة جديدة للتحالفات تتبدل فيها أماكن ويعاد تموضع أخرى وفق السردية الجديدة التي فرضتها الحرب ضد أوكرانيا وكواليسها.
حظر النفط الروسي.. مأزق بحاجة لبديل عاجل
القرار الأمريكي عزز من مخاوف سوق الطاقة المتصاعدة منذ فجر الخميس 24 فبراير/شباط الثاني الماضي حين بدأت موسكو في شن هجماتها ضد أوكرانيا، فاقتربت الأسعار من حاجز 140 دولارًا للبرميل الواحد، في قفزة لم تشهدها منذ عقد كامل.
ورقيًا.. ربما تكون الولايات المتحدة الأقل تضررًا من هذه الخطوة التصعيدية، إذ تشكل الواردات النفطية الروسية 8% فقط من احتياجات الأمريكان، بواقع 90 ألف برميل من النفط الخام يوميًا، حسب الأرقام الرسمية الصادرة في ديسمبر/كانون الأول الماضي، مقارنة بـ4.1 مليون برميل تستوردها من كندا و492 ألف من المكسيك و472 ألف من السعودية بجانب 223 ألف من العراق.
ربما تجد السلطات السعودية في هذا التطور فرصتها الكبيرة لاستعادة ثقلها ومكانتها على خريطة الإدارة الأمريكية التي عانت من تهميش وانتقادات منذ تولي بايدن السلطة بداية العام الماضي
أما على المستوى الأوروبي، فإن روسيا التي تأتي في المرتبة الثانية في إنتاج النفط عالميًا بنسبة 14% من إنتاج العالم خلال العام الماضي بحسب معهد أكسفورد لدراسات الطاقة، تحصل على قرابة 60% من صادرات روسيا من النفط الخام، نظير 35% تحصل عليها بلدان آسيا.
ويشير المعهد إلى اعتماد أوروبا على النفط الروسي بنسبة 33% من احتياجاتها السنوية، مقابل أكثر من 40% من الغاز الطبيعي، لافتًا إلى أن القارة الأوروبية وبالأسعار الحاليّة للطاقة تدفع يوميًا 350 مليون يورو (382 مليون دولار) لموسكو مقابل الصادرات النفطية.
التقارير الإحصائية تذهب إلى أن الروس ينتجون يوميًا 11 مليون برميل من النفط، يستخدم نصف هذا الرقم لتلبية الاحتياجات الداخلية، أما النصف المتبقي والمقدر بنحو 5.5 مليون برميل فيتم تصديره للخارج، نصف هذا الرقم يوجه لأوروبا عبر خطوط الأنابيب وبأسعار تنافسية مقارنة بخطوط النقل التقليدية الأخرى باهظة الثمن.
أمريكا تطرق باب “المنبوذين”
الوضعية الحرجة التي بات عليها الغرب إزاء القرار الأمريكي الذي يبدو أنه جاء بصورة أحادية رغم تصريحات التنسيق مع بقية الحلفاء، وهو ما تترجمه ردود الفعل المتباينة التي وصلت إلى إقرار العديد من دول أوروبا بعدم الالتزام بالخطوة الأمريكية نظرًا لتبعاتها الصعبة، ستقود واشنطن حتمًا إلى البحث عن بدائل سريعة لتعويض العجز المتوقع في الإمدادات.
الخطوة الأولى في هذا الاتجاه كانت الإفراج عن ملايين البراميل من المخزون الاحتياطي الإستراتيجي الأمريكي لمحاولة تطويق جنون الأسعار وفرض حالة من التوازن النسبي، غير أن انتقادات حادة تعرضت لها إدارة بايدن بسبب تلك الخطوة وسياستها بصفة عامة تجاه البيئة وتغير المناخ التي كان لها دور في تهديد استقلال الطاقة في الولايات المتحدة وغرب أوروبا، الأمر الذي جاء في مصلحة روسيا وتعزيز سلاح النفط والغاز لديها كأحد الأسلحة القوية القادرة على إرغام الغرب على قبول أوضاع ما يمكن لهم أن يقبلوها في الأوقات العادية.
ومع فشل الخطوة الأولى في تحقيق الأهداف المنشودة، لم يعد أمام الإدارة الأمريكية والبريطانية على حد سواء، إلا البحث عن مسارات بديلة، كان أبرزها طرق أبواب الخصوم والمنبوذين، كما هو الحال مع السعودية، تلك الدولة التي وصف بايدن علاقات بلاده بها خلال حملته الانتخابية الرئاسية 2020 بأنها “منبوذة”، فضلًا عن تعميق الخلاف معها بامتناعه عن مخاطبة ولي العهد محمد بن سلمان الذي حمّله مسؤولية قتل الصحفي جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده بإسطنبول.
الأمر كذلك مع إيران، الواقعة تحت مقصلة العقوبات الأمريكية والغربية منذ سنوات، التي تحيا العلاقات معها واحدة من أسوأ مراحلها على مر التاريخ خلال ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب، الوضع ذاته مع فنزويلا، الحليف الروسي والخصم الأمريكي التقليدي، حيث اتخذت واشنطن خطوة غير مسبوقة بزيارة وفد حكومي للعاصمة كاراكاس، علمًا بأن الولايات المتحدة كانت قد فرضت عقوبات تمنع التعامل مع شركات النفط والبنوك الفنزويلية، بجانب العقوبات المفروضة على الرئيس نيكولاس مادورو الذي لا تعترف به واشنطن.
اليوم تطرق واشنطن باب طهران، حاملة معها حزمة من المغريات، سرعة الإنهاء من الاتفاق النووي الذي انسحب منه ترامب في 2015 والحديث عن رفع العقوبات المفروضة على النفط والمعاملات البنكية وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
السعودية.. حسابات ابن سلمان
في 8 من الشهر الحاليّ كشفت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية رفض السعودية والإمارات الرد على اتصالات هاتفية من الرئيس بايدن لمحاولة إقناع البلدين بزيادة الإنتاج في محاولة للحد من تداعيات حظر النفط الروسي، لافتة إلى رغبة أمريكية ملحة في الاستعانة بالمملكة وحلفائها لتعويض العجز.
السلطات السعودية ربما تجد في هذا التطور فرصتها الكبيرة لاستعادة ثقلها ومكانتها على خريطة الإدارة الأمريكية التي عانت من تهميش وانتقادات منذ تولي بايدن السلطة بداية العام الماضي، وفي السياق ذاته فالفرصة أمامها لرد الاعتبار من المعاملة المهينة التي كان يتعامل بها الرئيس الأمريكي مع ولي العهد الذي رفض التحدث إليه طيلة الـ14 شهرًا الماضية، مكتفيًا بالتحدث مع نظيره الملك سلمان البالغ من العمر 86 عامًا.
المواجهة الأولى بين الطرفين، التي اعتبرها البعض أول صدام حقيقي منذ تقلد بايدن مقاليد الأمور، كانت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حين طلبت الإدارة الأمريكية من السعودية زيادة إنتاج النفط لتعويض الخلل الذي أحدثته الجائحة وتداعيات الغلق الذي دام فترة طويلة، حينها رفضت الرياض الانصياع للرغبة الأمريكية، لتنسق مع روسيا لعدم زيادة الإنتاج، ما كان له أثره على شعبية الرئيس الديمقراطي داخليًا.
الأمريكان يعلمون جيدًا أن السعودية بجانب الإمارات وحدهما القادرتين على تعويض هذا النقص، كونهما البلدين الوحيدين في العالم اللذين لديهما فائض في الإنتاج، فبحسب الوكالة الدولية للطاقة الذرية فإن لدى البلدين فائض يقدر بنحو 2.5 مليون برميل، منهم مليونان في السعودية وحدها، وفي المقابل يعلم السعوديون قيمة وحجم وتأثير هذا السلاح.
الفرصة سانحة اليوم أمام ولي العهد السعودي لرد الاعتبار أمام بايدن الذي طالما انتقده وتجاهله، كما أنها فرصة لا تعوض لغلق الكثير من الصفحات التي مثلت صداعًا في رأس الأمير الشاب، أبرزها الملف الحقوقي برمته وعلى رأسه قضية جمال خاشقجي، يعلم الأمريكان أن التنازلات ستكون مؤلمة، لكن وبنفس المبدأ الميكافيللي الأمريكي فالأمور قابلة للتسوية حفاظًا على مصالح واشنطن المرتبطة في المقام الأول باستقرار سوق الطاقة.
المعادلة في سرديتها تلك ستضع الرياض بين خيارين، أحلاهما مر، فهل تضحي بعلاقاتها مع روسيا المتوطدة بشكل كبير خلال الآونة الأخيرة لأجل خاطر الأمريكان وتعزيز العلاقات معهم؟ وتبقى حسابات الربح والخسارة هي الآمر الناهي في رسم تلك الخريطة خلال الآونة المقبلة.
إيران.. قدم في واشنطن والأخرى في موسكو
بعيدًا عن رفاهية الموقف السعودي في تعدد الخيارات أمامه، يبقى الموقف الإيراني أشد صعوبة وحرجًا، فالمغريات المحتمل أن تقدمها واشنطن ستضع نظام الملالي وسياسته الإقليمية والدولية في اختبار صعب، بين المصالح الاقتصادية المتوقعة مع واشنطن والترابط اللوجستي الإستراتيجي مع موسكو.
دفعت طهران ثمنًا باهظًا جراء العقوبات الغربية المفروضة عليها طيلة سنوات عدة، أفقدت البلاد السواد الأعظم من عوائد ثرواتها، وكبدتها خسائر فادحة أثرت بشكل واضح على استقرار إيران وتصاعد موجات الغضب الشعبي ضد الأنظمة والحكومات.
اليوم تطرق واشنطن باب طهران، حاملة معها حزمة من المغريات: سرعة إنهاء الاتفاق النووي الذي انسحب منه ترامب في 2015، والحديث عن رفع العقوبات المفروضة على النفط والمعاملات البنكية وفتح صفحة جديدة في العلاقات بين البلدين.
السؤال هنا: هل تستطيع طهران تعويض النفط الروسي؟ بالعودة إلى ما قبل العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب على الإيرانيين كانت إيران تنتج 3.8 مليون برميل من النفط يوميًا، لكن بعد العقوبات انخفض الرقم إلى 1.9 مليون برميل ويبلغ حاليًّا نحو 2.4 مليون برميل.
في حال رفع الحظر المفروض على النفط الإيراني، ورغم التراجع الواضح في مستويات المنشآت النفطية خلال السنوات الأخيرة، يتوقع البعض أن تضخ طهران يوميًا أكثر من 500 ألف برميل من النفط لأسواق العالم خلال الأشهر الثلاث القادمة، وبنهاية العام قد تتزايد معدلات الضخ لتصل إلى 1.3 مليون برميل يوميًا، هذا بخلاف الغاز الذي تمتلك إيران ثاني أكبر احتياطي له في العالم، وعليه يمكن أن يكون بديلًا منطقيًا وسريعًا للغاز الروسي.
سياسيًا.. الأمر ليس بالسهل على صناع القرار داخل النظام الإيراني، فقبول المغريات الأمريكية سيخسرهم الحليف الأبرز لهم خلال السنوات الماضية، الذي لطالما شكل حائط صد قوي ضد العقوبات الغربية على طهران، الأمر الذي يتوقع معه أن تناور الدولة الإسلامية قدر الإمكان لتحقيق التوازن في معادلة العلاقات بين واشنطن وموسكو، بالإفراج عن نصيب من إنتاجها للغرب مع الحفاظ على علاقاتها بالروس.
تصميم الرئيس الأمريكي على إزاحة روسيا بالكلية من أوكرانيا على المستوى الجغرافي وعن الاقتصاد الدولي من منظور لوجستي، ربما يكون دافعًا للتخلي عن الكثير من المواقف السابقة، وتبني أخرى تخدم هذا الهدف
فنزويلا.. مادورو قد يكون العقبة
الأسبوع الماضي وفي تطور استثنائي زار وفد حكومي أمريكي العاصمة الفنزويلية، وهي الزيارة الأولى منذ قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في 2019 في أعقاب اتهام ترامب للرئيس نيكولاس مادورو بتزوير الانتخابات الرئاسية لصالحه، معترفًا بالمعارض خوان غوايدو، رئيس مجلس النواب آنذاك، رئيسًا شرعيًا للبلاد.
في 2019 كان الأمريكان يستوردون من كراكاس أكثر من 650 ألف برميل من النفط يوميًا، وبعد فرض العقوبات عليها، بات البحث عن بديل لهذا النفط أمرًا مهمًا، وعليه وجدت واشنطن في النفط الروسي البديل الواقعي لفنزويلا، وبالفعل عوضت موسكو هذا العجز حينها.
اليوم يمكن لفنزويلا أن تعوض النفط الروسي في المعادلة ذاتها، لكن عمليًا فإن الأمر ربما يواجه عقبات وتحديات لوجستية، فرضتها العقوبات الأمريكية التي أثرت بشكل كبير على البنية التحتية للطاقة الفنزويلية، حسبما أشار المتخصص في قطاع الطاقة الفنزويلي في معهد بيكر بجامعة رايس في هيوستن (تكساس)، إيغور هيرنانديز، في حديثه لـ”فرانس 24“.
ويرى الخبير الأمريكي أن المخزون النفطي لفنزويلا يمكنه بشكل كبير تعويض نظيره الروسي، حال استثمار واشنطن في المنشآت النفطية هناك وإعادة تأهيلها بالشكل الذي يعيدها إلى سابق عصرها في معدلات الإنتاج اليومي، لكن هذا الأمر قد يصطدم بموافقة الرئيس مادورو الواقع تحت مقصلة العقوبات الأمريكية طيلة الأعوام الثلاث الأخيرة، ليبقى التساؤل: هل من الممكن أن يقبل بهذه الصفقة؟ رفع العقوبات وتطبيع العلاقات مقابل النفط.
المعضلة هنا – بحسب هيرنانديز – لا تتعلق بخوف مادورو من العقوبات الروسية أو القلق من رد فعل موسكو، فروسيا ذاتها شاركت أمريكا في الإحجام عن ضخ الأموال والاستثمارات في السوق الفنزويلي – رغم العلاقات الجيدة بينهما – منذ عام 2019، غير أن فقدان الثقة في الأمريكان عمومًا يقينًا بأن هذا التحرك وليد ظرف استثنائي، قد يتغير مستقبلًا، ربما يكون العائق الأبرز أمام السلطات الفنزويلية لقبول العرض الأمريكي.
خريطة تحالفات العالم تتغير
إصرار إدارة بايدن على فتح صفحة جديدة في العلاقات مع مادورو الذي لا يتمتع بأي مكانة أو تقدير لا بين الجمهوريين ولا الديمقراطيين في الولايات المتحدة، ومد الأيدي مجددًا لولي عهد السعودية رغم التحفظات والاعتراضات السابقة، والإسراع بإنجاز الاتفاق النووي الإيراني والتلويح بورقة رفع العقوبات إزاء طهران التي شيطنها الشارع الأمريكي على مدار سنوات، تشير إلى توجه ميكافيللي بحت لدى الإدارة الديمقراطية الأمريكية لإعادة رسم خريطة التحالفات وفق سردية تضع في قائمة أولوياتها مصالح البلاد بعيدًا عن أي شعارات أو مبادئ طالما رُفعت للاستهلاك المحلي ودغدغة مشاعر الشارع في أوقات الأزمات والانتخابات.
تصميم الرئيس الأمريكي على إزاحة روسيا بالكلية من أوكرانيا على المستوى الجغرافي وعن الاقتصاد الدولي من منظور لوجستي، ربما يكون دافعًا للتخلي عن الكثير من المواقف السابقة، وتبني أخرى تخدم هذا الهدف وتصب في النهاية في تعزيز نفوذ واشنطن المتداعي في الشرق الأوسط، حتى لو كان من خلال تشابك الأيدي مع “المنبوذين” أمريكيًا.
في ضوء المعطيات السابقة.. من الواضح أن الحرب الروسية الأوكرانية التي تجاوزت بالفعل إطارها الجغرافي الضيق ستكون نقطة تحول كبيرة في مستقبل خريطة التحالفات خلال المرحلة القادمة، فالحسابات الآن فوق رمال متحركة، قابلة للميل وإعادة التموضع في ضوء حسابات كل بلد على حدة، وبصرف النظر عن نتائج ومسارات تلك الرمال لكن المؤكد أن العالم بعد 24 فبراير/شباط 2022 لن يكون بأي حال من الأحوال كما كان قبل هذا التاريخ.