بعد أيام فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا، أصبح طيار أوكراني غير معروف الاسم أول بطل في زمن الحرب، وصار يُطلق عليه اسم “شبح كييف”، ويبدو أن المقاتل الأسطوري أسقط بمفرده عدة طائرات مقاتلة روسية.
نشر الحساب الرسمي الأوكراني على تويتر القصة في مقطع فيديو مثير وضعه على موسيقى صاخبة، يظهر المقاتل وهو ينقض في سماء أوكرانيا على طائرات معادية تحلق من حوله، كما نقلت خدمة أمن أوكرانيا، وهي وكالة الأمن الرئيسية في البلاد، القصة على قناتها الرسمية على تليغرام، التي تضم أكثر من 700 ألف مشترك.
لقيت قصة تفوق طيار واحد على القوات الجوية الروسية جاذبية واسعة على الإنترنت، وذلك بفضل الروايات الرسمية في أوكرانيا، وحصلت مقاطع الفيديو التي تروج للمقاتل الأوكراني على مئات ملايين المشاهدات على مواقع التواصل الاجتماعي، وشارك الآلاف المنشور في مجموعات فيسبوك.
كانت هناك مشكلة واحدة فقط هي أن يكون “شبح كييف” مجرد “أسطورة”، فبينما وردت تقارير عن تدمير بعض الطائرات الروسية في أثناء القتال، لا توجد معلومات تربطها بطيار أوكراني واحد، كذلك الصورة التي يُفترض أنها تؤكد وجود المقاتل وشاركها الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو، كانت مأخوذة من صور نشرتها وزارة الدفاع الأوكرانية على تويتر عام 2019.
На фото – пілот МіГ-29. Той самий «Привид Києва».
Він викликає жах у ворогів та гордість в українців ??
На його рахунку 6 перемог над російськими пілотами!
З такими потужними захисниками Україна точно переможе! pic.twitter.com/GJLpcJ31Si
— Петро Порошенко (@poroshenko) February 25, 2022
تغريدة الرئيس الأوكراني السابق بترو بوروشنكو التي تروج لقصة “شبح كييف” الزائفة
كيف تروِّج روسيا لحربها؟
لا تُقارن مزاعم أوكرانيا – مثل قصة “الطيار الأسطوري” – بالأكاذيب التي تنشرها روسيا، التي أرست الأساس لعملية “العلم الزائف” في الفترة التي سبقت الغزو، وهو سيناريو نفذته روسيا قبل بداية السيطرة على شبه جزيرة القرم ودعم الجيوب الانفصالية في منطقة دونباس عام 2014، ادعى بوتين حينها أن أوكرانيا تقودها “حكومة غربية عميلة للنازيين يرتكبون إبادة جماعية ضد الأوكرانيين الناطقين بالروسية”.
مع اقتراب الغزو الروسي الأخير، سادت مخاوف من تكرار سيناريو “العلم الزائف”، فقد ادَّعت روسيا أنها كانت ترد على العدوان الأوكراني، ومنذ بدء الهجوم، قدمت مزاعم لا أساس لها من الصحة بأن الأوكرانيين قصفوا بشكل عشوائي المستشفيات وقتلوا مدنيين.
وبينما كان العالم يشاهد روسيا تشن حربًا على أوكرانيا، كانت وسائل الإعلام الحكومية الروسية تروي قصةً مختلفةً، وتتبع رواية طرحها الرئيس فلاديمير بوتين صباح يوم الغزو، وأعلن فيها “إجراء عملية عسكرية خاصة لحماية الأشخاص الذين تعرضوا لسوء المعاملة والإبادة الجماعية من النظام في كييف لمدة 8 سنوات”، وتحقيقًا لهذه الغاية، قال بوتين إن الهدف هو “نزع السلاح واجتثاث النازية من أوكرانيا”.
إذا كانت روسيا تحاول الترويج لفكرة تحرير أوكرانيا ممن تسميهم “النازيين الأسطوريين”، فإن أوكرانيا تقارن غزو بوتين بمذابح أدولف هتلر ضد الأوكرانيين في الحرب العالمية الثانية
في حديث بوتين، لا توجد “حرب” ولا يجوز استخدام هذه الكلمة، وبدلًا من ذلك، فرض على آلة الدعاية الروسية التحدث عن “عملية عسكرية خاصة”، اعتبرها بمثابة تحرير للشعب الأوكراني ممن يسميهم “النازيين الجدد” أو “القوميين المتطرفين” في كييف.
كتبت زويا شيفتالوفيتش المحررة في صحيفة “بوليتيكو” أن بوتين أخطأ في الحسابات، ونتيجة لذلك، فإن الذراع الدعائية للدولة الروسية تغذي الروس برسالة خاطئة، كانت الرسالة الدعائية الأخرى للكرملين هي أن أوكرانيا شكلت تهديدًا وجوديًا لروسيا، وأنهم بحاجة إلى إنشاء حاجز بين حلف شمال الأطلسي “الناتو” (وكيل للولايات المتحدة) والاتحاد الأوروبي.
ووفقًا لروسيا، فإن الولايات المتحدة ودول الناتو يهددون السلام، ويحاولون عرض الموقف كأنه ليس صراعًا بين روسيا وأوكرانيا، بل صراع بين روسيا وأمريكا، وهو ما يبدو مهمًا بالنسبة لبوتين في هذه الحملة الدعائية، ليس فقط لتجنب المعلومات السلبية القادمة من أوكرانيا، لكن أيضًا للحفاظ على فكرة أن الغرب يتآمر ضد روسيا، أمضى بوتين السنوات الـ22 الماضية في محاولة منع أوكرانيا من التحالف مع أوروبا الغربية والانسحاب من دائرة نفوذ روسيا.
لإثبات هذه النقطة، لاحظت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأمريكية “تفاخُر المسؤولين والدعاية الروس لسنوات بأن قوات موسكو يمكن أن تجتاح جارتها الأصغر في غضون أيام”، لكن معركة مطار هوستوميل خارج كييف – الذي أرادت روسيا استخدامه لجلب القوات مباشرة إلى العاصمة – أثبتت أنهم مخطئون.
من يقود حرب المعلومات؟
بدلًا من الطريق الذي سلكته موسكو، كان الأوكرانيون فعالين للغاية في إضفاء الطابع الإنساني على الحرب، فقد ركزت الدعاية الأوكرانية عبر الإنترنت إلى حد كبير على المقاومة المدنية وأبطالها والشخصيات التي تساعد في تصوير حكايات الثبات الأوكراني والعدوان الروسي، لكن الدعاية الأوكرانية على وسائل التواصل الاجتماعي أثارت أيضًا أسئلة شائكة عن كيفية التعامل مع المحتوى الخاطئ وغير المثبت في أثناء الحرب.
إذا كانت روسيا تحاول الترويج لفكرة تحرير أوكرانيا ممن تسميهم “النازيين الأسطوريين”، فإن أوكرانيا تقارن غزو بوتين بمذابح أدولف هتلر ضد الأوكرانيين في الحرب العالمية الثانية، لكن أكثر من أي شيء آخر، وضع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي المعيار الجديد باعتباره “رجل الشعب”، فقد استحوذ على الزعماء الأوكرانيين والأجانب من خلال التواصل المستمر من شوارع ومخابئ العاصمة المحاصرة.
تعتبر الحكايات التي تعرض بالتفصيل الشجاعة الأوكرانية أو الوحشية الروسية أمرًا بالغ الأهمية لخطة الحرب في البلاد، وفقًا للخبراء، وهي جزء من عقيدة الحرب الراسخة التي لا تقدر الفوز بالمناوشات الفردية فحسب، بل أيضًا قلوب وعقول المواطنين والمراقبين الدوليين.
لاحظ الخبراء أن تلك المعركة الرقمية تحركت بسرعة مذهلة، وذلك باستخدام مجموعة من حسابات وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية الرسمية والمؤتمرات الإخبارية التي تم بثها عبر الإنترنت لنشر رسالة أوكرانيا.
لكن في بعض الأحيان تشق المعلومات الخاطئة طريقها إلى هناك أيضًا، وتصل إلى العديد من الجماهير بسبب البيئة العامة للحرب، وتتضمن قصصًا “مفبركة” تعود إلى أساطير الحرب الأكثر فاعلية في الماضي.
مع تصاعد الحرب، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي العمود الفقري للاحتجاجات المناهضة للحرب، والقناة الرئيسية لتداول المعلومات – سواء تم التحقق منها أم لا – رغم حملة القمع المكثفة من الشرطة والمشرِّعين
كان هذا هو الحال مع تقرير آخر من أوكرانيا يتضمن مواجهة ملحوظة في “جزيرة الأفعى”، وهي نقطة استيطانية في البحر الأسود، وفقًا لتسجيل صوتي نشرته “أوكراينسكا برافدا”، وهي صحيفة أوكرانية ذات شعبية، وتحقق منه لاحقًا المسؤولون الأوكرانيون، تلقى 13 من حرس الحدود إنذارًا مخيفًا من وحدة عسكرية روسية متقدمة: “استسلموا أو واجهوا هجومًا”، ورد الأوكرانيون بدلًا من ذلك بكلمة بذيئة، قبل أن يُقتلوا على ما يبدو.
انتشر صوت الجنود على وسائل التواصل الاجتماعي، وحصل المقطع الذي نشرته الصحيفة الأوكرانية في 24 فبراير/شباط على أكثر من 3.5 مليون مشاهدة على موقع يوتيوب، وأعلن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي شخصيًا عن الوفيات في مقطع فيديو، قائلًا إن كل جندي سيُمنح لقب بطل أوكرانيا، لكن بعد أيام فقط، أكد المسؤولون الأوكرانيون في منشور على فيسبوك أن الرجال ما زالوا على قيد الحياة، وأن القوات الروسية أسرتهم.
حرب السوشيال ميديا في أوكرانيا
كانت هذه القصص التي انتشرت بسرعة البرق على وسائل التواصل الاجتماعي للقادة الشجعان والقوات أدوات قوية في توحيد الأوكرانيين وراء جهود المقاومة، ويقول الخبراء إن قصصًا مثل “شبح كييف” و”جزيرة الأفعي” – وكلتاهما مشكوك في صحتها – تمثل نوعًا من الدعاية التي يحاول الأوكرانيون من خلالها الحفاظ على الروح المعنوية العالية بين المقاتلين وحشد الدعم العالمي لقضيتهم.
الأهم من ذلك أن الهجوم الإعلامي الأوكراني أثبت فعاليته في روسيا نفسها، حيث تنتشر مقاطع الفيديو الخاصة بزيلينسكي وقصص الأبطال العسكريين الأوكرانيين كالنار في الهشيم بروسيا عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل منصة “تليغرام” التي تضم 38 مليون مستخدم شهريًا في روسيا.
على عكس القنوات التليفزيونية والمحطات الإذاعية الحكومية، لا تملك الحكومة الروسية سيطرة مباشرة على هذه القنوات، نتيجة لذلك، تنتشر المعلومات المناهضة للحكومة دون عوائق، فعلى سبيل المثال، شوهد خطاب زيلينسكي في 3 مارس/آذار أكثر من 300000 مرة وحصل على 8000 إعجاب على قناة تليغرام واحدة فقط يديرها مغني الراب الروسي أليشر تاجيروفيتش مورغنشتيرن. ربما لم يعد هذا الفيديو موجودًا الآن.
مع تصاعد الحرب، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي العمود الفقري للاحتجاجات المناهضة للحرب، والقناة الرئيسية لتداول المعلومات – سواء جرى التحقق منها أم لا – رغم حملة القمع المكثفة من الشرطة والمشرِّعين، ومُنحت شركات التكنولوجيا دورًا في حرب المعلومات أيضًا.
على سبيل المثال، وضع تويتر علامة على مقطع فيديو “شبح كييف” تشير إلى أنه “زائف”، لكن المقطع المنشور على الحسابات الرسمية الأوكرانية لم يتلق مثل هذا الإبلاغ، كذلك الأمر بالنسبة للصورة الزائفة التي نشرها الرئيس الأوكراني السابق بترو بوروشنكو على حسابه الشخصي بموقع تويتر.
لكن على الرغم من وجود نافذة للحصول على معلومات موثوقة على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن هناك أيضًا قدرًا هائلًا من المعلومات المضللة المتداولة على المنصات، فقد استمرت الروايات المغلوطة مع تصاعد الحرب، وكشفت عن معالم حرب المعلومات التي لم تستهدف الجماهير الغربية فحسب، بل تستهدف المواطنين الروس أيضًا.
في الأمم المتحدة، تبادل السفير الأوكراني سيرجي كيسليتسيا، خلال الأسبوع الأول من الغزو الروسي، سلسلة من الرسائل النصية قال إنها انتُزعت من هاتف جندي روسي مقتول.
“ماما، أنا في أوكرانيا، هناك حرب حقيقية تدور رحاها هنا، أنا خائف”، كتب الجندي الروسي على ما يبدو التي قرأها كيسليتسيا باللغة الروسية، بدت الحكاية كأنها تستحضر رواية قدَّمها المسؤولون، وجرى مشاركتها على نطاق واسع على وسائل التواصل الاجتماعي مفادها أن الجنود الروس مدربون تدريبًا سيئًا وصغارًا جدًا، ولا يريدون محاربة جيرانهم الأوكرانيين.
يقول الخبراء إن هذه القصة، سواء كانت صحيحة أم لا، تبدو مصممة خصيصًا للمدنيين الروس، خاصة الآباء القلقين بشأن مصير أطفالهم المجندين، ويبدو هذا تكتيك قديم يحاول الأوكرانيون استخدامه، وذلك لجذب انتباه الأمهات والعائلات في روسيا بعيدًا عن الأهداف العظيمة للحرب بدلًا من التكاليف البشرية للحرب.
من المؤكد أنه من الصعب قياس ردود فعل الروس ومشاعرهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومع ذلك، كان رد الحكومة الروسية واضحًا، ففي أول مارس/آذار، اختارت الآلة الدعائية الروسية شن هجوم متعدد المنصات على قصة “شبح كييف”، وشجبت صحيفة “برافدا” التي كانت الداعم الإعلامي خلال الفترة السوفييتية، الحكاية ووصفتها بأنها “أشبه بأسطورة دعاية أكثر من كونها شخصًا حقيقيًا”.
صنفت منظمة “مراسلون دون حدود” روسيا على أنها تحتل المرتبة 150 من أصل 180 دولة من حيث حرية الصحافة العام الماضي
كذلك زعمت صحيفة “سفوبودنايا بريسا” الروسية أن الطيار هو أولكسندر أوكسانتشينكو أفضل الطيارين المقاتلين في العالم ونائب المجلس البلدي لمدينة ميرغورود، الذي قتل مطلع مارس/آذار الحاليّ، واتهمته على الفور بقصف الروس في دونباس عام 2014.
يخبرنا مجرد الحديث عن هذه القصص بشيء ما، إذ يبدو من الواضح أن جهاز الدعاية الروسية يعتبر أن القصة قد انتشرت إلى مستهلكي وسائل الإعلام (الصحف والتليفزيون التي تسيطر عليها الحكومة) الأكبر سنًا في روسيا، الذين لا يستخدمون منصات مثل “تليغرام”، إذا كان الأمر كذلك، فإن المعلومات المؤيدة لأوكرانيا تنتقل بشكل أفقي من منصات وسائل التواصل الاجتماعي مثل “تليغرام” إلى مجال المعلومات الأوسع.
حرب دعاية بوتين ضد شعبه
بمجرد غزو أوكرانيا، اشتدت حملة القمع التي يشنها الكرملين على الحريات الإعلامية، ففي الأيام الأخيرة، قامت روسيا بتصفية إحدى أقدم محطاتها الإذاعية، المحطة الليبرالية الوحيدة المتبقية في البلاد، صدى موسكو، وأوقف بث محطة التليفزيون “Dozhd” – المعروفة أيضًا باسم “TV Rain”، وهي آخر قناة تليفزيونية إخبارية روسية مستقلة تأسست عام 2010 – التي كانت شوكة طويلة في قلب النظام.
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للصحافة المستقلة التي تقبع تحت ضغط شديد، ويرجع ذلك جزئيًا إلى ندرة التقارير المستقلة في روسيا، فقد صنفت منظمة “مراسلون دون حدود” روسيا على أنها تحتل المرتبة 150 من أصل 180 دولة من حيث حرية الصحافة العام الماضي، قائلة إن القنوات التليفزيونية الرئيسية استمرت في تلقين المشاهدين بالدعاية، وأن قوانين غامضة وانتقائية استخدمت لسجن المدونين.
على الرغم من حظر العديد من مواقع الوسائط الإعلامية المستقلة في روسيا، لا يزال من الممكن الوصول إليها عن طريق “VPN” – الشبكات الخاصة الافتراضية التي تخفي عناوين بروتوكول الإنترنت “IP” للمستخدمين حتى لا يتمكن مزودو الإنترنت أو الحكومة من معرفة المواقع التي يزورونها -، وقد ارتفع الطلب في روسيا على تطبيقات “VPN” منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا.
تحاول الحكومة ممارسة سيطرة غير مسبوقة على مجال وسائل التواصل الاجتماعي، فأعلنت الدائرة الاتحادية لرقابة الاتصالات وتقنية المعلومات والإعلام (Roskomnadzor)، حظر أكبر منصات التواصل الاجتماعي في العالم، تويتر وفيسبوك، متهمة إياهما بأكثر من عشرين حالة “تمييز” ضد وسائل الإعلام الروسية، ولا تزال تفكر في عرقلة الوصول إلى “يوتيوب”، وقد يكافح النظام لإغلاق الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي الأجنبية، خاصة قنوات “تليغرام” المستقلة تمامًا.
بعد أسبوع فقط من الحرب الروسية الأوكرانية، كان أداء روسيا ضعيفًا في كل من ساحة المعركة وفي مجال الدعاية، وتبخرت أي آمال قد تكون لدى الرئيس الروسي بشأن ذوبان المعارضة العسكرية والشعبية
يومًا بعد يوم، تزداد صعوبة الحصول على معلومات مستقلة عن الحرب، ويبدو الأمر الأكثر إثارة للقلق أن مشروع قانون جديد وقعه بوتين يهدد بالسجن لمدة تصل إلى 15 عامًا لمن ينشرون أخبارًا كاذبة عن أنشطة القوات الروسية، وفي غضون ذلك، أفاد الروس الذين يحاولون عبور حدودهم أنهم مجبرون على فتح أجهزتهم وإظهار رسائلهم الشخصية وقنوات تليغرام لأفراد الأمن.
نظرًا لحب النظام الروسي للمعلومات المضللة، فمن غير الواضح كيف سيتم تمييز الأخبار المزيفة عن الواقعية، فالقدرات التقنية لروسيا لا تقترب من مثيلتها في الصين، التي استغرقت أكثر من عقد من الزمن لبناء خدمات الإنترنت الخاصة بها بالكامل، ومن ناحية أخرى، ربما توفر تصرفات نظام الرئيس ألكسندر لوكاشينكو في بيلاروسيا المجاورة نموذجًا سيتبعه بوتين.
هل خسرت روسيا حربها الدعائية؟
تعمل روسيا على صقل مهاراتها في مجال المعلومات المضللة على الأقل منذ أن فرض البلاشفة (أنصار لينين في حزب العمال الاشتراكي الديمقراطي الروسي) سيطرتهم عام 1917، وفي ظل حكم بوتين – ضابط المخابرات السابق – عزز الكرملين قدرات العمليات الإلكترونية الفعالة والمخيفة على نطاق واسع.
وتخوض روسيا، إلى حد كبير، آخر حروبها المعلوماتية، فقد أمضت الحكومات الغربية وشركات التواصل الاجتماعي معظم العقد الماضي في محاربة حملات التضليل الروسية، ولم تنتج روسيا حتى الآن العديد من الحيل الجديدة.
عندما أعطى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأمر بغزو أوكرانيا، توقع معظم المحللين غزوًا سريعًا من القوات العسكرية الروسية المتفوقة بشكل كبير، لم يحدث ذلك على أرض الواقع، وقال غراهام شيلينبرغر، خبير الدعاية في شركة “ميبورو سوليوشنز” الاستشارية، لشبكة “فوكس نيوز” الأمريكية: “من المفاجئ أيضًا أن أوكرانيا تفوز في حرب المعلومات”.
فبعد أسبوع فقط من الحرب الروسية الأوكرانية، كان أداء روسيا ضعيفًا في كل من ساحة المعركة وفي مجال الدعاية، وتبخرت أي آمال قد تكون لدى الرئيس الروسي بشأن ذوبان المعارضة العسكرية والشعبية، وأثبت خصومه الأوكرانيون مهارتهم في التلاعب بالروايات التاريخية ونشرها عبر وسائل التواصل الاجتماعي لتعزيز الوحدة في الداخل وزرع السخط بين السكان الروس المنقسمين بشأن استحقاق الحرب.
ركزت جهود الدعاية الأوكرانية على رسم التناقضات بين الرئيس الأوكراني فلادمير زيلينسكي ونظيره الروسي بوتين، سجل الرئيس الأوكراني الهادئ سلسلة من مقاطع الفيديو المخصصة على ما يبدو من كييف المحاصرة، عاصمة أوكرانيا، يصور نفسه وأعضاء حكومته في مواقعهم حتى مع تقدم القوات الروسية، وخاطب الروس بشكل مباشر وبالروسية – وهي خطوة مهمة بالنظر إلى مزاعم بوتين المفرطة عن القمع الأوكراني للناطقين بالروسية – داعيًا إلى السلام، وبدا أنه لا يُظهر أي خوف في ظهوره الإعلامي.
في غضون ذلك، ظل بوتين مختبئًا بعيدًا عن الأنظار، واقتصر ظهوره على خطابات مسجلة مسبقًا، وخاطب المشاهدين على أنهم “الأمة” وليس “أنتم”، واجتمع حتى مع مستشاريه وجنرالاته في غرف اجتماعات واسعة، مزينة بألواح الروكوكو، في أماكن مجهولة.
“ما نراه من روسيا اليوم لا يتخطى حدود آلة دعاية راكدة تعرف كيف تخلق الفوضى وتشوه الأوروبيين” يقول الباحث الروسي البارز إيان غارنر
في مؤتمر صحفي في 3 مارس/آذار، أكد زيلينسكي – الذي كان يتحدث باللغة الروسية، لغته الأولى – على التناقض بين الزعيمين: “اجلس معي على طاولة المفاوضات. أنا لست مشغولًا. تعال اجلس معي! لست بحاجة إلى الابتعاد عني إلا مسافة 30 مترًا مثل ماكرون (الرئيس الفرنسي إيمانويل) وشولتس (المستشار الألماني). أنا جارك.. أنا لا أعض. أنا رجل عادي. من ماذا أنت خائف؟”.
إذا كان المشاهدون والقراء في روسيا يتشبثون بالروايات الأوكرانية، فإن جهود الدعاية الحكومية تتراجع حتى الآن، ولا تزال الحكومة ترفض تسمية الحرب بأي شيء إلا “عملية عسكرية خاصة”، نتيجة لذلك، فشلت محاولات الجماعات الرسمية مثل “الجيش الشاب” أو “جمعية الحركة القومية العسكرية الوطنية العسكرية” – وهي منظمة شبابية شبه عسكرية تأسست أكتوبر/تشرين الأول 2015، وتدعمها وتمولها الحكومة وتدعي أن لديها أكثر من مليون عضو – في إثارة الحماس العام لما يبدو أنه صراع طويل وصعب.
في مواجهة هذا التناقض السخيف تقريبًا – الحاجة إلى التحفيز مقابل الحاجة إلى التظاهر بأن الحرب ليست غزوًا على الإطلاق – وجدت وسائل الإعلام الحكومية نفسها تتخذ مواقف منحرفة.
في 3 مارس/آذار، ناقشت القصص الخمسة الأكثر قراءة في “أرجومنتي إي فاكت”، وهي صحيفة روسية رائدة تعرضت للهجوم من السلطات السوفيتية بسبب آرائها التقدمية – ثلاثة موضوعات عسكرية: الهجمات الأوكرانية المفترضة على المدنيين، والخطط الأوكرانية المتخيلة لبناء أسلحة نووية، وخطط زيلينسكي المتخيلة للاستسلام لبوتين، وموضوعين ماليين: إعادة فهرسة المعاشات التقاعدية بسبب العقوبات واقتراح عطلة بسبب ارتفاع معدلات التضخم.
وأشار استبيان عن القصص الرائدة على “برافدا”، أكبر صحف العالم توزيعًا خلال الفترة السوفييتية، في 4 مارس/آذار، إلى تجاهل الأخبار المالية السيئة مثل عدم ارتباط ارتفاع الأسعار بالعقوبات، وعدم ارتباط الشركات الغربية بالعقوبات وانسحابها بسبب السياسات الروسية، وعلاقة العقوبات بارتفاع أسعار النفط الذي سيساعد روسيا ويضر الغرب.
على عكس حكايات الجانب الأوكراني عن أناس عاديين يدافعون بشجاعة عن المدنيين، من غير المرجح أن يزيد هذا المحتوى الإمبريالي الجديد والدفاعي من الدعم الشعبي للحرب في الداخل الروسي، خاصة بعد أن بالغ نظام بوتين في تقدير قدرته على كسب الحرب الدعائية.
بحسب ما كتب الباحث الروسي البارز إيان غارنر في سلسلة تغريدات على تويتر، فإن ما نراه من روسيا اليوم لا يتخطى حدود “آلة دعاية راكدة تعرف كيف تخلق الفوضى وتشوه الأوروبيين”، ولا ترقى إلى كونها آلة دعاية لإمبراطورية سابقة، ويضيف “إنها ليست سريعة الحركة ولا تعرف كيف تستجيب للأحداث الجارية والجهود الأوكرانية والغربية القوية”.
تبدو الرواية الروسية – بحسب غارنر – أشبه بالحرب العالمية الأولى – قيصر إمبراطوري منفصل يوجه قواته في حرب مجردة ضد معارضة إمبريالية – أكثر من المجهود “الشامل” للحرب العالمية الثانية عندما – حتى في ظل ستالين – كان السكان متحدين في رغبتهم في محاربة النازيين، لذلك، لا يبدو أن هناك تأثيرًا دعائيًا روسيًا كبيرًا، على المدى الطويل، مقابل المواد الأوكرانية الأكثر وضوحًا باللغة الروسية.