يصعب التصديق أن روسيا ستقحم جيشها في حرب ضروس داخل أراضي الجارة الأوكرانية دون حسابات دقيقة تضع السيناريوهات كافة على طاولة الاحتمالات، وعلى رأسها آليات التصدي للعقوبات الغربية المتوقعة، حتى إن زادت عن السقف المحتمل مقارنة بالتجارب السابقة منذ 2014.
حين أعطى الرئيس فلاديمير بوتين شارة البدء لشن الهجوم العسكري ضد أوكرانيا فجر الخميس 24 فبراير/شباط الماضي، كان يعي – بشكل يفترض أن يكون موضوعيًا – ما لديه من أوراق ضغط يمكن استخدامها وتوظيفها حسب مجريات الأحداث ووفق السردية المتطورة ميدانيًا من جانب، وتعاطيًا مع تطورات رد الفعل الغربي من جانب آخر.
التصعيد الغربي غير المسبوق ضد موسكو، الذي شمل كل نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والسجال الإعلامي بين الطرفين خلال الساعات الماضية والتلويح باستخدام كل طرف لما لديه من أوراق ضغط قادرة على تعزيز موقفه على الأرض، أثار الكثير من التساؤلات عما يملكه الروس من تلك الأوراق ومدى قدرتها على إحداث الفارق بما يمتص مخاطر العزلة التي تتعرض لها روسيا يومًا تلو الآخر.
الغاز.. السلاح الأبرز
تنتج روسيا يوميًا قرابة 11 مليون برميل من النفط، تصدر منها 5 ملايين تمثل 12% من تجارة النفط العالمي، بما يساوي 700 مليون دولار يوميًا، فيما تحتفظ بالنصف الآخر لاحتياجاتها الداخلية، وتعتبر ثاني أكبر مورد للنفط لأوروبا والولايات المتحدة، 40 و8% على الترتيب.
وعلى مستوى الغاز، تصدر 23 مليار متر مكعب يوميًا، وتعتبر المورد الأول والأكبر لدول أوروبا التي يلبي الغاز الروسي نصف احتياجاتها تقريبًا، إذ إن أكثر من 70% من صادرات الغاز الروسي وقرابة 50% من صادرات النفط تذهب إلى أوروبا.
تلبي روسيا احتياجات معظم دول أوروبا من الغاز، وفي حال انقطاعه ستتعرض الكثير من تلك الدول لأضرار بالغة، وهو ما يمكن الوقوف عليه من خلال نسب اعتماد عواصم القارة العجوز على الغاز الروسي، فهناك خمس دول فقط تمثل 50% من الصادرات الروسية: ألمانيا 16% وإيطاليا 12% وفرنسا 8% وبيلاروسيا 8% وتركيا 6%، هذا بجانب الصين 5% وهولندا 5% وكازاخستان 5% والنمسا 5% واليابان 4% والمملكة المتحدة 4% وبولندا 4% والمجر 3%، فضلًا عن دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 10%.
تهديد الأمن الغذائي
تمثل روسيا ضلعًا أساسيًا في قائمة الأضلاع الرئيسية لمنظومة الأمن الغذائي العالمي، إذ تعد أكبر مصدر للقمح في العالم، والمرتبة ذاتها في إنتاج الشعير، فيما تحتل أوكرانيا المرتبة الخامسة، وكلتاهما تغطي ما نسبته 14% من إجمالي القمح الذي يتم تصديره عالميًا، و19% من إمدادات الشعير.
ولدى روسيا أكثر من 10 ملايين هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، ما أهلها لأن تتحكم في كثير من السلع والمحاصيل والحبوب التي تشكل عصب الحياة لشعوب العالم، فهي ثاني أكبر منتج لبذور عباد الشمس، وثالث أكبر منتج للبطاطا والحبوب، وخامس أكبر منتج للبيض ولحوم الدجاج في العالم، هذا بخلاف كونها مصدرًا أسياسيًا للأسمدة المستخدمة في الزراعة.
الهزة التي أحدثتها الحرب تعيد للأضواء هذا السلاح الذي تمتلكه موسكو ومن المرجح أن تلعب به لخدمة أجندتها ولدعم موقفها المتداعي ميدانيًا في ظل تضييق الخناق الغربي عليها، ومن المتوقع حال توظيف سلاح الغذاء والحبوب أن يتعرض العالم لهزة قوية في الأسعار ومن ثم زيادة معدلات التضخم لمستويات قياسية.
الصناعة.. عجز في بنيتها الأساسية
بجانب التداعيات السلبية المتوقعة لتوظيف سلاح الغاز الروسي على خريطة الصناعة العالمية التي تعتمد في المقام الأول على هذا النوع من الطاقة لإدارة عجلات الإنتاج، فإن الثروات التعدينية والمعدنية التي تملكها موسكو وتشغل بنسبة كبيرة معظم مصانع العالم ستعزز من هذا السلاح وتعرض خريطة الصناعة للخطر.
روسيا تعد المنتج الرئيسي للعديد من المواد الأولية التي تعتمد عليها الكثير من الصناعات الثقيلة تحديدًا، إذ تمثل 7% من صادرات العالم من الحديد و4% من النحاس و13% من البلاتينيوم، والألماس 33% والألومنيوم 26%، فضلًا عن الخشب والألماس والمطاط الصناعي.
علاوة على ذلك تتداخل روسيا بثرواتها المعدنية في كثير من الصناعات العسكرية عالية الدقة، التي تشمل عربات مدرعة ومقاتلات نفاثة من الجيلين الثالث والرابع، كما أنها مصدر رئيسي لتغذية العديد من خطوط الإنتاج الصناعي الدفاعي في العالم، الأمر الذي ربما يثير مخاوف البعض إزاء مستقبل تلك الصناعات حال تغيير موسكو خريطة صادراتها من تلك المواد الأساسية.
التجارة الدولية.. هزة في الأسواق الناشئة
تتمتع روسيا مع دول الاتحاد الأوروبي – قبل الحرب – بشبكة علاقات تجارية واسعة النطاق، إذ تشير التقارير إلى أن حجم التبادل التجاري بين الطرفين وصل 218.8 مليار دولار، وفقًا لبيانات مصلحة الجمارك الفيدرالية الروسية، رغم تراجعه عن العام قبل الماضي بنسبة 21.3%.
ويصل حجم الصادرات الروسية لدول الاتحاد 136.7 مليار دولار مقابل 82.1 مليار حجم الواردات من أوروبا، بينما شهدت حصة الاتحاد الأوروبي في التجارة الخارجية لروسيا تراجعًا خلال العام الماضي لتصل إلى 38.5% مقارنة بما كانت عليه في 2019 حين بلغت 41.6%.
وتلبي روسيا الكثير من الاحتياجات الأوروبية الأساسية في مجال السلع والخدمات، الأمر الذي يتوقع معه أزمة كبيرة داخل الشارع الغربي حال وقف هذا الإمداد الذي ظل لسنوات طويلة النافذة الأساسية للعواصم الأوروبية لتلبية رغبات مواطنيها المتصاعدة خلال السنوات الأخيرة، فمن المرجح أن تزداد معدلات التضخم في البلدان الناشئة بنسبة كبيرة، رغم الجهود المبذولة حاليًّا لاحتواء هذا التداعي برفع أسعار الفائدة.
تهديد خريطة الاستثمار العالمي
وفقًا للمسح السنوي السادس لغرفة التجارة الأمريكية في روسيا العام الماضي، بلغ الحجم الإجمالي للاستثمار المباشر من الشركات الأمريكية في روسيا 96.05 مليار دولار، فيما أبدت 78% من الشركات قلقها من التأثير السلبي للعقوبات الأمريكية على أعمالها في روسيا.
على المستوى الأوروبي، يعد الاتحاد هو الشريك التجاري الأول لروسيا، إذ يستورد قرابة 37% من إجمالي ما تصدره موسكو من سلع وخدمات، وقد بلغت قيمة الواردات الروسية من الاتحاد الأوروبي 36.5% من مجموع الواردات الروسية، في المقابل وصلت الصادرات الروسية للاتحاد الأوروبي إلى 37.9% من مجموع الصادرات الروسية.
وتحتل روسيا المرتبة التاسعة بين عشرين دولة أوروبية أكثر جاذبية للمستثمرين الأجانب، وفقًا لتقديرات مؤسسة EY، ما يظهر قيمتها الاستثمارية الكبيرة لدى أسواق الغرب بصفة إجمالية الأمر الذي يمثل ورقة ضغط قوية حال استخدامها كسلاح ضد الغرب، حتى إن كان سلاحًا مزدوجًا.
السنوات الماضية منذ 2019 وحتى قبيل الحرب شهدت الاستثمارات الأجنبية في روسيا طفرة كبيرة، فقد تلقت موسكو خلال عام واحد فقط 26.9 مليار دولار من الاستثمارات الأجنبية المباشرة، بحسب البنك المركزي الروسي، لتحتل المرتبة التاسعة في أوروبا من حيث عدد المشروعات، طبقًا لشركة “إرنست ويونغ”، إذ شكّلت 3% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في القارة خلال 2021.
وفي 2011 أسست السلطات الروسية صندوق الاستثمار المباشر برأس مال قدره 10 مليارات دولار لتشجيع الاستثمارات الأجنبية، وفي 2014 أطلقت موقع “INVEST IN RUSSIA” لتحفيز المستثمرين في شتى أنحاء العالم لنقل رساميلهم إلى السوق الروسي، ويتصدر قطاع النفط والغاز قائمة المجالات الاستثمارية التي تقبل عليها الشركات العالمية، بإجمالي 33 مليار دولار، فيما تأتي ألمانيا والولايات المتحدة وفرنسا وفنلندا وبريطانيا على قائمة أكبر الدول المستثمرة في سوق الطاقة الروسي.
من أبرز الأوراق التي يستخدمها بوتين لتعزيز نفوذه الإقليمي والدولي خلال السنوات السبعة الأخيرة، سلاح المرتزقة، عبر ميليشيات “فاغنر” الشهيرة
السلاح النووي.. الكابوس
في 27 فبراير/شباط الماضي فجر الرئيس الروسي مفاجأة من العيار الثقيل حين أمر وزارة الدفاع بوضع قوات الردع النووي في حالة تأهب وسط التوتر مع الغرب بشأن الوضع في أوكرانيا، وهي الخطوة التي أحدثت ارتباكًا كبيرًا داخل الأوساط الدولية لما تمتلكه موسكو من قدرات نووية قادرة على تدمير العالم.
وتعد روسيا واحدة من أكبر دول العالم امتلاكًا للسلاح النووي، إن لم تكن أكبرهم على الإطلاق، إذ تمتلك 7 آلاف قنبلة نووية، وأكثر من 1500 رأس نووي استراتيجي مُعدّة للإطلاق باستخدام أكثر من 500 صاروخ باليستي عابر للقارات، بجانب امتلاكها 2700 قنبلة نووية إستراتيجية، و2510 رؤوس نووية.
الأسطول الروسي هو الآخر تم تعزيزه بأسلحة نووية متطورة، إذ تم ضم طوربيد يعد الأخطر في العالم واسمه “طوربيد يوم القيامة” لقوات الأسطول عام 2015، وبحسب مجلة “ناشيونال إنترست” فإن هذا الطوربيد ينطلق تحت الماء على عمق يزيد على ألف متر، ولا يمكن لأي غواصات أو مضادات للطوربيدات أن تصل إليه.
إرباك السياسة المالية
التصعيد الغربي ضد روسيا ربما يدفعها للخروج من عباءة الدولار والبحث عن سياسات نقدية ومالية أخرى ربما تعيد رسم خريطة النظام المالي العالمي مجددًا، وهو ما ذهب إليه أستاذ القانون التجاري الدولي أحمد سعيد، الذي أشار إلى أن روسيا والصين باتتا جاهزتان للخروج عن البترودولار.
وألمح الخبير الاقتصادي في مقال له على صفحته على فيسبوك، أن أمريكا منذ أكثر من 40 عامًا فرضت نظامًا لتقييم سعر البترول بعملتها الوطنية فقط، الدولار، لافتًا إلى أن التطورات الأخيرة ربما تدفع روسيا لتغيير تلك القاعدة بحيث يتم تقييم البترول بعملات أخرى كالروبل الروسي أو الين الصيني، “ما سيفقد الدولار دوره في المبادلات الدولية ويحد من قدرته الشرائية، بالطبع سينعكس بانخفاض الطلب علي الدولار وبالتالي انخفاض قيمته”.
وعن إرهاصات هذا الخروج الآمن من عباءة البترودولار، يرى أستاذ القانون التجاري أن زيادة أسعار النفط الأخيرة ليست بسبب قفزة في الأسعار كما يظن البعض، لكن نتيجة هبوط القيمة الشرائية للدولار بسبب “تضخمه بفضل طباعة الحكومة الأمريكية ترليونات الدولارات دون أي إنتاج يوازيها في أثناء فرضها الحظر الكلي في زمن كورونا”.
متوقعًا استمرار هذا الانخفاض خلال المرحلة القادمة، بما يغير في النهاية خريطة السياسات المالية العالمية التي ستكون مضطرة إلى الدفع بعملات جديدة في التعاملات النفطية والتجارية الدولية، فلم يعد الدولار العملة الوحيدة ذات القبول العالمي.
تهديد الاستقرار العالمي
من أبرز الأوراق التي يستخدمها بوتين لتعزيز نفوذه الإقليمي والدولي خلال السنوات السبعة الأخيرة، سلاح المرتزقة، عبر ميليشيات “فاغنر” الشهيرة التي يدفع بها الرئيس الروسي في العديد من المناطق الساخنة التي يتشابك فيها بأجندات وتوجهات توسعية.
ولعل إعطاء بوتين الضوء الأخضر لنشر قرابة 16 ألف متطوع من الشرق الأوسط للقتال في أوكرانيا إلى جانب المتمردين المدعومين من روسيا، حلقة واحدة في سلسلة مطولة من توظيف هذا السلاح الذي نجحت موسكو في تعزيزه خلال الآونة الأخيرة.
هناك العديد من الملفات التشابكية مع الغرب يمكن لموسكو تهديدها وإشعالها عبر تلك المجموعات الميليشياوية المسلحة، أبرزها سوريا، هذا بجانب إفريقيا التي توجد فيها فاغنر بصورة مكثفة في قرابة 7 دول هي: إفريقيا الوسطى وغينيا وموزمبيق وليبيا والسودان ومدغشقر، بجانب مالي مؤخرًا.
في ضوء المعطيات السابقة، من المرجح أن الحرب ربما يطول أمدها حال استمر التصعيد المتبادل بين الطرفين، ما لم تنجح الجهود الدبلوماسية في تبريد الأجواء مرحليًا، فلكل طرف قائمة مطولة من أوراق الضغط المرجح استخدامها، بعضها قد تم كشفه والآخر مؤجل لحين الوصول إلى نقطة ما في خريطة حسابات كل طرف، إلا أن المؤكد أن الآثار ستكون كارثية على الجميع، ففي مثل تلك المواجهات من الصعب أن يكون هناك منتصر وخاسر بشكل مطلق.