تسابق أنقرة الزمن لتحريك المياه الراكدة في المستنقع الأوكراني عبر جهود الوساطة لاحتواء التوتر المتصاعد قبل الولوج في قاع المستنقع الذي لا يمكن الخروج منه، إذ نجحت في جمع وزيري خارجية روسيا وأوكرانيا في 10 مارس/آذار الحاليّ في أول لقاء رسمي على مستوى وزاري منذ الحرب التي شنتها موسكو في 24 فبراير/شباط الماضي.
اتصالات مكثفة يجريها الأتراك على المستوى الرئاسي والحكومي لتقريب وجهات النظر بين طرفي النزاع، في محاولة لتقليل المخاطر المحتملة قدر الإمكان والحيلولة دون الدخول في نفق أجواء حرب عالمية تهدد الجميع وتضع مستقبل المنطقة والعالم على المحك.
تستند الدولة التركية في تحركاتها إلى علاقاتها القوية بكل من موسكو وكييف، وثقلها الجيوسياسي الذي عزز حضورها الإقليمي والدولي بعدما باتت لاعبًا رئيسيًا في الكثير من الملفات التي تشهدها الساحة، غير أن ذلك لا يمنع وجود العديد من التحديات التي تجعل من نجاح مثل تلك التحركات مسألة غير محسوبة.
لم تكن الحالة الأوكرانية هي الأولى في هذا المسار الدبلوماسي، فلتركيا تاريخ طويل من القيام بدور الوساطة إزاء العديد من الملفات منذ تأسيس جمهوريتها الحاليّة عام 1923، استندت في ذلك إلى حزمة من المرتكزات والمحددات التي تسعى من خلالها إلى تحقيق قائمة مطولة من الأهداف، نجحت في بعضها وأخفقت في أخرى.
مرتكزت سياسة أنقرة الخارجية
قبل الحديث عن مرتكزات السياسة الخارجية التركية التي ترسم مسارها الدبلوماسي والدور الذي تقوم به على الساحة الدولية، لا بد من التعريج سريعًا على التطورات المفصلية التي شهدتها سياسة أنقرة الخارجية بعد الحرب الباردة تحديدًا، حين انتقلت الدولة التركية من هذا الكيان الذي كان يتعامل معه الغرب على أنه الحارس الشرقي لحدود القارة الأوروبية وحائط الصد المنيع أمام النفوذ الشيوعي السوفيتي شرقًا، إلى شريك إستراتيجي للغرب بشقيه، الأوروبي والأمريكي، وضلع أساسي في المعسكر الغربي.
كذلك التحول المحوري من علاقات البعد الواحد، حيث الميل الكامل للولايات المتحدة وعواصم أوروبا، إلى إحداث حالة من التوازن من خلال فتح قنوات اتصال قوية مع العالم العربي والإسلامي، وبناء قاعدة تحالفية هائلة من الشعوب العربية في المنطقة لا سيما بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001، وهي الأحداث التي أجبرت أنقرة على إعادة النظر في سياستها الخارجية وتجاوز فكرة الاكتفاء بالغرب كملاذ آمن دون غيره.
الباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية، علي حسن باكير، يرى أن السياسة الخارجية التركية تقوم على 8 مبادئ أساسية، ما بين منهجية وعلمية، تسعى من خلالها لتحقيق عدة أهداف، أبرزها الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي وتحقيق التكامل الإقليمي عبر تعزيز أشكال التعاون الشامل في المنطقة، كذلك لعب دور مؤثر في النزاعات الإقليمية وحلها، فضلًا عن لعب دور مؤثر ومحوري في المؤسسات الدولية والوصول إلى قائمة أقوى عشرة اقتصادات في العالم.
على المستوى العملي، فهناك أربعة مبادئ محورية، أولها: مبدأ الموازنة بين الأمن والديمقراطية، ثانيها: مبدأ تصفير المشاكل تجاه الجيران، ثالثًا: دبلوماسية السلام الاستباقية، وأخيرًا مبدأ الدبلوماسية النشطة
أولًا: المبادئ المنهجية.. وتقسم إلى 3 مسارات، الأول يتعلق بامتلاك الرؤية الكاملة إزاء الأزمات والتوترات الطارئة التي تشهدها أي ساحة ما، وذلك بدلًا من الاعتماد على ردة الفعل، إذ تمتلك أنقرة رؤية طويلة المدى تشمل المنطقة بأسرها وهو ما تم الوقوف عليه في سياساتها المتبعة في لبنان والوساطة بين سوريا ودولة الاحتلال، إلخ.
أما المحور الثاني فيشير إلى اعتماد تلك السياسة على إطار منظم وثابت، فسياسة أنقرة في الشرق الأوسط ليس بينها وبين سياستها في البلقان وآسيا أو إفريقيا أي تعارض، وهنا يأتي المحور الثالث للمبادئ المنهجية الذي يدور حول اعتماد الأسلوب الدبلوماسي عبر انتشار القوة الناعمة التركية التي تفرض حضورها الدولي دون الحاجة إلى صراعات عسكرية أو سياسية.
أما على المستوى العملي، فهناك أربعة مبادئ محورية، أولها: مبدأ الموازنة بين الأمن والديمقراطية، ثانيها: مبدأ تصفير المشاكل تجاه الجيران، وهو الذي عمل به مؤخرًا، بعد سنوات من تصدع العلاقات، ثالثًا: دبلوماسية السلام الاستباقية، التي تهدف إلى اتخاذ إجراءات قبل وقوع أي أزمة أو قبل تفاقم أي أزمة موجودة، ثم مبدأ السياسة الخارجية متعددة الأبعاد، التي تعكس تكاملية العلاقة – وليس تنافسيتها – بين تركيا وبقية القوى العالمية، وأخيرًا مبدأ الدبلوماسية النشطة التي تسمح لأنقرة الانخراط في كل المؤسسات الدولية بما يسمح لها أداء أدوار محورية ومؤثرة على خريطة السياسة الدولية.
محددات السياسة الخارجية التركية
استندت السياسة الخارجية التركية في تحركاتها الإقليمية والدولية وفق المرتكزات الأساسية لها إلى عدد من المحددات الداخلية والخارجية كان لها تأثيرها القوي في رسم خريطة تلك التحركات وبوصلتها الجغرافية والسياسية، لا سيما في السنوات الأخيرة التي شهدت مستجدات طارئة دفعت كل القوى للعودة خطوة للخلف لإعادة تقييم تموضعها الحاليّ.
في دراسة للباحث المتخصص في العلاقات الدولية والإستراتيجية، محمد لادمي، نشرها المركز الديمقراطي العربي للدراسات الإستراتيجية والسياسية والاقتصادية (مستقل)، استعرض أبرز تلك المحددات التي تحكم السياسة الخارجية لأنقرة خلال السنوات الأخيرة على وجه الخصوص.
البداية كانت مع المحددات الداخلية التي تتعلق بالامتيازات الجغرافية والبيئية التي حبا الله بها تركيا وكان لها تأثيرها في حجم ومستوى حضورها على الساحة، أبرزها الموقع الجيوستراتيجي، الذي لعب دورًا لوجستيًا مهمًا في تبلور سياستها الخارجية رغم تغير الخريطة الدولية ومساراتها أكثر من مرة.
فالدولة التي تتحكم في كبريات مضائق العالم الإستراتيجية مثل مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يربطان مياه البحر الأسود بمياه البحر المتوسط عبر بحر مرمرة، ويعدان حلقة الوصل الأكثر نفوذًا بين شرق أوروبا وغربها من جانب، وبين أوروبا والمعسكر الشرقي من جانب آخر، لا بد أن تكون دولة محورية.
الموارد المائية تعد هي الأخرى واحدة من محددات السياسة الخارجية التركية، إذ تعتبر واحدة من أغنى دول العالم في مواردها المائية ما يمهد الطريق نحو إمكانية توظيف تلك الموارد للضغط على بعض دول الجوار التي تعبر شرايينها المائية عبر الأراضي التركية كما هو الحال في سوريا والعراق.
هذا بجانب الهوية النخبوية التركية، التي ظلت لسنوات طويلة محصورة في التوجه العلماني الذي سيطر على أجواء البلاد منذ تأسيس الجمهورية 1923 وحتى قبيل تولي نجم الدين أربكان رئاسة الحكومة في 1997 حين أعلن حينها أن بلاده ستدعم تعزيز العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، وقد أثرت ثنائية الهوية تلك في كثير من ملامح السياسة الخارجية للبلاد خاصة منذ انطلاق قطار الربيع العربي 2011.
أما المحددات الخارجية التي تطرقت إليها الدراسة البحثية فتمحورت في ثلاثة أبعاد رئيسية، الأول خاص بالمشاكل الحدودية مع الدول العربية المجاورة كسوريا والعراق، ثم العلاقات التركية الإسرائيلية التي مرت بمراحل من المد والجزر لكنها في المجمل علاقات قوية ودافئة، لعل الزيارة الأخيرة لرئيس دولة الاحتلال لتركيا جسدت متانة تلك العلاقة التي تمثل نقطة مفصلية في علاقة تركيا بالدول العربية والإسلامية.
وأخيرًا شغف أنقرة في الانضمام إلى المؤسسات الدولية لدعم حضورها الإقليمي والدولي، فهي عضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو) كذلك منظمة المؤتمر الإسلامي، بجانب أنها عضو مراقب بكل من الاتحاد الإفريقي وجامعة الدول العربية.
روسيا وأوكرانيا
مبادرة أنقرة للوساطة بين موسكو وكييف فرضتها الميزات الجيوسياسية التركية، فهي الدولة المشتركة الوحيدة التي تتمتع بعلاقات قوية مع الطرفين، وتقف تقريبًا على مسافة واحدة بينهما، هذا بجانب أنها تتقاطع مع كلا البلدين في العديد من نقاط التماس.
تعي تركيا خطورة الميل لطرف على حساب الآخر، وعليه تحاول استغلال علاقاتها الجيدة مع بوتين وزيلينسكي في الوصول إلى نقطة مشتركة يلتقي عندها الجميع لوقف الحرب، بما يضمن لها الاستمرار في أن تكون شريكًا إستراتيجيًا لروسيا من جانب والغرب من جانب آخر.
وفي السياق ذاته لا يمكن لتركيا أن تدخل ملعب الوساطة إن شعرت أن ضريبة هذه الخطوة ستكون كبيرة، فعلاقتها المتزنة وحيادية مسارها في هذا الملف يجعل كلفة الوساطة منخفضة حتى إن باءت تلك الجهود بالفشل، عكس دول أخرى مثلًا لو حاولت لعب هذا الدور كفرنسا أو بولندا أو حتى “إسرائيل”.
السودان وإثيوبيا
في أغسطس/آب 2021 قدمت تركيا نفسها كوسيط محتمل لإنهاء التوتر بين السودان وإثيوبيا، حين فتحت أنقرة أبوابها لرئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان في 16 من الشهر، ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد في 12 أغسطس/آب من العام نفسه، حينها أعلن الرئيس رجب طيب أردوغان استعداد بلاده لحل النزاع بشأن منطقة الفشقة.
أردوغان ووزير خارجيته عقدا الكثير من اللقاءات وأجريا اتصالات عدة بطرفي الأزمة في الخرطوم وأديس أبابا في محاولة لتبريد الأجواء الحدودية المشتعلة التي أسفرت عن سقوط العشرات بين قتيل وجريح في صفوف جيشي البلدين، وسط تحذيرات من نشوب مواجهات عسكرية.
التحرك التركي الذي جاء في إطار تعزيز أنقرة لنفوذها الإفريقي في مواجهة التمدد الفرنسي الروسي الأمريكي، التزم قدر الإمكان بتجنب الخطاب الخشن، ليميل بشكل واضح إلى لغة الدبلوماسية الهادئة التي نجحت نسبيًا في تحقيق أهداف التهدئة وإن لم تكن بالشكل الكامل، حيث دخلت العديد من القوى الأخرى على خط الوساطة.
الأزمة الخليجية
كانت تركيا اللاعب الأبرز على الساحة الإقليمية عقب اندلاع الأزمة الخليجية في يونيو/حزيران 2017 حين قطعت السعودية والإمارات والبحرين ومعهم مصر العلاقات الدبلوماسية مع الدوحة بزعم دعمها للإرهاب والتدخل في شؤون تلك البلدان من خلال منبر قناة “الجزيرة”.
لم تتأخر أنقرة في الانحياز للجانب القطري بحكم العلاقات القوية بين البلدين، فكانت حائط الصد الذي نجح في تكسير الغضب الخليجي إزاء الدولة الصغيرة، ووأد مخطط الإطاحة بالنظام القطري كما تم كشفه لاحقًا، لتجد تركيا نفسها في اختبار حقيقي بين مصالحها وتوازن سياستها الخارجية.
الوساطة التركية وقتها لم تلق القبول من الطرف المقابل، دول الحصار، نظرًا لعلاقتها القوية مع الدوحة، وعليه فهي تفتقد للشرط الأساسي للقيام بهذا الدور وهو الحيادية والوقوف على مسافة واحدة من طرفي الأزمة، ما أدى في النهاية إلى إرجاء المصالحة حتى قمة العلا في يناير/كانون الثاني 2021،
ارتكز التحرك التركي في هذا الملف على عدد من المرتكزات أبرزها الحرص على استقرار منطقة الخليج وتطوير العلاقات الثنائية بين أنقرة وعواصم دول مجلس التعاون، بجانب الحيلولة دون تمدد النفوذ الإيراني استغلالًا لهذا الشقاق الخليجي الخليجي، فضلًا عن خشية نقل عدوى الأزمة إلى تركيا بما يؤثر على مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية مع أطراف الأزمة، بجانب سعي الدولة التركية لاستعادة نفوذها وحضورها العربي الشرق أوسطي كما كان عليه قبل 2011.
القضية الفلسطينية
تعاني السياسة الخارجية التركية إزاء القضية الفلسطينية ازدواجية مثيرة للتعجب، ففي الوقت الذي تعد واحدةً من الدول القليلة التي تحتفظ بعلاقات دبلوماسية قوية مع حركة المقاومة الإسلامية حماس، وتدافع عن القضية الفلسطينية الأم في المحافل الدولية، تعزز من علاقاتها القوية مع تل أبيب والحكومة العبرية، التناقض الذي قرأه البعض بنظارة الازدواجية فيما فسره آخرون على أنه تكامل يخدم القضية لا يضرها.
وظلت أنقرة لسنوات حلقة الوصل الرئيسية بين حماس كممثل عن الحكومة الشرعية الفلسطينية في غزة من جهة، وتل أبيب وحلفائها الأوربيين والأمريكان من جانب آخر، هذا بجانب دعمها المستمر للفلسطينيين ماديًا وسياسيًا، خاصة بعد صعود حزب العدالة والتنمية الإسلامي.
لكن الدور التركي في هذا الملف لم يحقق المرجو منه في ضوء علامات الاستفهام الكبيرة التي تضعها واشنطن وتل أبيب أمام الوساطة التركية بسبب قربها الشديد من حركة حماس المصنفة إرهابيًا حتى من بعض الدول العربية، وهو ما أجهض جهود أنقرة الدبلوماسية التي رغم هذا الإخفاق ظلت عمود التوازن الأبرز في معادلة القضية، وإن تعامت معها بمنطق برغماتي بحت أثار استنكار وغضب الكثير من المهتمين بالشأن الفلسطيني.
إحياء النفوذ التركي
في كتابه “تحليل السياسة الخارجية التركية وفق منظور المدرسة العثمانية الجديدة” يرى الباحث العراقي المتخصص في العلاقات الدولية والعلوم السياسية، فراس إلياس، أنه منذ تأسيس الجمهورية الحديثة وتسعى تركيا إلى أن تمتلك سياسة خارجية فاعلة في محيطها الإقليمي والدولي، لما تمتلكه من خصائص الدولة القادرة على أداء هذا الدور.
ويركز الكتاب هنا على تأثير الموقع الجيوساسي التركي الذي كان سببًا مباشرًا في أن تكون طرفًا في الحرب العالمية الأولى التي انتهت بتمزيق أوصال الدولة العثمانية، وهو الموقع ذاته الذي جعلها هدفًا لسهام القوى المتصارعة خلال الحرب العالمية الثانية، لكن رغم ذلك كان وسيظل نقطة التحول الكبرى في تعزيز السياسة الخارجية التركية قديمًا وحاضرًا ومستقبلًا.
البرغماتية المطلقة ومحاولة استعادة النفوذ كانا على رأس دوافع الدبلوماسية التركية في القيام بدور الوساطة إزاء الكثير من الملفات الإقليمية والدولية
وكان عام 2005 باكورة الوساطة الدبلوماسية التركية عربيًا، حين شجعت أنقرة القيادات العراقية على المشاركة في الانتخابات التي جرت في ذلك العام، تلاها دعم وتعزيز الوساطة القطرية بين فرقاء السياسة في لبنان عام 2008، بجانب الجهود الدبلوماسية المبذولة لتحقيق المصالحة بين سوريا والعراق عقب اتهام بغداد لدمشق بالتورط في تفجيرات بغداد 2009.
في ضوء ما سبق يلاحظ أن البرغماتية المطلقة ومحاولة استعادة النفوذ كانا على رأس دوافع الدبلوماسية التركية في القيام بدور الوساطة إزاء الكثير من الملفات الإقليمية والدولية، وهي التحركات التي استطاعت أنقرة تحقيق نجاحات في بعضها وإخفاقات في بعضها الآخر، لكنها في النهاية فرضت نفسها كواحدة من أقوى الدول القادرة على القيام بهذا الدور في ضوء ما تمتلكه من مقومات ومؤهلات لذلك.