مع دخول الحرب الروسية على أوكرانيا أسبوعها الثالث دون أن يكون هناك أي تحقيق للأهداف السياسية التي أعلنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من هذه الحرب، يدرك الكثيرون أهمية الإجراءات القسرية والعقوبات الاقتصادية ضد روسيا وضرورة منحها مخرجًا، يسهم بشكل أو بآخر في تخفيف وطأة العمليات العسكرية التي تجري في أوكرانيا الآن.
إذ يفترض البعض أنه يجب إعطاء مخرج لبوتين لإجباره على التفاوض، ورغم أن هذه فكرة كارثية، فإنه على ما يبدو ليست هناك طريقة أخرى يمكن من خلالها إجباره على التراجع، في ظل التفكك الذي تشهده المواقف الأوروبية الأمريكية من جهة، والتحول الأخير في موقف الصين من الأزمة من جهة أخرى.
فعلى الرغم من بدء ثلاث جولات من التفاوض بين الوفدين الروسي والأوكراني، فإن الوفدين لم يتوصلا لجديد يمكن أن يغير الواقع، ورغم انضمام تركيا و”إسرائيل” وفرنسا للجهود الرامية لإيجاد حل سياسي، فإن هذه الخطوات تواجه عثرات تلو الأخرى بسبب عمق الأزمة الحاليّة.
فالرئيس بوتين حتى الآن يبدو أنه يعول على الآلة العسكرية لتحقيق أهدافه، دون أن يعطي الجهد التفاوضي اهتمام يذكر، فبدلًا من أن يرأس الوفد التفاوضي الروسي رئيس جهاز المخابرات، أرسل الرئيس بوتين بدلًا عنه أستاذًا جامعيًا عين مؤخرًا وزيرًا للثقافة، ليعطي مثالًا واضحًا على الطريقة التي ينظر من خلالها للحرب.
أوكرانيا تستحضر التاريخ مرة أخرى
إن إصرار الرئيس بوتين على التعامل مع هذه الحرب على أنها عملية خاصة، أكثر من كونها حرب بين بلدين، يشير إلى أنه لا يهدف إلى المفاوضات أو السلام مع أوكرانيا، وتتمثل خشيته الكبيرة من أن تساهم هذه الحرب في انهيار روسيا دولة ونظام، فالتاريخ الروسي حافل بالأمثلة التي تشير إلى سقوط العديد من الأنظمة الروسية نتيجة خسارة حروب صغيرة، فلم يكن هناك ما يضر الأساطير السوفيتية أكثر من الهزيمة في أفغانستان، فمن الناحية المادية، لم تكن الخسائر السوفيتية ضخمة بالشكل الذي تواجهه روسيا اليوم في أوكرانيا، لكن عار الهزيمة نزع الشرعية عن النظام السياسي عام 1989، وفي عام 1991 سقط الاتحاد السوفيتي.
بوتين يبدو محاصرًا، فليس من قبيل الصدفة، أن يعاني النظام الروسي من أن مرؤوسيه لا ينقلون إلا الأخبار السارة للحاكم
كما أن الهزيمة في الحرب الروسية اليابانية بين عامي 1904و1905، أسقطت الإمبراطورية الروسية، فقد قاتلت روسيا مع عدو أصغر وأضعف، إلا أنه انتصر عليها بالنهاية، ويمكن للنظام الروسي أن ينجو من الفقر والركود والقمع السياسي، لكنه بالكاد يستطيع النجاة من الهزيمة في حرب صغيرة، ويمكن للقيصر أن يحكم وهو مكروه (مثل بطرس الأول)، لكنه لا يستطيع أن يحكم دون احترام، فالهزيمة المخزية تقضي على أي احترام في الداخل والخارج، وهو ما يؤرق الرئيس بوتين في الوقت الحاضر.
وعند هذه النقطة، فإن الرئيس بوتين يبدو محاصرًا، فليس من قبيل الصدفة، وهذا عامل منهجي، أن يعاني النظام الروسي من أن مرؤوسيه لا ينقلون إلا الأخبار السارة للحاكم، لهذا السبب كان رئيس المخابرات سيرغي ناريشكين يرتجف ويتلعثم، عندما سأله الرئيس بوتين عن رأيه بقرار الحرب، بل ويمكن القول إن الرئيس بوتين اتخذ قرارًا خاطئًا بغزو أوكرانيا، لأن جهاز الأمن الفيدرالي ضلله بهدف إرضائه، ولعل هذا ما دفعه مؤخرًا إلى وضع أغلبهم تحت الإقامة الجبرية.
لكن النقطة المهمة في هذا الإطار هي أن الرئيس بوتين قد لا يستطيع العودة الآن، حتى إن تم منحه ما يريد عبر المفاوضات، فالهوة تتزايد في الداخل بين النظام والشعب، كما أن النظام الاقتصادي الروسي بحاجة لسنوات ليتعافى من أثر العقوبات، ورغم الحملة الدعائية التي مثلها تداول الحرف “Z” في الأوساط الاجتماعية والسياسية الروسية، الذي من المحتمل أن يمثل رمزًا جديدًا للقومية الروسية، فإن الواقع في أوكرانيا يشير إلى أن روسيا تواجه تعثرًا واستنزافًا كبيرًا على أكثر من جبهة.
بوتين والمراهنة على القومية الروسية
أصبحت سردية الحرب العالمية الثانية الآن أداةً لإضفاء الشرعية على القومية الروسية من الرئيس بوتين، فمن وجهة نظره يجب أن تكون روسيا القومية الدولة التي لها الحق في التوسع بلا حدود، روسيا بطبيعتها المعادية للنازية، لذا فإن أولئك الذين يقاومونها أو الأقليات التي تحافظ على هويتها هي نازية من وجهة نظر الرئيس بوتين، فالحرب حسب رأيه كلها متعة وألعاب، لقد هزمنا النازية في الحرب العالمية الثانية، لذا يمكننا هزيمتها مرة أخرى.
ففي الخطاب الروسي الحديث، روسيا هي القوة المناهضة للنازية، وأي أقلية عرقية لم تستوعب بالكامل، هي إما نازية على ما يبدو وإما من المحتمل أن تكون نازية مستقبلًا، والسياق الذي يحاول الرئيس بوتين ترويجه في أوكرانيا إذا كنت تتحدث الأوكرانية، فهذا يثبت نازيتك، إذا انتقدت سياسات موسكو، فأنت نازي بنسبة 100%، وإذا قاومت توسعها الإقليمي، فلا داعي لمزيد من الإثبات: أنت نازي دون أدنى شك.
إستراتيجية الرئيس بوتين مبنية بالكامل على افتراض أن الجانب الآخر سيلعب دور الحمامة، لذلك لا بد من تحقيق أرباح عالية
هذا هو سياق غزو الرئيس بوتين لأوكرانيا الذي لم ينل نصيبه من التحليل، فعلى مدى عقدين من الزمان، كان يروج للحرب على أوكرانيا إلى أقصى حد، وتستخدم سردية الحرب العالمية الثانية لتبرير القومية الروسية المتطرفة والتوسع الإمبراطوري القيصري، فالرمز “Z” ليس إلا انحراف جديد في جوهر البوتينية الجديدة.
يدرك الرئيس بوتين أنه بحاجة لمزيد من الوقت لإعادة ترتيب أوراقه في الداخل والخارج، عبر تسكين الهيجان في الداخل، وتفكيك العدو في الخارج، ويحاول الآن إعادة سيناريو التعامل الذي صاغه الفوهرر الألماني أدولف هتلر مع رئيس الوزراء البريطاني نيفل تشامبرلين عام 1939، ما وضع أوروبا على شفا الحرب، فالتنازلات التي قدمها تشامبرلين للسلام وخفض التصعيد، زادت من مكانة هتلر في ألمانيا وأعطته وقتًا لإعادة تجميع صفوفه وبناء آلته الحربية، وأصبح أقوى بكثير.
إجمالًا فإن إستراتيجية الرئيس بوتين مبنية بالكامل على افتراض أن الجانب الآخر سيلعب دور الحمامة، لذلك لا بد من تحقيق أرباح عالية، عبر صنع العدو والتعامل معه ضمن قواعد الصراع الخاصة به، بمعنى آخر، إن إستراتيجية الرئيس بوتين منطقية تمامًا من وجهة نظر نظرية اللعبة، إنها إستراتيجية لتعظيم العائد مبنية على افتراض أنكم “الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وأوكرانيا” حمائم، ورغم أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة قدموا إشارات على ممارسة دور الحمامة، لكنهم كانوا مدمرين للغاية، اقتصاديًا وسياسيًا، وعلى ما يبدو هي إستراتيجية مثلت مخرجًا لاستنزاف الرئيس بوتين وطريقًا لخسارته للحرب، دون أن يكونوا مجبرين على الانغماس المباشر فيها أو أن يساهموا بتوسيع رقعتها لتشمل مدن أوروبية أخرى.