قررت فرنسا وشركاؤها الأوروبيون وكندا منتصف شهر فبراير/شباط الماضي، الانسحاب عسكريًا من مالي وإنهاء العمليتين العسكريتين لمكافحة الإرهاب “برخان” و”تاكوبا”، بضغط من المجلس العسكري الحاكم في باماكو وتزايد الاحتجاجات ضدهم.
لكن إلى الآن لم تعلن باريس عن الدولة الإفريقية الجديدة التي ستكون مركزًا لعمليات مكافحة الإرهاب عوضًا عن مالي، فهناك العديد من الدول المرشحة لهذا الدور، لكن تبدو النيجر الخيار المطروح، خاصة مع إعلان رئيسها محمد بازوم ترحيب بلاده بأن تكون مركزًا لعمليات مكافحة الإرهاب بدلًا من مالي إذا قرر الأوروبيون ذلك.
النيجر في سلم الاهتمامات
قال محمد بازوم في لقاء له إن بلاده لا ترفض أن تكون مركزًا لعمليات مكافحة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء، وأضاف:”إذا أرادوا نشر قواتهم في النيجر لمدة طويلة فنحن نرحب بذلك، لكن ليس هناك فكرة معينة تخص إعادة نشر القوات”.
وقبل أسابيع قليلة، بحثت وزيرة الجيوش الفرنسية فلورانس بارلي مع بازوم تطور الانتشار العسكري الفرنسي في منطقة الساحل الإفريقي، ورغم أنه لم يتم إعلان نتائج الاجتماع، فإن العديد من المؤشرات تبين تقدم المباحثات الفرنسية النيجرية في هذا الصدد.
لم تتمكن السلطات في النيجر على مر السنوات الماضية من القضاء على الحركات المسلحة التي تهاجمها انطلاقًا من مالي في الغرب ونيجيريا في الجنوب الشرقي
جاء الانسحاب الأوروبي من مالي في وقت ازدادت فيه خطورة التنظيمات المسلحة، حيث تتعرض دول المنطقة لهجمات منذ سنة 2012 أسفرت عن مقتل الآلاف وتشريد أكثر من مليوني شخص.
ورغم آلاف الجنود المنتشرين هناك والمليارات التي أنفقت لهذا الغرض، فإن المجموعات المسلحة تتحرك بأريحية، وعمومًا توجد في المنطقة جماعات تابعة لـ”داعش”، واحدة في غرب ووسط إفريقيا وهي “ولاية غرب إفريقيا” التي انفصلت عن “بوكو حرام” سنة 2016، وتعمل عناصرها في الغالب حول منطقة بحيرة تشاد، أما الجماعة الثانية فهو تنظيم “داعش” في الصحراء الكبرى، وتعمل عناصره حول المنطقة الحدودية للنيجر ومالي وبوركينا فاسو.
دوافع الاختيار
لا يعني اختيار فرنسا للنيجر حتى تكون مركزًا لقيادة العمليات العسكرية المناهضة للإرهاب، أن نيامي تتمتع بأقوى جيش في منطقة الساحل والصحراء، ذلك أن قوام جيشها لا يتجاوز بضعة آلاف فقط، كما أنهم لا يملكون الخبرة الكافية ولا العتاد المتطور.
لكن هذا الاختيار يعود في جزء منه إلى قاعدة نيامي الجوية التي تعتبر ذات أهمية إستراتيجية كبرى لأنها تستضيف طائرات دون طيار مسؤولة عن جمع المعلومات الاستخباراتية في جميع أنحاء منطقة الساحل والصحراء.
كما يعود اختيار فرنسا للنيجر التي ظلت مستعمرة فرنسية لمدة 60 عامًا، حتى نالت استقلالها عام 1960، إلى أسباب أخرى من بينها العلاقة الكبيرة التي تربط قيادة البلدين وتأزم علاقات باريس مع قادة باقي دول المنطقة على غرار تشاد، ففي الوقت الذي تتزايد فيه الانتقادات للوجود العسكري الفرنسي في هذه المنطقة، ما فتئ رئيس النيجر يعرب عن امتنانه لفرنسا، مشيدًا “بتضحياتها” في دول الساحل، مؤكدًا أن فرنسا هي الدولة التي تقدم كبرى التضحيات، رغم المظاهرات الشعبية المناهضة لفرنسا في بلاده.
كان محمد بازوم، الوحيد بين زعماء الساحل الذي شارك في قمة الساحل الافتراضية من باريس، التي عُقدت في يوليو/تموز الماضي، جنبًا إلى جنب مع نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، فيما شارك باقي رؤساء موريتانيا وتشاد ومالي بوركينا فاسو عبر الفيديو.
إلى جانب ذلك، يبدو أن ماكرون لا يريد التورط في دعم زعماء أفارقة جاؤوا للحكم عبر الانقلابات قبل شهر من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، لذلك يحاول تسويق رئيس النيجر، كنموذج للديمقراطيات الناجحة في الساحل الإفريقي، ما يفسر أيضًا عدم اختيار تشاد لأن تكون مركز العمليات العسكرية المناهضة للانقلاب، رغم أن الجيش التشادي أقوى بكثير من جيش النيجر، فهو القوة الوحيدة القادرة على تقديم الدعم خارج حدودها وبفاعلية في مكافحة الجماعات الإرهابية، لكن حسابات الانتخابات الرئاسية الفرنسية أكبر وأهم.
يضاف إلى ذلك، أن باريس تطمح في أن تُساعدها نيامي في إقناع الجزائر بتقديم دعم أكبر لدول الساحل في مواجهة التنظيمات المسلحة والمشاركة في عمليات مناهضة الإرهاب في المنطقة وملء الفراغ الأمني الذي سيتركه انسحاب فرنسا من شمال مالي.
النيجر تستبق تمدد الإرهاب
يستبعد رئيس النيجر محمد بازوم أن تتحول بلاده، حال قرار فرنسا والأوروبيين جعلها مركزًا لعمليات مكافحة الإرهاب، إلى وجهة الإرهابيين، ذلك أن الإرهابيين وفق نظره يتمركزون في مالي بشكل أكبر ومن الصعب أن ينتقلوا إلى بلاده.
يُجانب رأي بازوم في هذا الخصوص الصواب في العديد من التفاصيل، ذلك أن الجماعات المسلحة تتنقل بأريحية تامة بين حدود منطقة الساحل وتتمتع بدرجة كبيرة من الانسيابية في ظل فشل السيطرة على الحدود والقضاء على هذه الجماعات.
وغالبًا ما تتعرض النيجر إلى هجمات إرهابية، راح ضحيتها المئات، ووفق معطيات الأمم المتحدة، نزح 313 ألف شخص خلال السنوات الثلاثة الماضية بسبب الهجمات الإرهابية في النيجر، واضطر 235 ألف إلى اللجوء لدول الجوار، كما أغلقت أكثر من 300 مدرسة بسبب الهجمات.
أطاحت باريس بالرئيس ممادو طانجا في فبراير/شباط 2010، بعد أن تجرأ على إعادة التفاوض مع أريفا بشأن اليورانيوم
لم تتمكن السلطات في النيجر على مر السنوات الماضية من القضاء على الحركات المسلحة التي تهاجمها انطلاقًا من مالي في الغرب ونيجيريا في الجنوب الشرقي، وقد فاقم الفقر الذي تعيشه من صعوبة المهمة.
يمكن أن يُفهم موقف النيجر من مسألة العمليات المناهضة للإرهاب برغبة سلطات البلاد في استباق الأحداث واستباق تمدد الإرهاب إلى أراضي هذه الدولة الإفريقية بشكل أكبر، إذ لا يستطيع جيش النيجر التصدي لهذه الجماعات المسلحة بمفرده.
فكما قلنا تقع النيجر تحت أعين الجماعات الإرهابية، ويعلم الرئيس محمد بازوم ضرورة وجود دعم عسكري خارجي لبلاده حتى لا تسقط في أيدي هذه المجموعات المسلحة، فهو يخشى أن تتكرر تجربة مالي سنة 2012 في بلاده، كما أن وقوعها بين دولتين تخضعان لحكم عسكري (مالي من الغرب وتشاد من الشرق)، يزيد من مخاوف سلطات نيامي، ذلك أن هذه الأنظمة العسكرية لا يروق لها رؤية أنظمة “ديمقراطية” تُجاورها وستسعى حتمًا للإطاحة بها.
أهداف فرنسية
هذا لا ينفي وجود أهداف فرنسية مبطنة وراء سعيها لتحول قيادة عملياتها العسكرية في منطقة الساحل من مالي إلى النيجر، ذلك أن هذا البلد الإفريقي يحتل موقعًا خاصًا في إستراتيجية الأمن القومي الفرنسي منذ سنوات عديدة.
وتستحوذ شركة “أريفا” الفرنسية – التي تعمل في مجال الطاقة النووية واستخراج اليورانيوم وصنع المفاعلات النووية – منذ سبعينيات القرن الماضي على استخراج يورانيوم النيجر الذي يمد فرنسا بـ35% من احتياجاتها من الطاقة النووية التي تساهم بدورها في 75% من الطاقة الكهربائية الفرنسية.
وتحتل النيجر المركز الثاني عالميًا بعد كازاخستان في إنتاج اليورانيوم – المعدن النفيس الذي توجد مكامنه في نقاط قليلة ومتباعدة على مستوى العالم -، ومع ذلك فهي الدولة الأفقر والأكثر هشاشة على المستوى العالمي وفق معايير الأمم المتحدة، ما يعني وجود خلل كبير بين الإنتاج والبيع والجهات المستفيدة من الثروة.
سبق أن طالب الرئيس النيجري الأسبق حماني ديوري بزيادة حصة دولة النيجر من عائدات اليورانيوم التي تستخرجها الشركات الفرنسية من بلاده، إلا أن باريس دبرت ضده انقلابًا عسكريًا في أبريل/نيسان 1974 قاده الجنرال سيني كونتشي.
كما أطاحت باريس بالرئيس ممادو طانجا في فبراير/شباط 2010، بعد أن تجرأ على إعادة التفاوض مع أريفا بشأن اليورانيوم، وفتح الاستثمار أمام الشركات الأجنبية ومنح عدة تراخيص لشركات صينية وهندية وكندية.
تسعى فرنسا أيضًا للاستحواذ على النفط في النيجر، حيث تمتلك نيامي آبارًا ضخمةً من النفط، فضلًا عن الذهب الذي يعدّ أحد المواد المعدنية الموجودة بكثافة في النيجر، إلى جانب الأحجار الكريمة، وذلك حتى تقطع الطريق أمام باقي القوى الطامعة في ثرواتها.
ترى باريس في محمد بازوم الشخص المناسب لحماية مصالحها في النيجر، فهو الصديق المفضل للرئيس السابق محمد إيسوفو المهندس والإطار السابق في “أريفا النيجر”، لذلك ترى ضرورة دعمه بقوة للبقاء في السلطة لفترة أطول.