في إحدى ليال صيف 1941 قرر الزعيم النازي الألماني أدولف هتلر (1889- 1945) الهجوم على خاصرة الاتحاد السوفيتي الغربية، فقد أسالت لعابه الثروات التي تتمتع بها تلك المنطقة، وعلى رأسها الذهبان الأبيض (القمح) والأسود (النفط)، بجانب الموقع الجيوسياسي الذي يؤهل ألمانيا للإطاحة بالسوفييت وتوسعة رقعة النفوذ النازي في منطقة التماس الأبرز بين أوروبا وآسيا.
لم يراع الألمان الاتفاقيات التي أبرموها مع الاتحاد السوفييتي وقتها، التي كانت تتضمن عدم اعتداء أي من البلدين على الآخر، غير أن اللهث خلف النفوذ وجنون العظمة الذي كان يسيطر على زعيمي القوتين آنذاك، هتلر وجوزيف ستالين، دفع كليهما إلى الصدام رغم الحسابات الخاطئة التي وقع فيها الجنرالان ودفعا ثمنها باهظًا.
عرفت العملية العسكرية تلك باسم “بارباروسا” (نسبة إلى الإمبراطور الألماني فريدريك الأول بربروسا الذي تقول أسطورته إنه سيستيقظ من سباته وينقذ ألمانيا حينما تحتاجه) وتعد كبرى المعارك الضارية التي شهدتها الجبهة الشرقية خلال الحرب العالمية الثانية (1939 – 1945)، فشارك فيها قرابة 80% من جيش الفيرماخت الألماني، وبإجمالي 4.5 مليون جندي من قوات المحور (اليابان – إيطاليا – ألمانيا).
شهدت تلك المعركة واحدة من أكثر إستراتيجيات التطويق على مر التاريخ، حيث فرض الألمان كماشة عسكرية حول العاصمة الأوكرانية “كييف” لمدة عشرة أيام كاملة، أسفرت في النهاية عن مقتل قرابة نصف مليون روسي، فيما كان يتساقط من الألمان نحو 1600 جندي يوميًا.. فما تفاصيل تلك العملية التي أعادتها للذاكرة مرة أخرى الحرب الروسية الأوكرانية الحاليّة رغم مرور 81 عامًا عليها؟
حرب أيديولوجية
في كتابه “كفاحي” الذي ترجمه للعربية، لويس الحاج، يشير أدولف هتلر إلى نيته المسبقة غزو الاتحاد السوفيتي بدعوى تأمين المجال الحيوي لبلاده، مخبرًا قادة جيشه في 10 فبراير/شباط 1939 أي قبل العملية بعام واحد فقط بأن الحرب المقبلة ستكون بين الشعوب والأعراق.
المنطلقات الأولى للعملية العسكرية الألمانية ضد كييف والسوفييت عمومًا كانت أيديولوجية في المقام الأول، حرب عنصرية بامتياز، فقد كان النازيون يرون أن الشعوب التي تسكن الاتحاد السوفيتي هم شعوب أدنى من الآريين ويحكمها بلاشفة يهود متآمرون، حسبما صورت لهم الدعاية النازية في ذلك الوقت.
خطابات هتلر لقادة أفرع جيش الفيرماخت كانت تتمحور في معظمها حول هذا الأساس، الأحقية التاريخية لغزو الشرق نظرًا للفروق العرقية الهائلة بين الشعبين، الغربي والشرقي، وهي النظرة العنصرية الفجة التي ورطت الألمان قديمًا في الكثير من المستنقعات.
الكتاب الذي هو بمثابة سيرة ذاتيه للزعيم النازي، كشف سياسة هتلرية جديدة كانت تسمى “خطة الشرق العامة” وهي السياسة القائمة على قتل وترحيل الروس من بلادهم واستعباد السكان السلافيين وأن يحل محلهم الألمان، المعتمدة في سرديتها على أن الحرب المزمعة ستكون بين الاشتراكية الألمانية الزرقاء النقية من جانب، والبلشفية اليهودية والغجر والسلاف أبناء الطبقة الدونية من جانب آخر.
وقد فاحت رائحة تلك العنصرية النتنة من بين ثنايا عشرات القوانين التي فرضتها ألمانيا النازية على شعوب الشرق بصفة عامة، كمنع تزويجهم من ألمان والحيلولة دون التعامل معهم في الأسواق والبيع والشراء واعتبارهم خدمًا وعبيدًا لدى أبناء الجنس الأوروبي النقي.
خيانة العهود
نظرًا للسجل الكبير للبلدين في خيانة العهود والانقلاب على المواثيق لصالح أجندات توسعية على مدار عشرات العقود الماضية، فقد شهدت معركة بارباروسا حلقةً جديدةً من تلك الظاهرة التي خيمت على أجواء العلاقات بين الدولتين وأفقدتهما الثقة وأثارت الشكوك بينهما في نوايا كل طرف وجديته في الالتزام بالاتفاقيات المبرمة.
قبيل شهر واحد فقط من اندلاع الحرب العالمية الثانية في سبتمبر/أيلول 1939 وقع هتلر ممثلًا عن الألمان وستالين ممثلًا عن الاتحاد السوفيتي معاهدةً تتضمن عدم اعتداء أي طرف على الآخر لفترة زمنية قدرها 10 سنوات، كانت الاتفاقية محاولة لطمأنة كل دولة إزاء غدر الأخرى في ظل التموجات التي كانت تشهدها أجواء الحرب العالمية.
لكن في الأول من سبتمبر/أيلول من نفس العام فوجئ السوفييت بهجوم كاسح للألمان على بولندا، لكنها العملية التي لم تثر قلق الاتحاد السوفيتي بسبب نص المعاهدة المبرمة على تقسيم بولندا بينهما إلى قسمين، لكن الأوضاع سرعان ما تطورات على الساحة العسكرية بعيدًا عن السوفييت.
ففي الثالث من الشهر ذاته أعلنت كل من بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا بسبب هجومها على بولندا، لتبدأ الحرب العالمية الثانية بشكل رسمي، ونجح الألمان في تحقيق العديد من الانتصارات بداية الحرب على المسار الغربي، فسقط في أيديهم كل من هولندا وبلجيكا وفرنسا، وهو ما دفع هتلر لإعادة تموضعه العسكري متحولًا نحو الشرق حيث الذهب والنفط في كل من أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وبعدهما القوقاز، والموقع الإستراتيجي الذي يؤهله لفرض هيمنته على العالم.
تجييش غير مسبوق
أغرى التمدد الغربي وسقوط الكبار السريع الألمان نحو سرعة التمدد شرقًا لحسم المعركة مبكرًا، فكان التجييش العسكري الهائل على جبهة تمتد من بحر البلطيق شمالًا إلى البحر الأسود جنوبًا بخط طول يقترب من 3000 كيلومتر، بجيش جرار قوامه يتجاوز 3 ملايين مجند، ليبدأ الصدام رسميًا مع السوفييت.
شكل ستالين الجزء الشرقي من بولندا الذي كان تحت هيمنة الاتحاد السوفيتي كخط دفاع متقدم أمام التهديدات الغربية، حيث حصنه بقرابة 7 آلاف ثكنة عسكرية وأكثر من مئتي فرقة بجانب آلاف الدبابات والطائرات والمدرعات التي حشدها الزعيم السوفيتي لتدعيم عمقه الإستراتيجي.
وأمام تلك التشكيلات اضطر الجيش الألماني لإعادة تموضعه مرة أخرى، إذ كان يظن بداية الأمر أن المعركة أشبه بنزهة خلوية وأن السوفييت سيرفعون الراية البيضاء بعد الأنباء الواردة من المعسكر الغربي الذي سرعان ما تهاوى أمام جيش الفيرماخت العنيد.
وعليه وضع هتلر خطةً هجوميةً تعتمد على محاصرة المنطقة الشرقية البولندية برمتها، مقسمًا جيشه إلى ثلاث مجموعات عبر ثلاث جبهات مختلفة، الأولى شمالًا باتجاه بحر البلطيق الذي يضم لاتقيا وأستونيا ولتوانيا، والثانية جنوبًا حيث أوكرانيا وشبه جزيرة القرم، ومن المنتصف استهداف بيلاروسيا التي منها سيكون العبور نحو موسكو وهي المعركة الأخيرة التي يعد لها الألمان للإجهاز على الجيش السوفيتي الأحمر.
البدايات الأولى كانت لصالح الألمان، فقتلوا عشرات آلاف السوفييت وأسروا أضعافهم بجانب تكبيدهم خسائر فادحة في صفوف القوة العسكرية السوفيتية لا سيما سلاحي الطيران والدبابات، واستمر القتال المحتدم بين القوتين حتى نهاية يوليو/تموز 1941.
ميدانيًا، لم يعد بين الفيرماخت وموسكو إلا 350 كيلومترًا فقط، وباتت شارات النصر ترفرف على المدن الألمانية، لكن وبصورة مفاجئة ودون سابق إنذار أو مشاورات مع قادة الجيش، قرر هتلر تغيير بوصلة جيشه من موسكو وهي الهدف الأبرز إلى كييف، وبالفعل ما إن هل أغسطس/آب 1941 حتى كانت القوات الألمانية قد عبرت نهر الدنيبر الذي يقسم أوكرانيا شرقًا وغربًا، لتبدأ مرحلة الإعداد لاجتياح العاصمة.
تطويق كييف
بعد أن جيش هتلر قواته على مشارف كييف، اقترح قادة الجيش السوفيتي على ستالين الانسحاب التكتيكي من تلك المعركة والاستعداد للزود عن موسكو، بصفتها المعركة الأهم والفاصلة، خاصة بعد الخسائر التي تكبدها الجيش الأحمر الذي بات بحاجة لدعم صفوفه مقارنة بالجيش الألماني المجهز تمامًا لخوض تلك الموقعة.
لكن عناد ستالين وغروره منعه من الاستماع لقادة جيشه وكان من بينهم رئيس الأركان، المارشال زوكوف، الذي أجبر على تقديم استقالته فورًا، ليبدأ السوفييت مرحلة جديدة من الإعداد والاستعداد لمقاومة الألمان على حدود كييف التي بات النصيب الأكبر منها في قبضة جيش هتلر.
دارت المعارك بين الجيشين على مشارف العاصمة الأوكرانية قرابة شهر كامل، تبادلا معًا الانتصارات والهزائم، والاستيلاء على المواقع الإستراتيجية في عمق المدينة شرقها وغربها، وظلت الكفة متقاربة إلى شكل كبير بين القوتين رغم نزيف الخسائر في الأرواح من هنا وهناك.
لكن سرعان ما انقلبت الموازين بعد نجاح الجيش الألماني في تطويق كييف بصورة شبه كاملة، عبر إستراتيجية تدوير القوات والمجموعات، فالمجموعة التي كانت تتمركز في الوسط انتقلت إلى الجنوب لتهيمن على خاصرة المدينة الخلفية، بينما المجموعة الجنوبية تحركت شمالًا عبر رأس جسر دنيبر، وهي الإستراتيجية التي أرهقت الجيش الأحمر وكبدته خسائر فادحة.
ومع منتصف سبتمبر/أيلول 1941 لجأ هتلر إلى القصف الجوي لتدمير البنية التحتية الأوكرانية، مستغلًا حصار قواته وتطويقها لكل جنبات المدينة، كما نجح في دك القواعد العسكرية والتمركزات المسلحة للجيش السوفيتي، الذي بدأ يتهاوى يومًا تلو الآخر أمام عنف الألمان وقسوة هجماتهم.
بعد أكثر من 80 عامًا تواجه كييف المأساة ذاتها، حرب وتدمير واجتياح وحشي، بالأمس كان الألمان في مواجهة السوفييت واليوم الروس أمام أبناء المدينة وجهًا لوجه
وبعد قرابة عشرة أيام كاملة من المعارك المشتعلة بين الطرفين، هدأت الأوضاع مرحليًا بعد سيطرة الجيش الألماني بكامل قوته على كييف، وانسحاب القوات السوفيتية إلى موسكو، لتنكشف الأرقام والتقديرات عن الخسائر التي أسفرت عنها تلك المعركة الشرسة.
تشير التقديرات إلى أن الألمان أسروا أكثر من 660 ألف جندي سوفيتي، وقتلوا قرابة نصف مليون آخرين، بجانب السيطرة على أكثر من 3.5 قطعة مدفعية وقذيفة هاون، ومئات الدبابات والمدرعات، فيما خسر الألمان عشرات الآلاف وإن كانت روايات أخرى تشير إلى أنهم فقدوا أكثر من نصف قواتهم في تلك المعركة.
دفع النصر الكبير للألمان هتلر نحو تكرار السيناريو ذاته في موسكو، للقضاء على ما تبقى من الجيش الأحمر السوفيتي، لكن الأجواء لم تعد كما كانت عليه خلال معركة كييف، إذ فرض موسم الشتاء نفسه، وبدأت الثلوج تسد الطرق الرئيسية وتحول دون عبور الجسور، غير أن عناد الجنرال النازي دفعه لمواصلة السير غير مبال بالتطورات المستجدة التي كان لها دورها المؤثر في تبديل الكفة.
فشل الجنرال الألماني في اجتياح موسكو، وتعرض جيشه لخسائر فادحة، ليخسر هتلر الرهان على نجاح العملية بارباروسا رغم النجاحات والانتصارات التي حققها بداية المعركة، ليتذوق مرارة الهزيمة على أبواب موسكو، دافعًا ثمن عناده باهظًا للغاية كما دفعه من قبله ستالين حين رفض الانسحاب التكتيكي من كييف.
ها هو التاريخ يعيد نفسه، فبعد أكثر من 80 عامًا تواجه كييف المأساة ذاتها، حرب وتدمير واجتياح وحشي، بالأمس كان الألمان في مواجهة السوفييت واليوم الروس أمام أبناء المدينة وجهًا لوجه، ليدفع الشعب الأوكراني ضريبة موقعهم الجيوسياسي الذي جعلها مطمعًا وهدفًا لكل الأجندات الشرقية والغربية على حد سواء.