خلال إحياء الذكرى السنوية الأولى للثورة السورية، آذار 2012، رُفعت لافتة كُتب عليها “ثورتنا مستمرة ولو طالت عشر سنوات“، كانت هذه اللافتة مدعاة للتأمل والسخرية والتشاؤم في آن، وتثير مشاعر مختلطة ومربكة، إذ كانت الانتفاضة قد اجتاحت البلاد بقراها ومدنها، وخرج الملايين ضد نظام الأسد الذي بدا أنه يتهاوى أمام الشعب الثائر، وبدت الثورة قاب قوسين أو أدنى من تحقيق هدفها، بإسقاط نظام الأسد والبدء ببناء دولة ذات نظام عادل، ولذا كان رقم 10 سنوات المكتوب على اللافتة بعيدٌ جدًا، لا يمكن أن تبلغه ثورة جارفة، غير منطقي، وأشبه بكابوس.
باع الأسد بلدنا للاحتلالات التي استقدمها من كل صوب لينقذ كرسيّه المرصّع بجماجم السوريين، وطال أمد الثورة وتغيّرنا وتغيّرتْ، تغيّر كل شيء، وصرنا شعوبًا داخل وطننا بعد أن استحال أقاليم نفوذ، ولاجئين خارجه في أشتِيَة قريبة وبعيدة، نحمل الحلم إلى كل فج عميق.. ومرت السنين ثقالًا محملة بالأوجاع والأسئلة واللامبالاة، وباتت العبارة المكتوبة على اللافتة تأخذ طابعًا جديًا، وبتنا نسير في طريق طويلة من المراوحة العسكرية والسياسية، ودخلت الثورة في نفق طويل مظلم لا يرى له آخر.. واليوم، يستنهض السوريون أنفسهم وهممهم مع ذكراها الحادية عشر.
يواصل السوريون، في مناطق تواجدهم في الداخل والخارج، إحياء الثورة في قلوبهم وفي الحيز العام، في الميادين والإعلام وشبكات التواصل. ذلك التدفق من المعنى الذي جرى في عروقهم وسرى في وجدانهم في 2011، ما يزال خفاقًا ساخنًا، لم يخمده خذلان ولا تجاهل ولا تآمر.
على أن أسئلة جدوى الاحتفاء بالذكرى ومعنى تكراره كل عام، وشكل ذلك الاحتفاء، تزن في الخاطر كل حين.
ماذا حققنا خلال السنوات الماضية؟ وهل نستطيع البناء عليها؟ وما الجدوى من الاستمرار في ظل تعقد الأمور إلى حد أصبح فيه أشد المستبصرين أكثرنا حيرة؟ وبات نشاطنا على هيئة حملات خيرية لأهل الخيام ودعوات للمصالحة بين الفصائل والتغريد تضامنًا مع المعتقلين؟
لأجل هذا، تحدثتُ مع عدد من رفاق الثورة ونشطائها المحبوبين، في محاولة للإجابة على هذه الأسئلة معًا، واستشراف الدرب وفتح النقاش.
جدوى الاستمرارية
في الحقيقة إن سؤال الجدوى مربك دائمًا، وليس فيما يتعلق بالثورة السورية فقط، أعتقد أن الذين ما زالوا يؤمنون بالضرورة الثورية يجيبون عن سؤال معاكس: جدوى التراجع لا الاستمرار، وهنا يقول الشاعر السوري، محمود الطويل، في تعليقه لـ”نون بوست”: “الإجابة فاقعة: (لا جدوى من التراجع)، وبواقعية محضة فإن كثيرًا من المكتسبات التي تحققت لا ينفع معها التراجع، وعدم التراجع هو الذي جعلها مكتسبةً حتى الآن، ومنها: تأزم نظام الأسد المستمر سياسيًّا واقتصاديًا، داخليًا وخارجيًا، ومعظم حلفائه أيضًا”.
ويضيف: “من الواقعية أن ندرك الطبيعة المختلفة لكل مرحلة من مراحل الثورة، والآن نحن في مرحلة مختلفة تمامًا عن الأعوام السابقة ويجب أن نتعامل معها بمعطياتها، مرحلة صناعة النموذج الذي نقول فيه للعالم: “هذا ما نريد”، ومرحلة عدم التراجع برغم كل المآسي والصعوبات، لأن أي خطوة للوراء في طريق التحرر سندفع ثمنها سنوات قادمة للتقدم نصف خطوة مرة أخرى، وكل هذا لا يعني بالمطلق أن اليأس ليس حقيقيًا وأن الابتعاد ليس مباحًا”.
“مما لا شك فيه أن ثورتنا وصلت لوضع معقد وصعب على كل الأصعدة السياسية والعسكرية والاجتماعية والإنسانية، لكن الحديث عن استمرارية الثورة واجب علينا جميعًا لأن الثورة بحقيقتها مستمرة”، بحسب رأي الناشط السوري، محمد همار، عضو المجلس المحلي في مدينة داريا سابقًا.
ويضيف همار خلال حديثه لـ”نون بوست”: “طالما توجد مناطق خارجة عن سيطرة نظام الأسد وطالما أن هناك الكثير من الشعب السوري ما زال يطالب بإسقاط النظام فهذا يعني أن الثورة مستمرة”، وينوّه همار إلى الكثير من الذين يمثلون الثورة بشقيها السياسي والعسكري “قد حادوا عن طريقها ومشروعها الوطني وهنا تكمن جدوى الحديث عن استمرارية الثورة لتعيدها لطريقها الصحيح من أجل العمل على تغيير النظام وإنهاء معاناة الشعب السوري سواء في الداخل في المناطق المحررة والمناطق التي ما زالت خاضعة لسيطرة الأسد أم حتى في بلدان المهجر”.
الباحث المساعد في مركز عمران للدراسات، يمان زباد، يضيف إلى ما سبق: “استمرارية فكرة الثورة لدى السوريين تأتي من عدم تحقق مطالب ثورة 2011 وفي محاولة منهم لجعل الحراك الشعبي الثوري هو البوصلة لأي كيان أو مسار، رغم فقدان هذا الحراك لأدواته في عدة مستويات، سواء على صعيد محاسبة المفسدين سياسيًا أم عسكريًا أم اجتماعيًا، وأيضًا عدم تشكّل رؤية سياسية بديلة عن الأجسام والمسارات السياسية المشوهة التي توجد باسم المعارضة”.
بدوره يرى الناشط السوري عبد الله الحافي أن “خيار استمرار الثورة ليس ضربًا من ضروب الرفاهية. الذي يحصل هذه الأيام أننا في منتصف الأمر إذا خرجنا منه سنموت ولهذا نحن مجبورون على الإكمال”، ويشير خلال حديثه لـ”نون بوست” إلى أن “استمرارية الثورة أصبحت قدرًا بالنسبة للكثير من السوريين، والموضع غير متعلق بأفراد أو تجمعات، إنما هو مرتبط بمصير جمعي للخارجين عن سلطة النظام”.
الصحفي السوري، فراس ديبة، يوضح في هذا السياق: “استمرارية الثورة هي أمر واقع وليست خيارًا، لأن الثورة في جوهرها قضية تحرر واضحة المطالب المحقة والضرورية لاستمرار سوريا كدولة، وقد تتنوع أشكال التعبير عن استمرارية الثورة، وقد تكون بعض هذه الأشكال في ظاهرها غير ثورية بالمفهوم الثوري الكلاسيكي، لكنها في عمقها تتقاطع مع مطالب الثورة”.
هل من أهداف تحققت؟
صحيح أن الهزائم تكررت خلال مسيرة الثورة السورية، لكن ذلك لم يمنع من تحقق الكثير من الأهداف بالفعل، كما لا يمنع تحقيق أخرى مستقبلًا، فمثل هذه الثورات لا تؤتي أكلها آنيًا أو على عجل، ولك أن ترى الثورات السابقة مثل الفرنسية، حيث كانت أهدافها تتحقق بوتيرة بطيئة عامًا إثر عام.
في هذا السياق يقول محمود الطويل: “سنكون مخطئين إذا اعتقدنا أن هدف الثورة بالحرية وإسقاط النظام يتحقق بمرحلة واحدة ومشوار واحد وضربة واحدة، المراحل كثيرة جدًا وكلما زادت أخطاؤنا بالسلوك أو بالتوقعات زادت مراحلنا”.
يكمل الطويل كلامه عن الأهداف التي تحققت خلال السنوات الماضية، قائلًا: “حققت السنوات السابقة عدة أهداف تؤدي في نهايتها إذا ما استفدنا منها إلى الهدف الأكبر، ومن ذلك: عزلة النظام بكل معانيها وتجلياتها التي حافظنا عليها حتى الآن، وتقديم رواية اجتماعية سياسية جديدة عما حدث في سوريا منذ الستينيات حتى وقتنا الحاليّ، وخروج مناطق كثيرة سابقًا وحاليًّا عن سيطرة النظام، ما أدى إلى خوض السوريين تجربة – ولو كانت غير مكتملة – في ممارسة الحكم والإدارة، وإن كانت أيضًا ضمن نطاقات ضيقة”.
ويتابع الطويل: “وفوق كل ذلك، فمن كان يتخيل أو يتوقع أن هناك ملايين من السوريين ـ ثوريين أو غير ثوريين ـ صاروا قادرين على انتقاد النظام والتهكم على كل آل الأسد ومن في حكمهم؟. هذا مكسب هائل لا يمكن تجاهله بتاتًا، فهو لا يعني فقط آل الأسد بل هو يعني صفًا كاملًا من الدومينو”.
بدوره يرى يمان زباد أن من أهم الأهداف التي تشكلت خلال الأعوام الماضية هي “وجود كيانات تعوِّض غياب الدولة القوية على صعيد الخدمات أو على صعيد التنظيم المجتمعي وهذا لم يكن ظاهرًا في سنوات الثورة بين الأعوام 2012- 2018، حيث اتجه عدد من السوريين بعدها لإيجاد حلول تعوِّض ترهل الأجسام المعارضة، مثل ظهور محاولات تشكيل أحزاب سياسية واتحادات ومنظمات مجتمع مدني محلية تُنافس المنظمات العالمية في خدماتها من حيث النوعية أو تغطية الاحتياجات، وإذا اعتبرنا أن نظام الأسد هو مجموعة تفاصيل وكيانات فإنه يتوجب على أبناء الثورة تشكيل كيانات موازية تسحب الشرعية بالتتالي من مؤسسات الأسد لأن مجريات السنين الماضية توضِّح أنه من الصعوبة أن يُحارب الأسد باعتباره كتلة صلبة واحدة”.
أول الأهداف التي تحققت هي “كسر حاجز الخوف لدى الشعب السوري مع صرخات الحرية الأولى وهذا بحد ذاته هدف عظيم بالنظر إلى ما كانت تعيشه سوريا من قمع واضطهاد وإجرام”، هذا ما يراه الناشط محمد همار الذي أشار إلى أن الثورة “عرت النظام السوري وجردته من أكبر خدعة والمتمثلة بكونه محور المقاومة على حد زعمه”.
ويضيف همار أن أهم الأهداف هو “النجاح بتدويل القضية السورية حتى أصبحت أحد الملفات الأساسية في المحافل الدولية، وذلك عكس ما حدث في أثناء الثمانينيات حين كانت السلطة السورية تقول إن ما يحدث هو شأن داخلي بحت”.
بالنظر إلى ما سبق، ينوّه إلى أنه “يجب العمل على إصلاح المؤسسات الثورية السياسية والعسكرية لكي تستطيع استغلال ما تحقق من أهداف والإكمال لتحقيق غايات ومساعي أخرى للشعب السوري”.
“لا نريد أن نرفع سقف التفاؤل وندعي تحقيق الكثير من المطالب، لكن توجد عدة أمور يمكن البناء عليها” وفقًا للناشط السوري، عبد الله الحافي، مضيفًا “أهم مطلب حققناه خلال السنوات الماضية، هو كسر الصنم الذي حاول النظام زرعه فينا وهو صنم الخوف والتبعية وإقناعنا بقدرتنا على عدم الإنجاز والاستمرارية، وهذا المطلب حققناه واستطعنا صنع شيء حقيقي من أنقاضه”.
يدلي الصحفي فراس ديبة برأي جديد وربما هو طرح يحتاج إلى تفسيرات أكثر، فهو يرى أن “الثورة في السنوات الماضية حققت أهدافًا عدة، على سبيل المثال وعلى الرغم من أن الأمر لا يتعدى كونه مشهد تمثيلي مسرحي، فإن النظام بات يجري انتخابات رئاسية وهذه العملية لم تكن ممكنة لولا الثورة، ويضاف إلى ذلك، إزالة المادة الثامنة من الدستور التي تنص على أن حزب البعث هو قائد الدولة والمجتمع” وهنا يقصد ديبة أن الثورة غيرت حتى النظام الذي لا يعترف بها أبدًا.
كما يركز ديبة على أن “ثمة حالة وطنية تفجرت لدى السوريين الذين باتوا يفتخرون بالانتماء لبلدهم إن كان من أهل الثورة أو من شبيحة النظام”، فيرى أن الاهتمام بالمفهوم الوطني من أتباع النظام حتى لو كانت نظرتهم خاطئة هو إنجاز للثورة”، ويضيف “من الضروري جدًا البناء على ما تم إنجازه وما حققته الثورة السورية، وهو تعزيز حالة الانتماء لسوريا وتعزيز فكرة أن مشكلة سوريا هي في استمرارية هذا النظام وكل ما تمثله من مشاكل للشعب كاملًا، والتركيز على بنية النظام الفاسدة التي تعتبر إحدى أدوات الحكم بالنسبة للنظام”.
هل بات إحياء الذكرى لمجرد الذكرى؟
قد يرى البعض أنه لا طائل من المظاهرات الاحتفالية التي تخرج في كل ذكرى لأن الواقع يتطلب أكثر من تهليلات واحتفالات وهتافات، وذلك مثلما قال أحد الكتّاب السوريين: “إذا صرخت “كش ملك” مئة عام.. ولم تحرّك أحجارك بشكل مدروس لن يسقط الملك! الثورة خطوات وتكتيك لا صرخات وعاطفة!”.
تعليقًا على هذه الزاوية، يقول محمود الطويل: “من حيث المبدأ لا يمكن الحجر على إرادة الأشخاص أو نيّاتهم. لدى الجميع الحق في الاحتفال بذكرى الثورة، أي الاحتفال باليوم الذي سمع فيه صوته للمرة الأولى، وعلى أمل أن يبقى يسمع صوته أعلى، ومن الضروري أن يكون معروفًا لدينا أن التظاهر والتجمهر والتحشيد والمناصرة أساليب احتجاج ما زلنا بحاجتها في هذه المرحلة كما احتجناها سابقًا وسنحتاجها لاحقًا”.
أما إذا كان الاحتفال بذكرى الثورة مقتصرًا على الهتافات والأناشيد، فبالتأكيد ستتحول ذكرى الثورة إلى مناسبة رمزية كغيرها من تواريخ شعوب المنطقة العربية كما يقول يمان زباد، مضيفًا “لكن في حال كان هناك مراجعات في ذكرى الثورة وتصوُّرات للمرحلة القادمة حينها يصبح هناك إحياء للثورة بحد ذاتها وليس فقط لذكراها، وهذا ظهر بشكل بسيط هذا العام مقارنة بالسنوات السابقة، فنجد أن هناك تنظيم جهود وتنسيقًا جيدًا لإحياء ذكرى الثورة بالتوازي مع إشراك فئة الشباب الذين لم يشهدوا بدايات الثورة لأنهم كانوا أطفالًا في بداياتها، وهذا ينقل الذاكرة التاريخية بين الأجيال ويضيف للثورة جيل شاب جديد يملك أدوات لم تكن لدى الثوار الأوائل مثل العلاقات الواسعة في الغربة وتعدد اللغات في إيصال القضية وعدم دخولهم في معارك تاريخية بين الجماعات تؤدي في أغلب الوقت إلى تشتيت الجهود وضياع القضية”.
بدوره يقول محمد همار: “لا شك أن الاحتفال بذكرى انطلاقة الثورة أمر بالغ الأهمية كونه يمثل بداية العهد الجديد لسوريا، لكن الأهم من الاحتفال بهذا اليوم كذكرى هو الاحتفال والتعاهد على المضي قدمًا فيما خرجنا لأجله وقدمنا في سبيله الغالي والرخيص حتى أصبح الشعب السوري مضرب المثل بصموده وتضحياته في وجه جيش مجرم تحالف مع شذاذ الآفاق لقتل السوريين وقمع انتفاضتهم”، ويرى همار أن “الثورة السورية بحاجة لثورة جديدة على المؤسسات والهيئات والفصائل العسكرية التي فرطت بتضحيات الشعب السوري وبشهدائه ومعتقليه ولم تكن على قدر المسؤولية”.
وكما أسلفنا فقد خرجت العديد من المظاهرات التي تحيي ذكرى الثورة، ويعتبر الناشط عبد الله الحافي أحد المنظمين لها، وفي سياق الحديث عن الغاية المنشودة من هذه الفعاليات يقول: “الغاية الرئيسية من الاحتفال، هي تذكير أنفسنا وتذكير العالم أنه ما زال هناك ثورة، وأرى بأن المظاهرات هي إعادة حقيقية لسلطة الشارع ولصوت الناس، على الرغم الترهل بالهيئات والأجسام السياسية تبقى المظاهرات هي صوت الشارع وهي تذكير لأنفسنا بأهمية الحاضنة الشعبية وتذكير الحاضنة الشعبية بالاستمرار نحو تحقيق الهدف”.
الفعل مستمر طالما السبب موجود، وهو ما يتمثل باستمرارية الثورة طالما أن السبب الأبرز لانطلاقها ما زال موجودًا وهو النظام السوري، ومهما كانت الأدوات ومهما طال الزمن، فإن الثورات لا تقاس بالأعوام والسنين بل تُقاس بالإنجازات وتحقيق الأهداف، ولعلني هنا اقتبس “الثورات تموت في القلوب.. قبل أن تموت في الساحات، فالزَموا ثوراتكم”.