في خمسينيات القرن الماضي، تصاعدت المقاومة المسلحة الجزائرية ضد المستعمر الفرنسي مخلفة خسائر كبرى في صفوفه، ما اضطره للرضوخ لمبدأ التفاوض مع الجزائريين، توجت تلك المفاوضات بما يُعرف بـ”اتفاقيات إيفيان” التي أنهت الاستعمار.
حرب التحرير
مارست فرنسا خلال عقود احتلالها الطويلة للجزائر أبشع الجرائم في حق الجزائريين، فعملت على إيقاف النمو الحضاري والمجتمعي للبلاد وحاولت طمس هوية شعبها الوطنية ونشر الثقافة واللغة الفرنسية، وجندت آلاف الجزائريين للحرب في صفوف قواتها، كما قتلت مئات الآلاف منهم ودمرت قرى ومدن وشرّدت الملايين.
مثل انهيار فرنسا السريع أمام ألمانيا خلال الحرب العالمية الثانية حدثًا فارقًا في التاريخ العربي، فتقدم الجزائريون بطلب حق تقرير المصير إلا أن الطلب قُوبل بالرفض، ليس هذا فقط بل أقدمت فرنسا على ارتكاب مجزرة يوم 8 مايو/أيار 1945 وسقط قرابة 45 ألف شهيد، وحينها أدرك الشعب الجزائري ألا سبيل لتحقيق أهدافهم إلا العمل المسلح، فبدأ التحضير مباشرة للثورة والقتال من خلال جمع السلاح وإعداد الخلايا الثورية.
في بداية الخمسينيات، انتشرت موجة التحرير في شمال إفريقيا إذ عرفت بداية سنة 1952 الثورة التونسية وفي نفس السنة انطلقت ثورة مصر وبعدها بسنة بدأت الثورة في المغرب، ما شجع الجزائريين على التسريع في انطلاق ثورتهم.
دفع فشل فكرة الإدماج، سوستال إلى تفعيل قانون الطوارئ، مستعينًا بضباط سامين من ذوي الخبرة في حرب العصابات
تم إنشاء جبهة التحرير الوطني وجناحها العسكري المتمثل في جيش التحرير الوطني، ويوم 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1954 انطلقت ثورة التحرير الجزائرية بمشاركة نحو 1200 مجاهد كان بحوزتهم 400 قطعة سلاح وبضع قنابل تقليدية.
سارعت حكومة منداز فرانس إلى سجن كثير من الجزائريين لإحباط الثورة إلا أنها فشلت في ذلك، إذ استمرت الثورة بهدف استقلال الجزائر واسترجاع السيادة الوطنية، واستخدم الثوار حرب العصابات بصفتها الوسيلة الأكثر ملاءمة لمحاربة قوة جرَّارة مجهزة أكبر تجهيز.
اضطرت سلطات المستعمر الفرنسي إلى تعيين حاكم جديد لها في الجزائر، ووقع اختيارها على جاك سوستال القائد العسكري المحنك في السياسة والخبير في المجتمعات البدائية، الذي طبق فكرة الإدماج السياسي والإداري للقضاء على ثورة الجزائريين، لكنه فشل في ذلك.
دفع فشل فكرة الإدماج، سوستال إلى تفعيل قانون الطوارئ، مستعينًا بضباط سامين من ذوي الخبرة في حرب العصابات للحد من روح المقاومة، فنفذ هجمات مكثفة على الشرق الجزائري واتخذ تدابير تعسفية، كما ارتكب كل أنواع القمع مثل القتل الجماعي والذبح والحرق والسلب والنهب والقصف، مع ذلك واصل الثوار ثورتهم وأعينهم نصب الاستقلال.
رضوخ فرنسا
تكبدت فرنسا الاستعمارية خلال حرب التحرير الجزائرية خسائر كبيرة، في الجانب العسكري والاقتصادي والمالي، ما زاد الضغط العام على حكومة باريس خاصة من الفرنسيين الذين لم يستفيقوا بعد من مخلفات الحرب العالمية الثانية.
اقتنع الفرنسيون بعدم جدوى الخيار العسكري لمواجهة الثورة الجزائرية، واستغلوا حرص جبهة التحرير الجزائرية على إبقاء باب الاتصالات مفتوحًا، فبادروا بالاتصالات السرية لجس النبض وضرب الثورة من الداخل.
بدأت الاتصالات السرية سنة 1956 وتواصلت حتى عام 1959 دون أن تحقق أي تقدم في ظل عدم جدية الجانب الفرنسي، وفي الأثناء تمكن الجزائريون من تدويل قضيتهم وفرضها في المحافل الدولية وإقناع العالم بأن ثورتهم إرادة شعب وليست تمردًا كما تدعي فرنسا الاستعمارية.
نشطت بعثات جبهة التحرير الوطني في الخارج على جميع الأصعدة، وهو ما أجبر حكومة ديغول على العودة إلى طاولة المفاوضات
يوم 16 سبتمبر/أيلول 1959 اعترف الرئيس الفرنسي شارل ديغول بحق الجزائريين في تقرير المصير، وعرض يوم 10 نوفمبر/تشرين الثاني من السنة نفسها على قادة ثورة التحرير الوطني الدخول في مفاوضات لبحث شروط إيقاف القتال وإنهاء المعارك.
يوم 14 يونيو/حزيران 1960، أعلن ديغول استعداده لاستقبال وفد من قادة الثورة في باريس، بعدها بـ11 يومًا بدأت المفاوضات في مدينة مولان الفرنسية، إلا أنها لم تتواصل أكثر من أربعة أيام، فباءت بالفشل بعد أن تبين للطرف الجزائري سعي فرنسا لفرض رؤيتها، فالغاية كانت وقف إطلاق النار لا أكثر.
في أثناء زيارة شارل ديغول للجزائر يوم 9 ديسمبر/كانون الأول 1960، خرجت مظاهرات شعبية كبيرة مناهضة للاستعمار وعمت المظاهرات مدن جزائرية عديدة، ما أكد لحمة الجزائريين والتفافهم حول المقاومة المسلحة، كما صعّد جيش التحرير كفاحه.
في الأثناء، نشطت بعثات جبهة التحرير الوطني في الخارج على جميع الأصعدة، ما أجبر حكومة ديغول على العودة إلى طاولة المفاوضات، وتجددت اللقاءات بين الوفد الجزائري والفرنسي بمساعي سويسرية في لوكارنو ونوشاتيل (سويسرا).
مفاوضات إيفيان
عقب هذه المفاوضات التي احتضنتها مدن سويسرية تقرر إجراء مفاوضات جديدة في مدينة إيفيان على الحدود الفرنسية السويسرية يوم 7 أبريل/نيسان 1961، لكن الموعد تأجل إلى 20 مايو/أيار 1961 نظرًا لاغتيال رئيس بلدية إيفيان وممارسات المنادين بـ”الجزائر الفرنسية” ومحاولة اغتيال ديغول.
بداية من 20 مايو/أيار 1961 بدأت المفاوضات رسميًا في مدينة إيفيان، وترأس الوفد الجزائري كريم بلقاسم، بينما ترأس الوفد الفرنسي لويس جوكس، ولم تدم الجولة الأولى من المفاوضات أكثر من شهر، ففي 13 يونيو/حزيران 1961 تعطلت بسبب سعي الجانب الفرنسي لفرض شروط لم يقبلها الجزائريون، مثل تجريد جيش التحرير الوطني من السلاح والحفاظ على امتيازات المستوطنين الأوروبيين وفصل الصحراء بعد اكتشاف البترول بها وفرض الجنسية المزدوجة للفرنسيين الجزائريين.
أنهت اتفاقيات إيفيان استعمار فرنسا للجزائر الذي امتد 132 سنة، لكنها سمحت باستمرار فرنسا في إجراء التجارب النووية بالصحراء
بعد ذلك استؤنفت المحادثات الثنائية غير الرسمية في لوغران لكن دون جدوى، في ظل تمسك الفرنسيين باستهداف الوحدة الترابية للجزائر وتأليب دول الجوار ضدها، وفي يوم 5 سبتمبر/أيلول 1961 اعترف ديغول بسيادة الجزائر على صحرائها.
استؤنفت المفاوضات مجددًا نهاية أكتوبر/تشرين الأول 1961 في مدينة بال السويسرية وفي مدينة لي روس الفرنسية لدراسة النقاط الأساسية ومناقشة قضايا التعاون وحفظ النظام في أثناء المرحلة الانتقالية ومسألة العفو الشامل.
التقى الوفدان الجزائري والفرنسي في جولة مفاوضات جديدة خلال الفترة بين 7 و18 مارس/آذار 1962، توّجت بإعلان توقيع اتفاقيات إيفيان وإقرار وقف إطلاق النار وإقرار مرحلة انتقالية وإجراء استفتاء تقرير المصير.
الاستفتاء والاستقلال
ضمن بنود اتفاقيات إيفيان التي تم توقيعها يوم 18 مارس/آذار 1962، تم إقرار اعتراف فرنسا الاستعمارية بوحدة الأراضي الجزائرية، وإجراء استفتاء يقرر فيه الشعب الجزائري مصيره في غضون مدة لا تزيد على ستة أشهر من توقيع الاتفاقية.
جرى استفتاء تقرير المصير في الأول من يوليو/تموز 1962، وقد حُدد تكوين الناخبين بشكل رئيسي بموجب مرسوم صدر في 19 مارس/آذار 1962، ويشمل المواطنين المقيمين في الجزائر والمواطنين المسجلين في قائمة انتخابية في الجزائر المقيمين خارج الإقليم، فضلًا عن بعض المواطنين المولودين في الجزائر والمقيمين في فرنسا الحضرية أو في الخارج.
يُجيب الناخبون في الاستفتاء عن سؤال واحد بـ”نعم” أو “لا” والسؤال المطروح هو: “هل تريد أن تصبح الجزائر دولةً مستقلةً مُتعاونةً مع فرنسا حسب الشروط المقررة في تصريحات 19 مارس 1962؟” وفي اليوم التالي، تم الإعلان عن النتائج.
صوّت 97.5% من المشاركين لتأييد الاستقلال، وفي 3 يوليو/تموز أعلن الرئيس الفرنسي شارل ديغول الاعتراف باستقلال الجزائر، غير أن جبهة التحرير أقرت 5 يوليو/تموز يومًا للاستقلال لتزامن تاريخ المعاهدة مع استسلام داي حسين في سنة 1830.
أنهت اتفاقيات إيفيان استعمار فرنسا للجزائر الذي امتد 132 سنة، لكنها سمحت باستمرار فرنسا في إجراء التجارب النووية في الصحراء حتى عام 1966 والتجارب البيولوجية إلى عام 1978، ومنحت الشركات الفرنسية الحق في استغلال ثروات البلاد.